ماركس والعولمة

ماركس والعولمة

د. ناجح العبيدي

عندما ولد كارل ماكس قبل 200 عام في مدينة ترير الألمانية، كانت أوروبا تشهد موجة هجرة إلى العالم الجديد أميركا وغيره. ومع وفاته في عام 1883، أنهى الفيلسوف وعالم الاقتصاد واللاجئ نحو 30 عاماً من الحياة في المنافي بدون جنسية. معظم تلك السنين قضاها الثوري الشهير في لندن، أهم معاقل النظام الرأسمالي حينها وعاصمة الإمبراطورية التي"لا تغيب عنها الشمس"الأمر الذي ساعده في صياغة نقده الشامل للرأسمالية والانتباه مبكراً إلى أن رأس المال في سعيه الدائم لتحسين شروط استثماره لا يعترف عملياً بأي حدود وطنية أو جغرافية. لم يستخدم ناقد الرأسمالية الأبرز مصطلح"العولمة"، ولكنه – بعكس الكثير من تلامذته اليوم - لم يتخذ موقفاً رافضاً لإضفاء طابع عالمي على علاقات الإنتاج الرأسمالية، وإنما رأى فيها عاملاً يصب في الإسراع بتحقيق تنبؤه بانهيار هذا النظام.
في منشورهما السياسي،"البيان الشيوعي"، تحدث ماركس ورفيق دربه فريدريك انجلز بلغة بليغة تميل لمخاطبة عواطف القارئ عن البرجوازية التي لن تكتفي بتطوير الانتاج الحرفي إلى الصناعة الكبيرة على المستوى الوطني فحسب، وإنما هي مجبرة بحسب قوانينها الداخلية على تجاوز الحدود وتدمير كل ما يقف بوجه طريقها نحو التوسع. ينطلق البيان الشيوعي من أن حاجة الرأسمالية لأسواق أوسع"تسوقها إلى كل أرجاء الكرة الأرضية". وبفضل تثوير أدوات الانتاج وتطور وسائل المواصلات"تشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفاً إلى الحضارة.... وتُجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. و بكلمة هي تخلق عالماً على صورته". من أجل تحسين شروط استثمار رأس المال وتحقيق المزيد من الأرباح، الهم الأول للرأسماليين، تستخدم البرجوازية سلاحاً فتاكاً لا يقاوم، هو المنافسة لأن"الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها، وتـُرغم البرابرة الأكثر حقداً وتعنتاً تجاه الأجانب على الاستسلام".
لم يعش ماركس لكي يشهد أن أحفاد هؤلاء"البرابرة"يستخدمون نفس السلاح لرد الصاع صاعين، ولم يدرك أن استعارته الأدبية للسور الصيني في البيان الشيوعي ستتحقق، ولكن بطريقة معاكسة. ها هي الصين - وللمفارقة هي أحد المعاقل القليلة المتبقية التي لا تزال ترفع راية الماركسية - تنجح بواسطة سلاح الأسعار الرخيصة في اجتياح معاقل الرأسمالية في أوروبا وأميركا وإغراق أسواقها بسلع يصعب منافستها، وأدت إلى تدمير قطاعات صناعية بأكملها. المثال الصيني يشير إلى أن ماركس فهم العولمة حينها على أنها طريق ذات اتجاه واحد يسير من المركز إلى الأطرف، بينما أثّبت"ورثة"ماركس في الحزب الشيوعي الصيني بأنها تنطوي على فرصة، ليس فقط للبلدان الصناعية المتقدمة، وإنما أيضاً للدول الناشئة.
بعيداً عن الأسلوب العاطفي المؤثر للبيان الشيوعي تطرق ماركس في كتابه"رأس المال"بلغة علمية جافة عن دور التجارة العالمية في انتشار أسلوب الانتاج الرأسمالي حول الكرة الأرضية. كما أشار إلى استغلال المستعمرات ونهب ثرواتها في إطار التراكم الأولي لرأس المال. غير انه اتخذ عموماً موقفاً إيجابياً إزاء تغلل علاقات الإنتاج الرأسمالية في المستعمرات ودورها في في تفكيك العلاقات التقليدية البالية والسائدة في إطار ما دعاه بأسلوب الإنتاج الآسوي. لم ينطلق ماركس هنا من هيامه بالاستغلال الرأسمالي، وإنما من الدور الثوري للبرجوازية في تحطيم البنى القديمة وبما يمهد الطريق لاحقاً لتحقيق تنبؤاته بقيام الاشتراكية. مثل هذا الموقف عبر عنه أيضاً في"خطاب حول قضية التجارة الحرة"ألقاه في بروكسل في عام 1948حيث لخص حينها الجدل الدائر حول قانون إلغاء الرسوم الجمركية على واردات الحبوب إلى بريطانيا. هنا يصف نظام الجمارك الحمائية بـ"الرجعي"، بينما يبدي تأييده للتجارة الحرة لأنها تعمل على"تآكل القوميات الحالية وتصل بالصراع بين البروليتاريا والبرجوازية إلى أقصى مداه"أي إنها"تُعجل بالثورة الاجتماعية". بكلمات أخرى رأى ماركس في عولمة الاقتصاد عاملاً يُسرع بنهاية الرأسمالية.
هذه الفكرة طورها ماركس في المجلد الثالث لكتابه"رأس المال"الذي حاول فيه أن يثبت حتمية أفول أسلوب الانتاج الرأسمالي نتيجة تناقضاته وقوانينه الداخلية. لم يؤكد ناقد الرأسمالية الكبير على أن العمل الإنساني هو أصل القيمة والثروة فحسب، وإنما بنى كل نظريته على فرضية أن العمل الحي هو المصدر الوحيد لفائض القيمة الذي تستأثر به البرجوازية على شكل أرباح. وعلى خلفية احتدام المنافسة والتطور العلمي والتقني يجد الرأسماليون أنفسهم مجبرين على رفع إنتاجية العمل من خلال استخدام المزيد من المواد الخام والآلات (أو ما يدعوه ماركس برأس المال الدائم)، بينما يتم في نفس الوقت الاستغناء عن الأيدي العاملة، الأمر الذي يعني تناقص نسبة العمل الحي والأجور، أي رأس المال المتغيّر، وهو الجزء الوحيد القادر على إنتاج فائض القيمة بحسب المفهوم الماركسي. اعتماداً على هذا التحليل صاغ ماركس قانونه الشهير عن"ميل معدل الأرباح للتراجع"الذي يُشكل الأساس لنظريته عن النهاية الحتمية للرأسمالية. وفقاً لهذه الفرضية يدفع انخفاض معدل الأرباح على المدى الطويل الطبقة البرجوازية لاتخاذ إجراءات مضادة. وإذا كانت هذه الإجراءات تنجح في إبطاء وتخفيف مفعول هذا"القانون"، فإنها تخفق في حل هذا التناقض، بل وتعيد إنتاجه على مستوى أعلى. أهم هذه الوسائل الواردة في كتاب"رأس مال"هي إطالة وقت العمل وتكثيف وتيرته وتخفيض الأجور واستغلال فائض السكان النسبي وكذلك توسيع التجارة الخارجية. وهي كلها عوامل كانت مألوفة بهذا الشكل أو ذاك أثناء مرحلة الثورة الصناعية التي تركت بصماتها بوضوح على أفكار ماركس، ولكن يصعب تعميمها على جميع المراحل.
ما يبدو منطقياً في فرضية ميل معدل الأرباح للتراجع، يمكن أن ينهار تماماً إذا لم يتم إثبات أن العمل الحي هو المصدر الوحيد لفائض القيمة (الأرباح). فمن الواضح أن أرباح الشركات تعتمد على عوامل عديدة، في مقدمتها روح الابتكار والتقدم التقني وأوضاع السوق والمنافسة، وليس على القوى العاملة فقط. كما إن القول بارتفاع دور الأصول الثابتة كالآلات والمعدات كان صحيحاً تماماً اثناء الثورة الصناعية، بينما أفرزت الثورة الرقمية الحالية أشكالاً جديدة في العملية الإنتاجية لم يكن ماركس قادراً حتى على تصورها.
في الوقت الحاضر لم تعد شركات الصناعات الثقيلة أو المجموعات النفطية تحتكر قائمة كبرى الشركات من حيث قيمتها السوقية وحجم أرباحها. هذه الأيام تتبوأ المراكز الأولى مجموعات مثل آبل ومايكروسوفت وأمازون وعلي بابا وفيسبوك وغوغل، وهي مجموعات لا تتميز بامتلاك مصانع عملاقة أو معدات وآلات ووسائل نقل ضخمة وغيرها من الأصول المادية، بل إن جل ما تمتلكه يتجسد في قيم معنوية كالبرمجيات وشبكة عملائها ومستخدميها وسمعتها التجارية، وجميعها مرتبط بشكل وثيق بالعولمة. وفي كل الأحوال فإن المؤشرات الإحصائية لفترات طويلة لا تُثبت وجود مسار تنازلي عام لمعدل الأرباح كما تنبأ كارل ماركس. ومن الملفت للنظر أن أحد أشهر تلامذته في الوقت الحاضر، الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Piketty) الذي اختار لكتابه"رأس المال في القرن الواحد والعشرين"عنواناً يُذكر بمؤلف أبيه الروحي، توصل عبر تحليل هذه الأرقام إلى نتيجة تبدو معاكسة لقانون ميل معدل الأرباح للتراجع. تتلخص فكرة بيكيتي في أن أرباح رأس المال تفوق على المدى الطويل النمو الاقتصادي العام الأمر الذي يتجسد أيضاً في أن معدل الفائدة يزيد عن معدل ارتفاع الأجور. ويرى بيكيتي في ذلك العامل الرئيس وراء اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. من جهة أخرى لم تتحقق أيضاً توقعات كارل ماركس بتفاقم استغلال الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية كرد على قانونه المذكور، لا سيما بعد أن نجحت النقابات عبر نضال طويل في فرض تحسينات جوهرية في شروط العمل ومستوى الأجور ونظم الرعاية الاجتماعية.
يطرح ماركس أيضاً السؤال :"هل يزداد المعدل العام للأرباح من خلال معدل الربح المرتفع الذي يحققه رأس المال الموظّف في التجارة الخارجية، وعلى وجه الخصوص في التجارة الاستعمارية؟"يؤكد ماركس بأن هذه التجارة تجني بالفعل أرباحاً أعلى نتيجة المنافسة غير المتكافئة التي تسمح للبلدان المتقدمة"ببيع سلعها بأعلى من قيمتها". بمثل هذه الملاحظات مهّد ماركس الطريق لنشوء نظرية التبادل غير المتكافئ والتي يعتبر المفكر المصري سمير أمين أبرز ممثليها. استناداً إلى ذلك يتم تبرير الدعوة لرفض العولمة جملة وتفصيلاً وللترويج لما يدعى بفك الارتباط بالمراكز الرأسمالية، أي الانعزال عن الاقتصاد العالمي. غير أن مشكلة هذه النظرية وقبلها أيضاً أفكار كارل ماركس عن التجارة الدولية تكمن في أنها تركز على جانب وحيد، هو مدى استفادة الدول الصناعية من العولمة، بينما تهمل تماماً الفرص التي يمكن أن توفرها للدول النامية والناشئة أيضاً. ويعود ذلك أيضاً إلى الإيمان بالحتمية الاقتصادية والتاريخية التي قادت ماركس ومعظم تلامذته للتمسك بفرضية أن البرجوازية تُنجب حفاري قبرها.
من المؤكد أن العولمة التي تُعد أحد أهم مصادر تطور الرأسمالية وتجديد قوتها تنطوي أيضاً على تناقضات داخلية، ومنها التناقض بين حرية انتقال السلع وانسياب الرساميل عبر الحدود مقابل فرض القيود على حركة البشر والمهاجرين. مع ذلك خيبّت الرأسمالية آمال الثوري الكبير لأنها، كما يبدو، تعلمت أيضاً من تحليلات كارل ماركس وتنبؤاته في حل تناقضاتها، ولو إلى حين.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top