HOLON   الكتاب.. الفيلم

HOLON الكتاب.. الفيلم

صلاح سرميني

لا يكتفي السينمائيون التجريبيون بإنجاز أفلام فحسب، ولكنهم، بالتوازي، يمارسون أنواعاً أخرى من الفنون: الأداء الفنيّ المباشر، الفيديو، التصوير الفوتوغرافي، النحت، الرسم، الإنشاءات السمعية/البصرية،.. والكثير منهم يساهم في إثراء المكتبة السينمائية بكتاباتٍ نقدية، وتنظيرية عن أعمالهم، وأعمال غيرهم، وأيضاً في التنشيط السينمائيّ بتنظيم عروض للسينما التجريبية عن طريق جمعياتٍ أهلية، ومؤسّساتٍ عامة، ومهرجاناتٍ متخصصة.
السينمائي الفرنسي "كريستيان لوبرا" واحدٌ من هؤلاء، مصورٌ فوتوغرافيّ، سينمائيّ، وفيديويّ، ومؤسّس إصدارات (Paris Expérimental)، ومنذ عام 1976 وحتى اليوم أنجز حوالي عشرين فيلما، وفيديو، وقدم عروضاً فنية مباشرة، في عام 1997 نشر مجموعة من النصوص، والمحاضرات عن أفلامه (بين الصور).
تأثرت أعماله السينمائية بالرسم التعبيريّ التجريديّ، وبراديكالية السينما المترية عند النمساوي "بيتر كوبلكا"، ويهتمّ في عمله بإعادة صياغة الإمكانات الشكلية، والمفاهيمية للفيلم، وتتجلى إحدى خصائص أفلامه تفتيت الصورة إلى شظايا بهدف تفجير إطار الصورة، وخلق كثافة ألوان لم يسبق لنا أن شاهدنا مسبقاً.
من بين أعماله ـ على سبيل المثال ـ كتاب ورقي صغير الحجم، صحيحٌ بأنه لا يتضمّن عن أيّ جانبٍ أدبيّ، معرفي، أو فكريّ، ..ولكن، تكمن خصوصيته في جانبٍ جماليّ بحت يكشف عنه من الوهلة الأولى، وهو إحدى المعايير الجوهرية التي ترتكز عليها السينما التجريبية، وتدافع عنها، وتروّج لها عملياً، ونظرياً.
لا يحتوي الكتاب على أيّ مادة مكتوبة، ولا حتى كلمةً واحدة ماعدا عنوان الغلاف الأول (HOLON)، وتوضيحاً مُقتضباً على غلافه الأخير، وما بين الغلافين صفحاتٍ ملونة تستهدف تصفحاً من أجل قراءةٍ بصرية متمهلة صفحةً صفحة، أو بسرعةٍ تمنح وهم الحركة، حركة الألوان، وتداخلاتها في عودة طريفة، ومسلية إلى الفترة التي سبقت تاريخ اكتشافات السينماتوغراف، والإرهاصات الأولى لخلق وهم الحركة، وتطوّر آليات العرض السينمائي.
وكما هو كتاب للنظر، التأمل، والفرجة، يمكن اعتباره أيضاً قطعةً فنيةً من الورق الملون، هوسٌ لونيّ يتوافق مع اهتمامات السينمائي بالألوان في أفلامه التجريبية.
وفي الحاتين، وكما مبدأ الحركة في السينما، يعتمد الكتاب على فكرة تتابع الصور، حيث يجب تصفح الصفحات بسرعةٍ من أجل الحصول على وهم حركة الألوان وُفق فكرة، وآلية تتابع اللقطات في الفيلم، حيث تعتبر كل صفحة بمثابة "فوتوغرام"، وهي الوحدة القياسية للشريط الفيلمي بأنواعه المختلفة : 8، 16، 35 مللي..
تمّ تصميم هذا الكتاب الفنيّ انطلاقاً، واعتماداً على فيلم تجريدي بنفس الاسم، أخرجه "كريستيان لوبرا" عام 1982، ويمكن تصفحه من اليسار إلى اليمين، وبالعكس، كما حال الفيلم تماماً، والذي يمكن مشاهدته من البداية إلى النهاية، وبالعكس أيضاً.
تتوافق القراءة البصرية في كلا الاتجاهين مع فصليّ الفيلم الأصلي، ويسمح هذا الكتاب/القطعة الفنية بمشاهدة الفيلم بطريقة أخرى، وبالتأكيد، هو ليس كتاباً لعامة الجمهور، وحيث أنه، ومنذ البداية موّجه للفضوليين، والشغوفين باقتناء هذا النوع من الكتب/القطع الفنية.
في عدد شهر يونيو 2018 من المجلة الفرنسية (METTRAY) كتب "كريستيان لوبرا" نصاً تعريفياً، وتوضيحياً، وأكدّ على تأثراته الأولى، والممتدة، وخاصةً بالرسام الأمريكي "مارك روتكو" الليتواني الأصل (1903-1970)، والذي صُنفت أعماله بالتعبيرية التجريدية.
في عام 1981 بدأ "كريستيان لوبرا" إنجاز فيلمه (HOLON) بإمكانياتٍ بسيطة جداً، وكانت مادته الأساسية التي صورها قطعاً من الكرتون الأسود، وبطريقة ارتجالية تماماً، وبعد تدخلات لونية مباشرة، كانت النتيجة عملاً سينمائياً مبهراً على المستوى البصري يتقاطع مع أعمال السينمائي التجريبي الأمريكي "بول شاريتز" (1943-1993)، بدون أن يتشابها.
بعد أربعين عاماً تقريباً من إنجاز الفيلم، امتلك "كريستيان لوبرا" الرغبة بإيقاف الصور، ومشاهدة الفيلم بطريقةٍ أخرى، صورةً صورة، وجاءته فكرة تحويل الفيلم إلى كتاب، ولكن اعتماداً على صور الفيلم نفسه، ومن أجل ذلك، نسخ بعض الصور إلكترونياً (سكانر)، بمجموع 156 صورة تحولت بدورها إلى صفحات الكتاب.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top