منطقة محررة:أستيتك المقاومة

نجم والي 2018/09/04 08:17:00 م

منطقة محررة:أستيتك المقاومة

 نجم والي

لم يبق أحد أميناً للنادي القديم، إلا صمد الدين محمد ونوفيك، ليس لأنه رجل عنيد، إنما لأن الأمر بالنسبة إليه له علاقة بفلسفته للحياة، من الصعب عليه تخيل حياته دون المكان القديم، صحيح أن بقية زملائه انتقلوا إلى مكان آخر، إلى الجزء الشمالي من المدينة، الحي القديم، إلا أنه أكثرهم مواظبة على المجيء هنا، هذا هو ديدنه مع كل علاقاته القديمة، ليس بما يتعلق بهذا المكان وحسب، بل بالمدينة كلها؛ فرغم المصائب التي حلت بالناس وبزملائه من كل الطوائف سنوات الحرب الأهلية قبل أكثر من عقدين لكن آثارها مازالت على الوجوه من الجيل الذي عاشها، بالرغم من التراجيديا الشخصية التي عاشها هو ذاته: سقوط زوجته قتيلة بنار أحد القناصين، وموت ابنته الوحيدة بحادث سيارة، وهجرة معظم أفراد عائلته ، إلا أن القاص والروائي صمد الدين محمدونوفيك يشعر بأن جذوره في هذه المدينة، كلا لا يريد الذهاب إلى مكان آخر. في الحقيقة يصعب عليه الانفصال عن إنسان أو عن شيء ارتبط به أبداً، الانفصال يعني له الموت، وهنا، كلما عاد للمكان القديم، يشعر بأنه ليس الوحيد الذي لم يمت، إنما المدينة أيضاً.
المكان الذي يعني لمحمدونوفيك الكثير، والذي زارته مجموعتنا (وفد أدبي من ألمانيا)، هو "نادي الكتّاب في ساراييفو"، المتكون من صالة شتوية كبيرة وحديقة خلفية جميلة ( ذكرني شخصياً بمبنى اتحاد الأدباء في بغداد قبل إطباق الكوارث على البلاد التي كان أسمها الجمهورية العراقية)، والذي يقع على بعد عشرين متراً من فندق "الهوليدي آن" ومبنى البرلمان السابق في ساراييفو. "الهوليدي آن" الذي كان مكان الصحفيين والوفود الأجنبية إبان حرب البوسنة والهرسك، وعلى مدى سنوات حصار ساراييفو الثلاث، أعيد ترميمه الآن، على عكس مبنى البرلمان، الذي ما زال بدون ترميم، يقف شاهقاً مثل هيكل عظمي. في تلك الأيام ورغم القصف الشديد، لم يتوقف أدباء البوسنة والهرسك المقيمون في ساراييفو من اللقاء هنا في ناديهم. وفي الصالة الشتوية، التي تجولنا فيها، شاهدنا عشرات الصور التي تؤرخ جلساتهم تلك، أيام الحصار. نوع من العناد الإنساني، أو الجمالي كما أطلق عليه بيتر فايس في ملحمته المشهورة "أستيتيك المقاومة". الإصرار على العيش والصداقة واختراع الأفراح الصغيرة، والكتابة عن كل موضوع تريد الحرب قتله، تلك هي وسائل المقاومة التي يملكها الكتّاب في هذه الأزمان.
في المكان ذاك، جلس كتّاب ومثقفو ساراييفو، يتقاسمون مائدة يأس واحدة، يكتبون ملحمة المدينة ضد القوميين، الغزاة واللصوص والمجرمين؛ كانوا يمثلون القوميات والطوائف التي تشكل بلاد البوسنة والهرسك: صرب وكروات و"بوسنياك" كما يصر البوسنيون على تسمية أنفسهم (ترجمتها حرفياً بوشناق). ساراييفو كانت بالنسبة لهم مشروع حياة، لأنها بالنسبة لهم خلاصة بلاد البوسنة والهرسك، بلد القوميات المتعددة، سقوطها يعني سقوط ذلك المشروع، لذلك وقف هؤلاء الكتاب إلى جانب إخوانهم بالمواطنة من سكان المدينة الذين أصروا هم الآخرون على مقاومة الغزاة والعنصريين، إنهم ذاتهم يشكلون اليوم الحركة الأدبية (ساراييفو 99)، وانتقالهم للمكان الجديد لا يعني تخليهم عن مشروعهم الأصلي، أنه نوع من تغيير المكان، ربما لأن النادي كان مكاناً رسمياً لاتحاد الكتاب الرسمي، في زمن يوغسلافيا الشيوعية، وسابقاً كان من الصعب العثور على مكان بديل، كان عليهم الدفاع عن مشروعهم، اليوم باستطاعتهم الذهاب إلى أي مكان، من يهرم منهم، من فنانين ومسرحيين وتشكيليين يزور مقهى المتروبولس، أما هم فيجلسون عند "ملايكا"، من النادر أن يزوروا المكان السابق، وحده صمد الدين ظل أميناً لعاداته القديمة، الذهاب الى نادي الأدباء في ساراييفو، كان لابد وأن أتذكر كل ذلك في رحلتي الأخيرة إلى بغداد وزيارتي لأتحاد الأدباء. ما زال بعض الأصدقاء القدماء يجلس هناك، مثلما ودعتهم في المبنى قبل قرابة أربعة عقود، لم يغيروا مكان جلوسهم إلى مكان آخر، لا يهم ما حدث وسيحدث لبغداد.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top