رسالة البصرة...

آراء وأفكار 2018/09/15 06:31:45 م

رسالة البصرة...

 د. لاهاي عبد الحسين

كثيرة هي التوصيفات التي أطلقت على ما حدث في البصرة وكانت سبباً في إطلاق العنان لاحتجاجات شعبية سلمية متصاعدة في مدن ومحافظات عراقية أخرى بعد أنْ بلغ التذمر الشعبي القشرة الخارجية ليشقها معبراً عن مطالب أساسية طال زمن السكوت والتغاضي عنها. مما يؤسف له أنّ الاحتجاجات السلمية هذه لم تخل من أعمال عنف استهدفت عدداً من المؤسسات الرسمية والحكومية والحزبية وبيوت مسؤولين كبار وحتى القنصلية الإيرانية بالحرق والتدمير والتكسير.

وكان لا بد للبعض من أنْ يبسّط ما حدث من أعمال عنف بنسبتها إلى ما يسمى "السلوك الجمعي"، بغرض وبدون غرض. والسلوك الجمعي مفردة يراد منها أنْ تطلق على من يتصرف بطريقة عشوائية نتيجة التأثر بوضع ما أو ظرف طارئ يتصاعد على حين غفلة ثم ما يلبث أنْ يهدأ ويستكين. وقد يستهدف هذا التفسير خفض الأهمية الحقيقية والواقعية لما حدث وربما إسدال الستار على أحد أبرز ما تمخضت عنه حالة التذمر وحركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تنتشر في البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
حالة تنامت منذ سنوات عديدة وتراكمت لتعبر عن نفسها بطريقة بدت مفاجئة رغم أنّها بالحقيقة متوقعة بسبب تنامي مشاعر السخط والقنوط من وجهة نظر أي متابع جاد. وقد يراد من تفسير تبسيطي من هذا النوع تسفيه وتصغير ما حدث ويحدث لقصر في النظر وضآلة في البصيرة. يعرف السلوك الجمعي بحسب أدبيات علم الاجتماع على أنّه مجموعة من ردود الفعل والأنماط السلوكية المتداخلة والمتشابهة وغير المتماسكة التي تنطوي على قدر عالٍ من العفوية والعشوائية من جانب عدد من الأشخاص الفاعلين. يستجيب هؤلاء بتصرفاتهم واندفاعاتهم القوية إلى محرك أو حافز مشترك ذي طبيعة وجدانية وفق توقعات ثقافية ضمن بنية اجتماعية طارئة ليعبروا بصورة عامة وبدون الكثير من التفاصيل وربما على نحو متناقض عن مشاعر جياشة تنطوي على الحسن والسيئ معاً.
لا يشتمل السلوك الجمعي على تصرفات جماعة معينة ذات هوية واضحة ومعروفة من حيث أنّه يفتقد إلى التنظيم والتقليد والمعيارية التي يتصف بها سلوك الجماعة المعروفة بحدود معينة. يتفاعل أعضاء الجماعة المستقرة والمعروفة على أساس مرجعية قيمية محددة لبلوغ هدف محدد فيما لا يفعل المنهمكون في سلوك جمعي بذلك. يوصّف بالسلوك الجمعي العفوي العشوائي بطبيعته الأشخاص الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض بصورة آنية في تظاهرة شعبية لا تملك القدرة على الاستدامة أو حشد من الناس يتابعون مباراة رياضية أو عدد غير محدود من المولعين بموضة جديدة مثل لباس أو تمنطق أو فكرة يمكن أنْ تؤسس لرأي عام.
يلاحظ أنّ هناك الكثير من المفردات التي يمكن أنْ تطلق على هذا النوع من السلوك الذي يتسم به جمع من الناس أو حشد أو جمهرة أو عدد من العامة ويطلق كذلك على الأشخاص المنقادين ضمن حركة اجتماعية سياسية أو غيرها. ويذهب البعض إلى الاعتقاد في أنّ سلوكيات عشوائية من هذا النوع قد تستثار من قبل قوى معينة ذات مصلحة سياسية في الغالب بهدف افتعال أزمة ما وقد تستخدم لقلب البساط على حشود تحركت لتسهل أمر الاعتداء عليها وتلطيخ سمعتها بغية التمكن منها أو وقفها. وهذا ما أريد إطلاقه على الهبة الشعبية الشبابية التي حدثت في البصرة مطلع أيلول الجاري وما زالت تتأجج بين مساء وآخر. ومن خلال متابعة ما جرى هناك ولوفرة ما عرض من فيديوات وتعليقات ومقالات، ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب ما تتناقله وسائل الإعلام من تقارير إخبارية، فقد صار من الممكن إعطاء تقييم أولي لما حدث ويحدث. الحقيقة إنّ ما حدث في البصرة من عمليات حرق وتدمير وتكسير لم يكن مجرد تعبير عن سلوك جمعي عشوائي وليد لحظة ما، بل كان مجموعة من الأفعال المقصودة والهادفة لإيصال رسالة شعر المثقلون بعبئها أنّه لم يعد ممكناً الصبر عليها والتكتم حولها. لم يكن هؤلاء الشباب المحتجون مجموعة من "المجانين" أو "المهووسين" بالعنف ممن لا يدركون ما يفعلون كما قيل جزافاً. وهم بالتأكيد ليسوا من "شذاذ الآفاق" كما نقل عن وزير الخارجية العراقي السيد إبراهيم الجعفري في معرض تعبيره عن الاعتذار للجانب الإيراني بسبب ما لحق بالقنصلية الإيرانية من حرق وتدمير. يذكر أنّ شذاذ الآفاق مفردة تطلق على المرتزقة والغرباء ممن لا يرتبطون بالمدينة وأهلها. الأشخاص الذين شاركوا ويشاركون في التظاهرات الإحتجاجية في البصرة شباب تقل أعمارهم في الغالب عن الثلاثين من العمر ويتشاركون متضامنين بقدر عال من القلق والتشوش والاضطراب حول مستقبلهم. ويلاحظ أنّ وتيرة القلق والتشوش والاضطراب هذه تزداد ضراوة في وقت يرون فيه كل يوم أنّ شركات ومصارف ومكاتب عمل ومطاعم وحتى صالونات حلاقة تقام في مدينتهم البصرة، العاصمة الاقتصادية للعراق دون أنْ يصيبهم من خيرها شيئاً.
جاء هؤلاء الشباب من صلب البصرة وعاشوا في أحيائها وسقوا حليبها وأطعموا تمرها. رجالاً ونساءً عاشوا في البصرة وتعلموا فيها ولم يغادروها. من الطبيعي أنْ يشعر هؤلاء بالحنق والغضب وحتى الحقد على من استهان بهم وبدد آمالهم وبعثر أحلامهم. قد يكون هناك من تدخل هنا وهناك ولكنّ المؤكد أنّهم تصرفوا بوعي وإدراك وليس بعفوية وعشوائية. وخذ ما حصل في الجبيلة حيث يقع مول البصرة الأكثر حداثة "تايم سكوير"، دليلاً على هذا. فقد خرج سكان الجبيلة من الرجال حصراً نقلاً عن شهود عيان عن بكرة أبيهم ليقفوا سداً بشرياً بين المتظاهرين المحتجين ممن كانوا يرومون إحراق المول وبينه. وخاض الطرفان جدالات وتفاهمات أدت بالنهاية إلى إقناعهم أنّ المول يعود إلى السيد عمار الحكيم، ولكنّ المستثمرين فيه أفراداً وجماعات من أبناء البصرة ممن وضعوا كل ما بحوزتهم ليشرعوا بعمل يرتزقون منه. لا يحدث مثل هذا في حالة السلوك الجمعي الذي يفتقر إلى التفاوض والتفاهم والتوصل إلى اتفاقات. وعليه فهم يدركون ما يفعلون وليسوا ممن يتصرفون بعفوية وعشوائية. من حسن الحظ أنْ نجح سكان الجبيلة بالدفاع عن المول ودرء خطر التجاوز عليه.
ليس هناك من يفرح ويبتهج لأعمال العنف أياً كان مبررها ومصدرها وهدفها. وليس هناك من يشجع على أعمال العنف. فأعمال من هذا النوع مؤذية ومسيئة لأشخاص قد لا يكونون طرفاً من أطراف النزاع. ولكن المؤذي والمسيئ أيضاً ألا يلتفت إلى الرسالة التي تتضمنها. على من طالتهم هذه الأعمال أنْ يفكروا بالسؤال: لماذا أنا! شخصاً كان أو طرفاً. بيت مسؤول أو مقر حزب أو مبنى محافظة وقنصلية. السبب واضح. يشعر هؤلاء الشباب العاطلون عن العمل في الغالب ممن يعيشون في مدينة هي الأغنى كما يقال لهم كل يوم بخيبة أمل كبيرة. وعندما تزداد خيبة الأمل ويتراكم تأثيرها السلبي ولا يجدون ما يحصدونه من خير مدينتهم غير أنْ يستنشقوا غازاتها السامة ويمرضوا بسبب نوعية الماء فيها في قلب المدينة وأطرافها على السواء فإنّهم يخرجون ويتظاهرون ويحتجون. وهم لم ينتهوا بعد. فالتظاهرات مستمرة والاحتجاجات قائمة. هذه مسألة مصيرية بالنسبة إليهم. وعلى الجهات المستهدفة أنْ تضع تجبرها وغطرستها جانباً لتسمع وتتفهم.
لقد بعث البصريون برسالة تخصهم وتعبر عما يقلق كل العراقيين وبخاصة الشباب منهم وهي أنّهم لن يستكينوا ويهنوا حتى يجاب إلى مطالبهم العادلة والمشروعة لتأمين الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وعمل. هناك الكثير من المشاريع الاقتصادية المعطلة عن العمل في البصرة، وهناك الكثير مما يمكن القيام به لإنعاش قطاع السياحة فيها بما يؤدي إلى ثروة قد تنافس ثروتها النفطية. كل ما تحتاجه البصرة زعامة محلية تترك مقاعدها الوثيرة وتنزل إلى شوارعها وأنهارها لتسهم بتطويرها. رسالة شباب البصرة واضحة وغير معقدة. كل ما هو مطلوب أنْ تقرأ بعناية لأنّ ما حصل فيها لا يقع ضمن خانة الآني والعابر والطارئ. إنّه سلوك مقصود وهادف ومنظم ويقول إنّ البصرة عصية على التنميط والقبول والخنوع لواقع مصطنع. ولن يمضي وقت طويل قبل أنْ تتمكن هذه الجموع من ولادة قادتها المؤهلين لفعل أكثر قوة وأمضى تأثيراً.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top