الثقافتان

الثقافتان

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الثاني

تعدّ موضوعة الثقافتين : العلمية والأدبية واحدة من الموضوعات الجوهرية التي ألقت بظلالها على مجمل التطور الإنسانيّ وبخاصة بعد عصر التنوير والأنسنة الأوروبية ، وتفاقمت مفاعيل هذه الموضوعة بعد عصر الثورة الصناعية (بأطوارها المختلفة) وتعاظم دور العلم وتمظهراته التقنية في الحياة البشرية وتغلغله في قلب السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة .
* * *
ثمة معلمٌ تأريخي مفصليّ في هذا الميدان ينسّبُ إلى محاضرة ريد التي ألقاها اللورد (تشارلس بيرسي سنو) في جامعة كامبردج عام 1959 ، ثمّ أعيد نشرها عام 1963 بعد إضافة ملحق لها بعنوان (الثقافتان ونظرة ثانية) ، ومنذ ذلك الحين برهنت هذه المحاضرة كونها إنعطافة ثورية عظيمة في تأريخ السياسات الثقافية حتى بات مصطلح (الثقافتان) من أكثر المصطلحات رسوخاً وتأثيراً على المستوى العالمي .
يسرّني في الفقرات التالية ترجمة الجزء الأول فحسب من هذه المحاضرة التي نٌشرت في مجلّة المواجهة Encounter في عدد يونيو (حزيران) عام 1959 تحت عنوان (الثقافتان والثورة العلمية) ، وقد مهّدتُ لهذه الترجمة بتقديم وافٍ عن شخصية اللورد سنو إكمالاً للفائدة المرتجاة .

المترجمة


الكاتب - العالم - الروائي تشارلس بيرسي سنو
( تتمّة )
بدا سنو أول الأمر مؤهلاً لحيازة مهنة ناجحة كعالم أبحاث ؛ لكنه عانى عام 1930 إنتكاسة أعادت توجيه مسار حياته بأكملها : إعتقد سنو وزميل له إنهما إكتشفا الطريقة التي يمكن بها إنتاج فيتامين A بوسائل إصطناعية ، وكان هذا الإكتشاف ذا أهمية مبشّرة بإطلاق سلسلة تطورات عظيمة على الصعيدين النظري والعملي ، وبعد الإعلان عنه في مجلة الطبيعة Nature أكّد رئيس الجمعية الملكية أهمية هذه الفتوحات العلمية للصحافة العامة ؛ ولكن واحسرتاه !! ظهرت حساباتهما مغلوطة يشوبها الوهن وتوجّب إعادة النظر باكتشافهما الموعود وسط شيوعه في أوساط الرأي العام ، وكما وصف شقيق سنو الأمر لاحقاً ( تسببت تلك الحادثة الصادمة بعد كلّ التهليل الجماهيري لها في أوساط العامة بدفع تشارلس لهجر البحث العلمي هجراناً لارجعة فيه ) . إنّ حقيقة كون سنو عالماً حاز مرتبة عالية من التدريب الفائق كانت أمراً حاسماً لتعزيز مكانته التي أهّلته للحديث لاحقاً عن معضلة ( الثقافتان ) ؛ لكنّ بعضاً من أولئك العلماء غير المتجاوبين مع مكانته التي صنعها بقدراته الذاتية والتي جعلت منه بطلاً للثقافة العلمية سيثيرون حتماً تلك المثلبة في تأريخه المهني للقول بعدم كفاية مؤهلاته العلمية ، والحلُ أن سنو عندما حضر لإلقاء محاضرة ريد في كامبردج كان قد مضى أكثر من عشرين سنة منذ أن إنهمك في البحث العلمي الرفيع ، وكانت إنجازاته خليطاً من أعمال غير مكتملة في أفضل الأحوال .
ثمة تطوّران ساعدا سنو في خلق مسار مهني بديل له عن مهنة البحث العلمي : نشر سنو عام 1932 عملاً بعنوان الموت تحت الشراع Death Under Sail وهو قصة تحرٍّ بوليسية الطابع ، أعقبها بعد سنتين بعمل آخر عنوانه البحث The Search وهو رواية تحكي عن عالم شاب ، وقد لقيت محاولاته المبكرة هذه إشادة حسنة من قبل المراجعين ؛ الأمر الذي شجّع سنو وبثّ الحماسة في نفسه ليكون كاتباً حقيقياً ، ومع مفتتح عام 1935 إختمرت في عقل سنو فكرة كتابة سلسلة من الروايات المترابطة التي إستحالت آخر الأمر أحد عشر جزءً من العمل المعنون غرباء وإخوة Strangers and Brothers : تلك السلسلة من الروايات التي نُشِرت بين عامي 1940 و 1970 . ليس ثمة أدنى مجال للشك بأن شهرة سنو اللاحقة ومكانته الشعبية قد تاسست على نجاح سلسلة الروايات هذه التي حقّقت مبيعات عالية وترجِمت للغات عدة ؛ غير أنّ مصدر السبب المباشر لتلك الإنعطافة القسرية في مساره المهني جاء مع إندلاع الحرب العالمية الثانية . تحوّل سنو بصورة مؤقتة مع إندلاع الحرب ليعمل في قطاع الخدمة المدنية وأنيطت به مهمة توظيف وتوزيع العلماء الفيزيائيين بقصد دعم المجهود الحربي ، وقد ساعده هذا الأمر في توسيع آفاقه وفَسَح المجال للكشف عن مواهبه الإدارية مثلما مكّنه من عقد صلات قريبة مع الكثير من الشخصيات ذات النفوذ وهو ماقاده لإثراء محصوله في معرفة الكيفية التي تُمارس بها السلطة في عقر دارها . عقد سنو العزم عام 1945 ( أي عام إنتهاء الحرب ، المترجمة ) عدم العودة ثانية إلى كامبردج وانهمك بدلاً من ذلك في عملين بدوام جزئي سيمكّنانه لاحقاً من المضيّ في كتابة الرواية : عمل مفوّضاً للخدمة المدنية ، وهو عمل يمكّنه بصورة رئيسية من الإشراف على التعيينات العلمية ، كما عمل في القطاع الصناعي الخاص في وظيفة إستشارية إلى حد كبير ثم تتوّج ذلك العمل بمنصب المدير العام لشركة الكهرباء الإنكليزية . إنّ النجاح الذي حققه سنو عقب نشر رواياته جعله قادراً على هجر هذه المناصب متى ماأراد ، وقد تحقق له هذا الأمر عندما تخلّى عن كلّ أعباء المناصب التي كان يشغلها عام 1959 ؛ الأمر الذي مكّنه من العمل كشخصية عامة وهو مايمكن إعتباره وظيفة ثالثة له في سجله المهني ، وقد تلازمت صورته كشخصية عامة مع كونه محاضراً إشكالياً وناقداً خبيراً على درجة عالية من المراس والفطنة ، وقد جاءت محاضرة ريد التي ألقاها في ذلك العام ( أي 1959 ، المترجمة ) لتكون باكورة إعلاناته - وأكثرها شهرة بالتأكيد - في مهمته الجديدة كشخصية ثقافية بريطانية عامة .
شهدت أعوام الستينيات ( من القرن العشرين ) ذروة شهرة سنو : طفقت كتبٌ كثيرة تُكتَبُ بشأن رواياته ومسرحياته ، وحصل على عشرين شهادة جامعية فخرية خلال عقد من الزمن وحسب ؛ ولكن قبل كلّ شيء فإن فكرة ( الثقافتان ) - وهي مصدر شهرته الأعظم - غدت ميداناً فكرياً رحباً حاز الكثير من التعليقات والمجادلات المتضادة ( لابأس هنا من ملاحظة أنّ معظم التكريمات التي حصل عليها سنو جاءته من جامعات أجنبية ، وأنّ أطروحاته الشهيرة قوبلت في البلدان الأخرى من غير نوازع التشكيك - بل وحتى الإزدراء - التي طبعت الحماسة البريطانية تجاه أفكاره بطابعها المميز الذي لايخفى عن الأنظار . ) . في أعقاب النصر الإنتخابي الذي حققه حزب العمال في أكتوبر ( تشرين أول ) 1964 قبل سنو دعوة هارولد ويلسون ( رئيس الوزراء آنذاك ) ليكون الرجل الثاني في التسلسل القيادي لوزارة التكنولوجيا المؤسسة حديثاً ، كما أصبح لورداً Lord مدى الحياة وصار المتحدث الحكومي في أمور التقنية لدى مجلس اللوردات . إستقال سنو من منصبه الحكومي في أبريل ( نيسان ) 1966 لكنه إستمرّ منذ ذلك الحين في الحفاظ على - بل وحتى زيادة - نتاجه الأدبي الغزير سواء على صعيد الرواية أو في الأعمال غير الروائية ، ومضى يسافر لشتى بقاع الأرض محاضراً ، ومانحاً للنصائح الثمينة ، وشخصية ثقافية حكيمة ، وكان يؤكّد في كلّ أحاديثه ومحاضراته على معضلات السلام والفقر والتنمية . توفّي سنو في 1 يوليو ( تموز ) 1980.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top