قضية للمناقشة: رسالة إلى حسين عبد الرازق من السجن

آراء وأفكار 2018/09/18 06:21:03 م

قضية للمناقشة: رسالة إلى حسين عبد الرازق من السجن

فريدة النقاش

هذا يوم جديد بكل معنى، يوم يخرج عن الإيقاع العام، هذا الكابوس الثقيل الأخير، اليوم زارني محمود سامي ومحمود المراغي، وعرفت خبر الإفراج عنك، وكنت بالأمس قد حدثتك طويلاً فى المساء حين انقطع التيار الكهربائي، وكنت حينئذ على يقين من أنك مازلت فى سجن « طرة» فتحت شباكي لعل الرسالة الصامتة تخرج خلسة، وفتحته أيضاً لكي أسمع صوت الصراصير التي تتحلق في دوائر ومربعات وطوابير، تخلق جواً كافكاوياً حقيقياً، وقلت ولكني سوف أسمع وأرى بتعمد لكي أشاركك وأشكر كل الأحباء المقيمين في طرة، حيث القذارة والفئران والصراصير والروائح العفنة، ثم أقول هذا نزوع "مازوكي"، هذه نزوة نحن نكسب ولو قليلاً لو تجنب أحدنا الآلام، والتفت لأطل على الحديقة المهملة، ولكنهم والحق يقال نظفوها بالأمس، قلموا شجرتي وأمطروا الحشائش بمياه غزيرة، كان مدير المنطقة يزورنا، وفجأة وضعت قطع من الطوب الاحمر المطلي بالطباشير طلاء رديئاً للغاية، وضعت حول الحشائش، ورفعت أكوام القمامة التي تراكمت منذ شهر، وطلبت الإدارة من كل الزبائن بأدب وبسوء أدب أن ينظفوا أماكنهم، ولكني الآن أدركت أن مشاركتي في الاحتفال الصامت من شباكي لأنك كنت سوف تخرج فى المساء، ولكن هذا كذب يا حبيبي فأنا فرحة للغاية لأن حدسي لم يكن صادقاً، بالأمس نفسه، ذلك الأمس المليء بالإثارة، غفوت قليلاً فى الرابعة، وبعدما أقل عن خمس دقائق قمت فزعة جداً على صوت صرخة عالية من جاسر، كان يبكي ويتألم وقد غاصت روحي ولكنني تشبثت بالهدوء وناديتك، والآن أنا أعرف أن القلق يصنع الخيال المحموم ويبذر الآلام الموهومة فى روحنا.
والآن أنتَ هناك وقد تراجعت لغة الغياب التي يتقنها الأولاد، سميتها أنا لغة الغياب حين يستيقظ الأطفال فجأة ويكون عليهم أن ينادوا أشخاصاً آخرين غير أبيهم وأمهم، أشخاصاً يحبونهم ولكنهم ليسوا الآباء والأمهات بالذات، وأن يتكملوا عنهم بضمير الغائب، هل هذه ميلودراما لا أعرف ولكنها فى كل الحالات مؤلمة. الآن أنت طليق تستطيع أن تحضن رشا وجاسر كيفما شئت وأن تفكر بي والمدى أمامك أوسع، ذلك رائع يا حبيبي الطيب الشجاع، الآن اطمأن قلبي وأعرف أن لهذا الاطمئنان ثمن سوف تدفعه أنتَ، سوف تكون مجهداً قلقاً من أجلي . . تتخيلني كما كنت أفعل أنا- وحيدة ومهمومة من أجلكم، تتوتر الى الداخل، وتذهب الى الحزب حيث يتراكم العمل وتتزايد المهام، ولكن صدقني، بماذا أقسم، بعالمي الصغير الجميل الذي يضم ثلاثتكم، الذي أمنحه قلبي وعمري إنني الآن سعيدة وإنني لا أهتم لو طال السجن.
أقرأ كثيراً وأتذكر أكثر، واتأمل أشياء كانت زحمة الحياة والعمل قد عفرتها، من بين ما أخذت أتأمله في الفراغ الطويل، فكرة بدأت جنينية وأخذت تلح و تتبلور في «الزمن الموحش» الحق إن لا علاقة لها بالسجن، وهي إن الإنسان فى كل أشكال سعيه الى تحسين وجه العالم وخلق عالم أجمل وأفضل، يقصد غريزياً وروحياً الى هزيمة الموت، فعلاقة الإنسان بهذه الأرض وما عليها ومن عليها، تصنع طموحاته وأمانيه حتى تلك التي تخص العالم الآخر، أليست هذه بعض مباهج الانفراد بالنفس، نحن نطرح أسئلة لا نجد الوقت أبداً لطرحها على وجهها الصحيح، وهكذا ترى أن وطأة السجن تزول تدريجياً بالنسبة للسجين فى حين يتحملها الأحباء في الخارج، أنتم لا تجدون الوقت لتأمل شيء مترفٍ كهذا قليلاً، وليست لكم ذكريات حاضرة سوانا، أليس كذلك؟ أتأمل أشياء أشد جوهرية ولكنني احتاج الي كتبي حتى تتبلور أفكارى بصورة أفضل، تهزم البورجوازية الصغيرة الموت بالسعي المضني الى الجاه الاجتماعي، بالتحصيل المستمر والصعود المتصل في السلم الاجتماعي، وتحقيق الوجاهة، هنا تستند الزوجة الى كتف المهندس العظيم أو الطبيب الذائع الذي لا يتحقق أمنها النفسي في الحب فقط أو الأطفال فقط وإنما فى هذا الوجود المعنوي الذي يظللها أيضاً، حين تتنازل للزوج كلية عن كيانها الخاص، أما الرجل فهو يستغرق نفسه في خلق هذا الوجود، إنهم جزر معزولة حتى في هذه القضية يحلون مشكلاته مع العالم الآخر سراً، أما كبار البورجوازيين خصوصاً الطفيليين الذين لا يتقنون شيئاً سوى الفراغ فإنهم يهزمون الموت بفن المجون، الذي يجيدونه ويحسنونه مع الوقت وهم يخلقون لنا تلك الظواهر الشائْهة جداً الآن وتسمى فنانات، نساء يغنين ويرقصن ويمثلن ويجدن في كل عمل على حدة فن المجون، ولا يعرف أحد صلة أخرى يمكن أن تربط هاته النساء بالفنون، المجون يرتبط أيضاً بأطيب الطعام والبخور والعطور بالنهم، والزمن شاسع وليس مطلوباً من أحدهم أن يجتهد للتقدم أو أن يعمل ، فكل شيء قائم وجاهز دون معوقات، لا الشعب يعنيهم ولا المستقبل. أما الطبقات الشعبية فإنها تهزم الموت إذا ما تذكرته في أوج شقائها- بإحالته الى الآخرة التي يثقون في إنها قادمة هناك حيث الثواب والعقاب الرادعين، ولأنهم كثيرون ولأن الموت ضيف معتاد وأليف يخطف الكبار والأطفال بحرية، فإنهم يعقدون معه هذه الصلة القوية ويقيمون له الطقوس، ويلجأون الى هذا اليقين الكلي والكاسح الذي لا يناقش وهو قيام الموتى في الآخرة حيث يهزم الموت من تلقاء نفسه الى الآبد، يلتئم الشمل الذي بعثرته الحياة من جديد.
يقول نجيب محفوظ إن الشعب كثير العدد جداً، وهو يتكاثر بسرعة ومن أجل هذا هو يرشح البورجوازية الصغيرة باعتبارها أقل عدداً واكثر ثقافة لقيادة العالم بصفة دائمة، ربما لأن الشعب كثير العدد تحصده الدبابات أو المجاعات بحرية، لا يهم. أشعر الآن إنه لابد لي من الخروج من هذه الدائرة المخيفة، ما الذي جعلني أبدأ رسالة بهيجة وأنهيها نهاية حزينة، ربما لأن جارتي سعاد الصغيرة المريضة الحلوة، قد فقدت ابنتها ذات الشهرين هذا الصباح، وهي لا تعرف عنواناً لوالد البنت المجند في الجيش، وقد ظلت تبكي بحرقة يمكن أن تدمي قلوب البلدان جميعاً في هذا العالم.
وكانت سعد منذ أسبوع قد ظنت أن ابنتها ماتت وأقامت نفس المناحة، ولكن الدكتورة اكتشفت أن البنت لاتزال حية وان كانت تعاني من نزلة معوية حادة وحالة جفاف، تماماً كما أقرت هي نفسها- الدكتورة- أن ذراع البنت سامية ذات السبعة عشر عاماً لاتزال حية، سامية لا تقوي على تحريك ذراعها، لأن بوليس الآداب حين هاجم الشقة التي كانت تعمل بها خادمة وعشيقة ألقت بنفسها من النافذة فانكسرت ذراعها ولم يهتم أحد، هذه بعض هموم العالم هنا تطل عليّ ولا أستطيع أن أمنعها من التسلل الى قلبي أحياناً مهما أقمت من المتاريس وتشبثت بالصلابة الروحية الضرورية أو اقنعت نفسي بأن الهموم لا تأتي فرادى، وبأن ذلك شيء منطقي في السجن، أن يموت الأطفال الصغار، وأن تعجز سامية عن إجراء عملية في ذراعها ليستيقظ تماماً. ومع ذلك أتوهج فرحاً برجوعك، هذا أجمل رجوع لك منذ التقينا.
أحبك لأنك رجع للأطفال وسوف أظل أحبك حتى لو سجنت من جديد- وطبعاً سوف تسجن- ماذا أقول؟!، الشجر كثير جداً هنا على حافة السور، وهناك أوراق تسرع في النمو ليلاً وخفية لتبشرنا من خلف عيون المخبرين السريين والسجانين العميان أن عالمنا يبزغ رغم كل شيء، وإن رايتنا المنتصرة ترتفع فى مواقع كثيرة من العالم بتضحيات أفضل الناس، وإن أحزاننا لا تعوقنا، لأنها بعض من فيض أحزان الشعب الذي ندين له بالولاء ونؤمن به ونتعلم منه، هذا ختام أحبه لرسالة جاءت رغم أنفي حزينة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top