قياس مؤشرات التحوّل والبناء..التحديات والتداعيات المحتملة

آراء وأفكار 2018/09/18 06:23:55 م

قياس  مؤشرات التحوّل والبناء..التحديات والتداعيات المحتملة

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

للباحث الذي يقدّر عِظم مسؤولية ما مرّ ويمرّ بها العراق من مرحلة انتقالية حافلة بأزمات متفجرة، أن يعي ضرورة بل حيوية فهم طبيعة التحوّل من مرحلة سلبية سمتها المحاصصة الطائفية ، العرقية ، القبلية ، الجهوية ، إلى مرحلة يرنو ويتطلع اليها العراقيون بكل شغف كونها تحمل احتمالية إعمال تغييرات إيجابية تغطي مساحات واسعة من الحقول الحياتية سياسياً ـ أمنياً- اقتصادياً – إجتماعياً- ثقافياً وتربوياً وبالمجمل "ستراتيجياً" في الاتجاه لدولة المواطنة "مدنية التوجه".

إنتخابات آيار/ مايو 2018 مع إنها حملت آمالاً عريضة بانتقال العراق الى مرحلة جديدة يتحقق للعراق فيها تحول سياسي وسيادي ديمقراطي حقيقي يتوازى مع مكانة قيّمة وسامية للعراق، إلا أن نتائجها وتداعياتها بكل تعقيداتها التي يعرفها القاصي والداني لم ترق بعد إلى مستوى المسؤولية الوطنية (قد يحدث ذلك مستقبلاً) . ما حدث ويحدث في البصرة حالياً من غضب وتفجر شعبي شبابي ينتظر من مختلف السلطات المعنية أن تقوم بتلبية سريعة نسبياً لمطالب واحتياجات إنسانية - حياتية جوهرية، منها إنهاء أزمات الصراع القبلي – العشائري التي تنعكس سلباً على الأمن والتماسك المجتمعي مشفوعة بإزمات أخرى ليست من صنع البصريين أنفسهم بقدر ما هي عبارة عن تدخلات خارجية الاقليمية هدفها إضعاف النسيج المجتمعي من خلال الاتجار بالسلع الممنوعة (مثل المخدرات) وغيرها . برغم ذلك فإن الشيء الأساسي الآخرالذي حملته عناوين الأزمة الراهنة تمثل بإستمرار أزمة "البطالة بين الخريجيين" وعدم توفرحياة العيش الكريم اللائق بكرامة الإنسان . أزمة البصرة مع كل ثقلها وخطورتها على مستقبل البلاد وبرغم كل ما قدم من حلول حكومية على مستوى المركز –بغداد- ومركز المحافظة لازلت تنتظر تأسيس مشروعات وطنية حقيقية تنهض بالبصرة إنسانيا أولاً وبصورة شاملة للعراق كله ثانياً . إن عدم توفر "الأمن الانساني" للبصرة ولمحافظات العراق برمته مسألة تستوجب التعامل بحكمة وتبصّر وبهدوء مع الأزمات ومنها على الخصوص الأزمة الراهنة حيث أكدت النخب المثقفة وسائر العراقيين اينما وجدوا إضافة لتقرير مكتب الامم المتحدة على ضرورة عدم استخدام القوة المسلحة ضد المتظاهرين الذين يدعون لحل أزماتهم الحياتية من خلال تاسيس مشروعات حيوية بمكنتها توفير المياه والطاقة والخدمات الأساسية الأخرى من صحة وتعليم بنى تحتية وكهرباء وشبكة انترنت وغيرها . ومهما تكن طبيعة الاطراف التي قد تستغل أزمة البصرة لإثارة فتن أو أزمات جديدة هدفها خدمة مصالح ضيقة أو قد تكون مرتبطة بمصالح قوى محلية و أقليمية هدفها إضعاف العراق، فإن النفس الوطني العراقي والإرادة السياسية الموحدة لتشكيل حكومة وطنية بحق ستتحمل مسؤولية المرحلة القادمة التي تتميز بالتعقيد والحراجة وهو أمر مطلوب بشكل استثنائي وعاجل بعد فترة من الجمود السياسي الذي انعكس سلباً على حالة الاندماج الوطني العراقي. إن توفر الموارد المالية التي قررت في موازنة 2018 مع صلاحيات مستقلة نسبياً بصرفها قد تمثل أحد الحلول الممكنة أو المتصورة. وضمن تصور كيفية معالجة أزمة البصرة وبالتلاحق ايضا ايجاد حلول ناجعة لأزمات العراق المزمنة، من المفيد أن نعرج على فهم جيد ل"تقريرالدولة" المتضمن مقياس التحوّل الصادر عن معهد Bertelsmann Stiftung يعتمد المقياس على تقييم 16 معياراً تخص 129 دولة ، كما يلي : المستوى الاجتماعي والاقتصادي ، تنظيم السوق، العملة والاستقرار السعري، الملكية الخاصة ، نظام الرفاه الاجتماعي ، الاداء الاقتصادي ، الاستدامة ، اسلوب توجيه الامكانات، كفاءة المصدر، بناء التوافق ، التعاون الدولي، قدرة الدولة في ممارسة وظائفها الاساسية، المشاركة السياسية ، حكم القانون، استقرار المؤسسات الديمقراطية والاندماج السياسي والاجتماعي. جدير بالانتباه ان منهجية القياس سارت على خطين متوازيين ـ الاول يمثل مايعرف "مكانة الدولة"--Status وفقا لحالة التحول السياسي والاقتصادي منذ عام 2003 والثاني إعتماد مؤشر الحوكمة أو الحكم الرشيد (Good Governance)، منطبقا على دور القيادة السياسية بإتجاه التحول الديمقراطي السياسي في ظل حكم القانون وأقتصاد السوق المجتمعي.. وبالارقام فان مؤشر المكانة اوصل العراق إلى 3.75 من مقياس قيمته الدنيا 1 والعليا 10. مبينا أن العراق احتل ولأول مرة مقعدا رقمه 107 (متدن) بين مجموع الدول التي وصل إلى 129 دولة. بعض النتائج المختارة من المؤشر عدت مخيبة لأمال العراقيين إذ تشير إلى عدة مشكلات كان يمكن حلها قبل أن تصل إلى معضلات وأزمات وبالتالي أزمات متجذرة تتراكم دون تقديم حلول عملية مرضية شعبيا تماماً -كما يقوم الطبيب المعالج للمريض بتشخيص المرض بغية اقتراح الدواء المناسب – الهدف أن يتعافى الوطن والدولة تماماً أو الى حدود مقبولة عالمياً من أزماته وتداعياتها. . من أبرزها ما يلي : حالات الضعف الذي عاناه المركز كنتيجة لانتشار وتعدد الجماعات –المليشيات- المسلحة التي أخذت تأكل من قوة الدولة بصورة غير مسبوقة ناشرة نفوذها غير المشروع على أراضي الدولة ، ولعل أزمة البصرة المزمنة أوضحت الأمر بصورة جلية . الأمر يتفاقم اكثر عندما لاتتم من قبل النظام السياسي مراجعة حقيقية معمقة وواقعية لأوضاع البلاد تجاه بناء الدولة والمواطن في إطار تعزيز وتمتين علاقة المركز مع كل محافظات واقاليم العراق بهدف تمكين الوطن من تعزيزحالات الامن والاستقرارالسياسي - الاقتصادي و التماسك المجتمعي .
ضمن هذا التصور كان على الدولة بلورة صيغ اكثر فاعلية وجدوى لقانوني الأحزاب والتنظيمات السياسية حيث قد تحول عدد منها فعليا إلى أحزاب في غالبها تعرف بأحزاب افراد أوجماعات زبائنية اكثر ما تطمح به هو "تقديم مصالحها الذاتية على مصلحة الوطن". صحيح إن الأمر لاينطبق على كل الأحزاب والتنظيمات الوطنية في العراق التي تجذرت شعبياً في الواقع والذاكرة التاريخية -السياسية- الاجتماعية العراقية ولكنها ذاتها هي الأخرى مع مرور الوقت لم تنج من ظاهرة الانقسامات الشخصية التي انعكست على مساحة العراق الجيوسياسية كله تقريباً، ما أفقدها فرص تحولها إلى أحزاب وتنظيمات سياسية تواكب التحديث بعيداً عن التحزب المذهبي وغيرها من سلبيات سادت لفترات طويلة ، قياساً على الدول المتقدمة Advanced States أو الصاعدة RISING POWERS التي أكدت أحترام الظاهرة المؤسسية الحقيقية في التعامل مع مختلف القضايا الاستراتيجية. وللحد من تراجع الحراك السياسي الوطني بصورة أثرت وستأثر على مسار تقدم البلاد لابد من وضع ضوابط المتابعة والمراجعة والتقييم المستمر لكل الكيانات والتنظيمات المشكلة في العراق والتي وصلت اعدادها بالمئات دون حسيب أو رقيب جيد نسبياً وتستلم أموالاً دون ضوابط مشروعة، الأمر الذي ينقلنا إلى ضرورة الارتكاز على عنصرين أساسيين من المعالجات الديمقراطية – المؤسسية، وهما إعطاء مزيد من الاهتمام لشفافية العمل الوطني والحزبي، وتوفر آليات المحاسبة لكل خروقات تنتهي بانتشار التدخلات الخارجية في الشأن الوطني العراقي خاصة من قبل دول جوار العراق ، أو قد تنتهي بإنتشار ظاهرة الفساد وتجذرها مؤسسياً على مختلف المستويات المحلية والوطنية..
الأكيد إن المعالجات المبتسرة لن تكون يسيرة مع تعقد الوضع العراقي وعدم نجاعة حل مشكلاته أو توفير معادلات سليمة للعلاقات مع العالم الخارجي . إن أية خارطة طريق واضحة لابد لها من تحكيم الحكمة والالتجاء إلى الفضاء الوطني لإقامة علائق متوازنة على قدم المساواة مع دول الجوار وغيرها على أسسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشأن الداخلي وهي من المسائل التي تحتاج للمزيد من التعمق والتحليل . يضاف لما تقدم لابد من توضيح نقاط أخرى منها ضرورة إعمال حكم القضاء المستقل بصورة تؤكد استقلاليته واحترام أحكامه وتنفيذها بصورة موضوعية. أكثر من ذلك ، لابد من إعمال العدل الاجتماعي – الاقتصادي خاصة بالنسبة للفئات المحرومة – الفقيرة والنازحة عن مواقع سكناها الاصلية التي تحتاج للمزيد من العمل الجاد والسريع نسبيا برغم ايجابيات عودة ما يوازي 4 ملايين من السكان المهجرين الى مناطقهم حيث لازال هناك مايقارب مليوني نازح لم تتح لهم العودة وفقاً للتقرير الاخير للمنظمة الدولية للهجرة . من المناسب القول إن العودة بحد ذاتها ليست كافية لأنها لا تعني استقراراً أو ازدهاراً لإوضاع العائدين بشكل مطلق لأن البنى التحتية والخدمات لازالت دون المستوى المطلوب كما أن حماية هؤلاء المواطنين العائدين لمواقع سكناهم الاصلية من الارهاب وحالات العنف المسلح هي الأخرى لازالت أمراً بحاجة للمزيد من الجهود الوطنية المكثفة بالتعاون والتنسيق مع مختلف دوائر ومؤسسات الدولة . أما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والبحثية والعلمية الاكاديمية فهي الأخرى بحاجة للمعالجة العاجلة والجذرية من أجل توفير فرص عمل واسعة خاصة لخريجي الجامعات والمؤسسات والمدارس بالتوازي مع رفع موازنة البحث العلمي والتقني (أكثر من واحد بالمائة من الناتج الوطني الاجمالي) حيث لم تصل بعد إلا إلى أجزاء بسيطة جدا من النسبة الضرورية المفترضة من الناتج القومي الإجمالي في بلد غني بموارد وعوائد النفط، ما ينعكس سلباً على توفر عيش كريم لمواطني العراق الذين يستحقون حياة أفضل نسبة لما حباهم الله من إمكانات مادية وبشرية كبيرة جدا قياسا ومقارنة بدول أخرى لم تكن بمستوى العراق الحضاري ولا بقدراته التي إن استغلت بشكل صحيح وملائم ستعيد للعراقيين وطناً يجتمعون حوله يحمونه ويدافعون عنه بالغالي والنفيس تجاه كل المخاطر الداخلية والخارجية، وطن محقق لاندماج وطني لكل طيفه المتنوع بخبرات ومؤهلات عالية يستطيع من خلالها القيام بالتنافس والابتكار على المستوين الوطني والعالمي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top