إنهم يعلموننا الحياة

إنهم يعلموننا الحياة

ياسين طه حافظ


دائماً ما تجتذبني الأزقة القديمة، مساجدها البسيطة أو كنائسها القانعة والصليب أعلى السطح بين الأرض والسماء وبتلك المصاطب القديمة يقتعدها الناس في الأحاد ... وسواء كانت البيوت في الأزقة سقوفها جملونات فقد القرميد عليها لونه منذ سنين او هي بيوت من قِدَم وأنواء فقدت هويتها فلا هي أكواخ بعد ولا ارتقت لتكون بيوتا مثل تلك التي تصطف على جانبي الشوارع وأزقة الأحياء الحديثة. البيوت مثل الناس مستويات وحظوظ ومواقع، مع ذلك فأن اقترب منها، تأخذني رأفة ومحبة غامضة واراني مثل ولدٍ ضاع ونسيته الناس، يعود بشوق وقلق مما سيكون.
بيوت هذا الزقاق اليوم أشاعت فيَّ عذوبة ناعمة وأسى لا يخلو من لطف أو إشفاق. لا أخفيكم أني أرى جمالا، رضا وحميمية ساكنة بين البيوت. اشعر بذلك أكثر وأنا أراها بيتا يجاور بيتا حد التماس، ملتمة إلى بعضها لتبقى والناس يجمعهم، يوحدهم، هم العيش والاستقرار معاً بأمان. بيوت متوسطة الحال، وفقيرة وجدار يمس جداراً كما بمحبة. أقول بمحبة لأني أعلم أن العديد من قصص الحب عاشت وتعيش هنا وبالرغم من الفقر ومن المنع، المبطن أحياناً بغض النظر أو التسليم بالواقع أو هو هذا الطريق لكي يتزوجوا ويتزوجن، على أن لا يتجاوز ذلك إلى ما يسيء .. ستر شفاف، رضا مغطى برفض، وقناعة كامنة لا تُقال ..
أما القول بأن تلك القصص سرية لا يدري بها أحد، فهو قول لا يرتضيه الكهول أو الشيوخ فهم عاشوا الحياة ومروا بتجارب مثلها وأساليب تخفٍّ كهذه التي يمارسها الشباب اليوم.
توغلت في هذا الزقاق المليء بالقصص والذكريات حتى ليبدو تاريخ الناس وما مرّسومة آثارهما على الأبواب والجدران، وإن كانت بعض الشرفات المتبقية من زمن تُشعِرُ بالحزن. لماذا جئت؟ هل لمعايشة ما أرى وما سمعت أم أني تعبت وأردت استراحة، أم هو اشتهاء مقهى شعبي وأحاديث ناس ابتعدوا عنا: قصص من شيوخ وكهول، أصحاب مهن أغلقوا دكاكينهم ليجدوا الحياة هنا مع الصحب القدامى وفي هذا المكان الذي صار لهم من زمن ملتقى وليسمعوا آخر ما جاء لهم من أخبار؟
حقيقة، أنا لا أستطيع تفسيراً لأهوائي، تبقى الظنون، سبب ما قد يكون حاجة قديمة أو يكون اشتهاء مفاجئاً أثارته رغبة تنكرت بزي أخر وبعد دقائق قد تغيره. المهم أني هكذا واترك روحي على سجيتها. قد اعتزل العالم اشهرا واظل أنا والحديقة والكتاب، أو اعود أمارس اهتمامات كانت لي يوما، حين كنا نصنع من التمر عسلاً وخلّاً وحلوى .. يمكن أن يكون الإنسان لبعض الوقت حراً، أي أن يستغفل حراسه ويفلت. وكما حدث اليوم أصل هذا الزقاق، اتفقده أو أقرؤه لانتهى في مقهى مقاعده تخوت خشبية قديمة، حاول صاحبها تجديدها بالدهان الازرق، واحدة بينها عليها بقع خضر، يبدو انه استنفذ دهانه الازرق فظلت هذه تشير إلى ما كان.
بعد دقائق من جلوسي هناك صرت موضع استغراب واستفسار . أنا لغز، حجر رشيد، أو حيوان لا يعرفونه غريب طارئ. الانظار، صعب أقول ودية ولكنها تحاول أن تكون محايدة. هذه كلها لم تكدر الخزين الثمين الذي امتلكته من هذه الأزقة العتيقة. وأني بالرغم من كل الشوائب التي ألقاها التطلع والمتابعة ومحاولة معرفة الماوراء...، مع ذلك كنت مطمئناً، كما أنهم، كما أظن كانوا لا يخشون شيئاً ولكنه تريث الحذر أو محاولة التأكد مما يدور في أذهانهم من رِيَب، أو هو الزهو القادم باكتشاف سر.
هل حقاً؟ أنا مثلهم، انتبهت الآن إلى أني فعلاً إنسان غريب. ما هذه العزلة والنأي عن الناس والحياة، الابتعاد عن الخضم الخصب الذي يجد الناس فيه متعهم وحقائقهم؟ إن لهم ما يرتضيه وعيهم وأنا خلو من ذلك هم ضمن الحياة وأنا ابتعد قدر ما استطيع، الوذ بمصطبة، في حديقة، في مقهى فقير في زقاق، لا حديث ولا مراسلات مع من كنت اتباهى بمعرفتهم واجد زهواً في هذا الخطاب وتلك الكتابة. أنا كل يوم ابتعد أكثر واجد راحتي في النأي، الخلاص في الهجر والسكينة في النظر لا الكلام هذه خسارة لم افطن لها. في هذه اللحظة شعرت برغبة في الاستسلام وإلى تجاوز حاجز الصمت وبدأت تنضج رغبتي في العودة الى الحياة و الى كسر العزلة، إلى المشاركة في الحديث، الاشتباك، الربح الخسارة، المحبة، الخلاف، كلها حياة!
في لحظة الادراك هذه جلس جواري رجل خمسيني واضحة العافية والحيوية عليه. حياني قبل أن يتخذ مجلسه. أجبته بلطف وبقية حياء ترددت أولا من السماح لنفسي بالتخلي عن جفائها أو تعاليها أو رغبتها بالنأي. لكن الرجل كان كريم الوجه والكلمات تصحبه ابتسامة أريحية حلوة مريحة. قال : "يبدو الصديق ضيفاً على الحي أو عابراً ينتظر..." ما عرفت كيف أجيبه. فلغة الأدب تبدو بائسة مع ناس بمثل هذا الخصب الإنساني والحيوية والمباشرة وروح الكرم، كلما قلته : "أردت أن استريح". وحين بدا غير مقتنع أو غير مرتو، قلت مثل هذه الأمكنة النائية تهب الإنسان اوقاتاً لطيفة يرى فيها الحياة على حقيقتها ... توقفت وأنا في خشية من أن يسألني : ما عملك واجيبه بأني أبدد زمنا لأكسب معنى، فلا استطيع عندئذ ايقافه من الضحك علي، أعني على إنسان قارب العته، أو كهل بهذا العمر ولا يعرف الحياة، فهو يضيع وقته في الفراغات.
هل هي حكمة؟ دعوة من إنسان حي حقيقي لأن يرسم لي منهاج عمل او مشروعاً يستدعي الحماسات والانتباه والرغبة في الانجاز؟ ام كل هذا الى صفر لأظل كما أنا تائهاً يريد من الفراغات السماح ليمر له المعنى، لكن هل يكفي هذا عن الحياة والتوق إلى هدف تختاره الروح ضمن ما تختار من معرض الحياة الزاخر الكبير؟ هو سؤال الفن. لكن كم المسافة بين ضوء الحياة الخاطف الذي كل يتوق إليه وبين خيبة المتكئ على حائط معزول ينظر بصمت والناس تعيش؟ الرجل جواري قطع صمتي إذ دفع ثمن القهوة عني ودعاني لأقضي الليلة في حي المدينة القديم هذا ولأكتب عنهم يوما إذا كتبت. وإذ لزمت صمت التردد، قال لا تظن بيوت الفقراء تفتقر إلى كل شيء. هي الحياة حيث تكون. ومهما تكن، ليس لنا غير أن نعيش..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top