لنتعلم من الجبالي

لنتعلم من الجبالي

الرسالة التي وجّهتها تونس إلى الشعوب العربية من خلال استقالة رئيس وزرائها حمادي الجبالي تستحق منا جميعا القراءة والإعجاب.
سياسي قضى نصف عمره معتقلاً، وحين حانت لحظة تمتعه بمزايا السلطة ومنافع المنصب ترفع عليها مقدماً المصلحة الوطنية على مصالحه الشخصية والحزبية.
لم يصر الجبالي على أن حزبه (حركة النهضة) هو الأحق بإدارة البلاد استناداً إلى معطيات صناديق الاقتراع، ولم يشأ أيضاً ان يرقص رقصة المنتصر وهو يتسلم منصب رئيس الوزراء.. بتواضع السياسي الوطني تحدث رئيس الوزراء التونسي المستقيل، وهو القيادي في حركة النهضة الإسلامية، عن فشل الأحزاب الإسلامية وعدم قدرتها على إدارة البلاد، مصراً على أن الأوان قد آنَ لتتولى شؤون البلاد حكومة كفاءات، ومؤكداً أن الإنسان الحق هو ذاك الذي لا يكرر خطأ الأنظمة الاستبدادية في تقريب أهل الثقة لا أهل الخبرة.
 مثل عادة الكبار، لم يتشبث الجبالي بكرسي الوزارة حين شعر ان الناس تريد مسؤولين فاعلين لا ساسة يملأون الجو بالخطب والشعارات المزيفة، ففي كلمة وداع مؤثرة قال الجبالي للتونسيين "تحملت المسؤولية وشرف وابتلاء رئاسة أول حكومة منتخبة بعد الثورة، وبطبيعة الحال وككل عمل بشري هناك إيجابيات وسلبيات فيها النجاح وفيها الإخفاق، ولأنه هناك إخفاقات أردت أن أصلح واقترحت في آخر المطاف مبادرة تصلح ما أمكن من عملنا وتوضح الطريق، واقترحت إقامة حكومة كفاءات وطنية، حكومة تعمل لكافة التونسيين تهتم بشأنهم العام وتهتم بأولويات التشغيل والأمن وغلاء الأسعار وتوفر على مواطنينا عناء العيش وتعمل جهدها للتنمية وإقامة المشاريع ما استطاعت".
هذا رجل على رأس حزب ديني، يعلن للعالم فشل حزبه في إدارة البلاد ويطالب بأن تدار البلاد من خلال كفاءات، ولاؤها الأول للوطن وليس للحزب. ترى ماذا سيقول مسؤولونا عن الجبالي؟ هل سيتهمونه بأنه ينفذ أجندة أجنبية تريد الخراب للبلاد؟ وفي المقابل ماذا سيقول العراقيون وهم يعيشون في ظل مسؤولين وساسة يصرون على احتكار المناصب والمنافع وتوزيعها فيما بينهم.  
يكشف لنا الجبالي ولو متأخراً أن أحزاب الإسلام السياسي لا تجيد سوى نشر الإحباط وقتل الأمل في النفوس، والسعي لجعل البلدان التي انتظرت السعادة ترضى بالمقسوم لها في ظل ساسة ومسؤولين مهمتهم الأولى تعبيد طرق الآخرة أمام الناس وطرق الدنيا الباذخة في رفاهيتها أمام عوائلهم وأحبابهم ومنتفعيهم.
كأنما الدرس الذي تعطيه تونس موجه على نحو خاص إلى بلد يتمسك ساسته بمواقف الرفض وكره الحوار، ويأنفون من ثقافة الشراكة السياسية.
 الحكومات الفاعلة تفتح طرق الحياة مع مواطنيها، فيما يشيد ساستنا سدوداً بينهم وبين الناس تكبر يوما بعد يوم..تقوم تجارب الحكومات الناجحة على الصدق والمشاعر الإنسانية، فيما تعيش حكومات المايكروفونات على الشك والنميمة والانتهازية واحتقار الإنسان.
 علينا ان نستعيد جيدا قصة حمادي الجبالي بتفاصيلها الدقيقة، لنسلط الضوء على قصة شبيهة لها في العراق، حيث يعيش العراقيون في ظل حكومة أصبح ضعفها وسوء الأوضاع في ظل استمرارها محل إجماع، ومع ذلك لا يزال مسؤولوها يتشبثون بمناصبهم على رغم الفشل المتواصل والمتفاقم.
ثمة مؤهلات لابد من أن يحملها من يسعى إلى الحكم أولها الشجاعة، وقد حمل حمادي الجبالي شرف التغيير في تونس على كتفيه وهو يواجه مصالح الأحزاب وصراعاتها على المكاسب. لم يصغ إلى صوت الحزب ولا إلى صرخات مقربيه وإنما إلى صوت الناس الذين استأمنوه على حياتهم ومستقبل أبنائهم.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top