قصتي مع السبرنطيقا

قصتي مع السبرنطيقا


                                
(1)
البداية مع البحث
   عشرون عاماً مرت من بين أصابعي، مثل حبات  الزئبق، منفلتة لا يمكن الإمساك بها ثانية، لأنها ببساطة مرت في حدود الزمن الذي لا يمكن أن يعود بوصفه حالة واقعية ، لكن الذاكرة خير مواس لما نفقد من الأحداث والبشر ، نستعيدهم ألفاظا مرة ، أو صورة مزوقة بالألوان أو الأسود والأبيض ! تأريخ يتشكل من لحظات امتزجت فيها اللذة بالألم والحزن بالفرح والتمرد بالإيمان والصمت الحكيم بالثرثرة والنزق بالانضباط ، لكن ما يميز تلك اللحظات أنها  مصنوعة من البحث والتنقيب عن المعارف والفنون والعلوم .. سنين طوال من التجوال وتغير الأحوال وذاك الهاجس ما زال على البال ، أتذكره ويذكرني، تغير العمر وما زال في نفسي صبيا ، يريد الوقوف ثابتا والعودة إلى منافسات المعرفة العلمية التي من شروطها المصداقية في الفكر والعمل ، هو لم يغب لكنه أخذ صورة أخرى في الدرس العملي من الإخراج والتمثيل والتأليف، لكنه غاب عني بوصفه قرينا معرفيا، لي معه مواقف وحالات فريدة لا يمكن تجاوزها، تعلمت منه أن الضبط ما بين العقل والوجدان أو بين الفكر والعمل هو الذي يصنع قانون المعرفة على اختلاف أنواعها العلمية والدينية والجمالية، ولأن الحياة أسلوب تواصل بين المشكلة وطريقة حلها من دون خسائر – على قدر ما نسعى لذلك – بوساطة فرضيات تنطلق من حاجات الواقع الذي نعيشه، والتي ينبغي أن نكون مقبولة علميا، قابلة للتطبيق في ميدان العمل، تحقق الفائدة المادية والفكرية، إذ ما نفع الفرضيات التي ظاهرها جميل ومثير، وباطنها العملي أو التجريبي لا يحقق صدق العمل وجدوى النتائج، لذا كان البحث عن الصعب والمثير والمنغلق، دافع أصيل لتحريك عجلة العقل والشعور نحو ما يفيد الحياة ويترك الأسئلة تنحت الإجابات بقوة الإرادة وانسياب الرغبة باقتناص الحلول التي غالبا ما تكون عصية، صعبة المنال، خاصة مع الفرضيات البكر، الجديدة في حدود البحث، لكن ما يميز تلك الصعوبة الحادة، تلك اللذة المميزة المدعوة اكتشافا، والتقاط اليقين بأنفاس الإجراءات والنتائج، التي تكون متوافقة مع الفرضية، لتصل إلى استنتاج مفاده: أن أهدافك الموضوعية قابلة للاكتشاف والتطبيق، تلك اللذة أو اللحظة أو صيحة الفرح باحتضان الحل تعادل دهر عميق من الإحباط أو المعرفة المستهلكة التي لا تمكث على أرض البحث طويلا!
هذه اللذة أو صيحة الاكتشاف كانت معي والسيبرنطيقا في بداية التسعينات من القرن الماضي ، اتجاه علمي تطبيقي يرتبط بالتكنولوجيا والاتصال ونظرية المعلومات ، منطقي ومقبول في مجالاته العلمية والتجريبية المحضة، لكن أن يرتبط هذا العلم بفن التمثيل فهذا ما لا يسمح به! هذا الصوت الرافض في ذلك الزمن كان بمثابة الخصم والحكم، يصادر الرغبة في أن تقول أن كلمتك العلمية الصادقة لا تتم بالآراء الذاتية الجاهزة ولا بالمجادلات الجوفاء ، بل الأصوب والأقرب إلى العلمية ، هو الحوار الجاد الخالي من ثقافة التهميش والإرهاب العلمي الذي كان سائدا في ذلك الزمان .
   لحظة تقديم مقترح موضوعة البحث الموسومة "سبرنطيقا التمثيل المسرحي" وتخيلوا ردة فعل لجنة إقرار الموضوع، اتهامات وتسطيح وتجريح ، لأنك من؟ حتى تقدم مثل هذا الموضوع ؟ كيف تتجاوز أساتذتك في موضوع لا نعرف عنه الكثير فكيف تريد أنت الخوض فيه؟ ثم من قدم لك هذا الموضوع؟ هل المشرف أم نزل لك من السماء؟ طبعا فوقية معرفية وطبقية لا تسمح لمن عظمه الأكاديمي ما زال هشا وينحدر من أصول جنوبية، وبالتالي أتفق الجميع على ضرورة إيقاف هذا الموضوع ، وإبطال مفعوله، ومنع التداول به وكأنه من الممنوعات أو يهدد الأمن الوطني ! وبهدوء ضاج بالتحدي العلمي رفضت هذا المنع ، طبعا ليس بالعنتريات ولا بالجلسات المشبوهة ، بل كان التحدي بالحوار المقنع والحجة العلمية لكن للأسف لا إصغاء لمن تنادي  !كنت مع أساتذتي المحاورين غاية في التقدير لعناوينهم ودرجاتهم العلمية ، لذا كنت أقول لهم ..
أساتذتي هذا الموضوع ليس استفزازا معرفيا لكم ، كونه جاء من طالب مازال طريا في عالم البحث العلمي ، فأنا امتداد علمي لكم ، فان كان هذا الموضوع يؤدي إلى اكتشاف نظرية – كما تقولون – فهذا مدعاة للسعادة والفخر لأن هذا الطالب تعلم منكم وتأثر بكم ، فاسمحوا لي بالموافقة على الموضوع حتى أنطلق في رحلتي العلمية مع موضوع البحث لاكتشاف جزره المجهولة !
وما بين التحدي بجدوى الموضوع  ورفضهم الذي امتد لثلاثة أشهر ، حينها توقف الحوار المباشر بيني وبين اللجنة العلمية ، وبالاتفاق تدخل طرف آخر ، مهمته نقل أسئلتهم إلى الطالب الذي بدوره ينقل الإجابة اليهم ، وبعد الشد والبسط ، انفرج الموقف عن قرار اللجنة بالموافقة على الموضوع وعلى مسؤولية الباحث مشروطا بتغيير العنوان إلى فن التمثيل ونظم الاتصال المسرحي / مدخل سيبرنطيقي . عندها لفني الفرح وتنفست رحيق السعادة وأنا أشد العزم نحو البحث العلمي في هذا الموضوع وبشكل فعلي متفق عليه..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top