ملاحظات
في السيناريو والفكرة السينمائية ..دفـــــاع
عــــن فـنــيـــة الــفـيـلـــــم
عباس عباس
تتعمق
معرفتنا بعناصر العملية السينمائية، حينما نضع السيناريو (أو
النص السينمائي) في حيز مهم، باعتباره هيكل المنجز
السينمائي واساس ابداع البنية الفلمية، فهو الذي يقرر نجاح
العمل ويحدد نتيجته الفكرية والفنية.
من وجهة النظر التاريخية أنبنت السينما على اساس نص، فقد
تحددت اهمية النص بالنسبة للشريط السينمائي في وقت مبكر من
تاريخ الفلم ورغم المحاولات التجريبية الاولى لرواد صناعة
الفلم (لومبير وميلييه) التي ابتدأت بها السينما، وهي
محاولات وثائقية (تصوير قطار لحظة دخوله المحطةاو خروج
العمال من المعمل)، مع ذلك فان عبقرية احدهما وهو ميلييه-
تجلت كما حددها سادول- في استعماله (بصورة منتظمة) في
السينما وسائل المسرح،كالقصة السينمائية، والممثلين،
والملابس، وتقسيم الفلم الى مشاهد وفصول.. الخ، كل هذه (المكتسبات)
التي استمرت السينما بالاحتفاظ بها الى اليوم.
مع التطور المتسارع لفن السينما، تكوّن شكل السيناريو ببطء.
ففي عصر الفلم الصامت كان السيناريو يسجل على شكل مجموعة
من اللقطات-المقاطع القصيرة والمرقمة يُسجل في كل منها
باختصار الجوانب الخارجية من عناصر المشهد، وحركات
الممثلين، وبدلاً من الحوار هناك التعليقات المكتوبة التي
تظهر بين اللقطات ومع الكشوفات العظيمة في مجال المونتاج
للرواد العظام (غريفيت وايزنشتين وبودوفكين)، أعطيت
للسيناريو اهمية اكبر في السينما الصامتة، فقد احتل
المونتاج دوراً مهماً في تحديد شكل السيناريو وتكوين
المشاهد الدرامية فيه واضحى السيناريو واحداً من الحلول
الفنية في التكوين البصري للفلم.
مع مجيء الصوت، ودخول الفلم عصر السينما الناطقة، احتاجت
السينما ان تخوض اشرس معاركها كي تؤكد استقلالها الفني
امام المسرح، حيث اصبحت الافلام عبارة عن مسرحيات مصورة،
واتجه مؤلفو السيناريو في بداية عهد السينما الناطقة الى
وضع الجانب الصوتي (ومن ضمنه الحوار) والجانب البصري
منفصلين في السيناريو، واخذت السيناريوهات تقترب اكثر
فاكثر من شكل المسرحية مع هيمنة الحوار على نسيج الفلم..
وبدأ السيناريو يفقد مكانته، لان تصوير المسرحيات على
الشاشة تصويراً حرفياً جعل السينما تقوم بعمل الآلة فحسب
لكن السيناريو- وبفضل الافلام الفنية- اكتسب من خلال الفلم
الناطق اهمية استثنائية حيث لم يقتصر على تحديد الحوار، بل
في وضعه بصورة متناغمة مع المشهد وبتأثير المتغيرات
الجديدة هذه، التي مرّ بها فن الفلم، تعاظم دور النص
السينمائي،واصبحت نصوص الجزء الاكبر من الافلام اعداداً عن
مصادر ادبية، ومن هنا نشأت اشكالية العلاقة بين الفلم
والادب وهي اشكالية احتلت مساحة واسعة من الجدل الى يومنا
الحاضر وهو جدل منطقي حينما نسلم بان الادب والفلم "يميلان
الى حل المعضلات بصورة مختلفة، وان المحتوى الحقيقي لكل
وسط خاضع للتحكم العضوي للشكل".
هكذا تحقق الطبيعة الجديدة للسيناريو نضجه، ويصبح فناً
ادبياً مستقلاً.. ويغدو له كتابه المتخصصون، اضافة الى
لجوء كثير من كتاب الادب الى الكتابة للسينما.
ان هذا التحول الذي شهده السيناريو، وتعاظم اهميته في صنع
الافلام، طرح تساؤلات كثيرة حول جدوى الاعداد الادبي في
السينما، والمصادر الادبية المهيأة اكثر من غيرها لهذه
الاعداد، وتثبيت هوية السينما بوصفها فناً بعلاقتها مع
الادب (الرواية بشكل خاص).
لقد توصلت السينما خلال تاريخها الى تكوين ابعاد جمالية،
واوجدت للشريط السينمائي قواعده الفنية ولغته (خصائصه
السينمائية).. وهذا يفرض ملاحظة المسافة التي تفصل الفلم
عن الكتاب.. بعض المعلقين يعتقد- كما كتب جانيتي- بانه اذا
وصل العمل الفني ذروة قدرته التعبيرية في احد الاشكال
الفنية فان الاعداد سيكون حتماً ادنى من الاصل، وطبقاً
لهذا الجدل، لا يمكن لأي اعداد عن رواية "موبي ديك" مثلاً
ان يضاهي الاصل- لم ينجح هيوستن في ان يكون اميناً على
الرواية ولا لأي رواية الامل في تجسيد فلم "المواطن كين"
لويلز.. في حين يرى البعض في فن السينما بانه تطور تاريخي
يكمل ما اراد الروائيون ان يتوصلوا اليه منذ القرن الماضي،
وذلك بطريقة غير مباشرة "عن طريق مضاعفة الوصف وتغيير
الالفاظ وتثبيت نقل وجهات النظر"- لنتذكر قراءة ويلز
لرواية المحاكمة لكافكا وهذا يفسر كما نرى- نجاح الافلام
التي تعتمد على مصادر ضعيفة، فلم "مولد امة" مثلاً اقتبس
عن رواية رخيصة لتوماس ديكسون بعنوان "رجل القبيلة" وهو ما
يبرر من وجهة اخرى- صعوبة الاعداد السينمائي عن الاعمال
الادبية الكبيرة.
السينما الحديثة كما تراها ماري كلير روبار- تتجه الى ان
تكون تركيبية اكثر منها مرئية، وغير مباشرة اكثر منها
تصويرية.. وهذا ما يجعلنا نفكر، في ان السينما الحديثة وان
استطاعت تحقيق بعض التطلعات الادبية، فهي في نفس الوقت،
تتفق مع تطلعات سينمائية قديمة رجوعا نحو السينما الصافية)
وهذا ما يجعلنا نميل الى رفض اعتماد السينما على الادب.
من وسط هذه المعضلات، تبرز الكتابة للسينما بوصفها عملية
ذات طراز خاص، تمتلك مقوماتها الفنية، تتشكل لتصبح لوناً
آخر من الكتابة يحقق وهو المهم- متطلبات فن الفلم،
وتبرزالفكرة بدورها عاملاً حاسماً في تحديد البعد الدرامي
للفلم ومهما تكن الفكرة بسيطة فان الفلم يتناولها، ويوسعها
في خط درامي، وتسهم العناصر الفلمية في تحويلها على نحو
سينمائي، لا يقدم مجرد الوسيلة السينمائية، بل يبدع فناً
سينمائياً.
مادة الموضوع وحدها لا يمكن ان تكون مؤشراً يعتمد عليه
للنوعية في الفلم، ان على السينمائي ان يترجم موضوعه الى
اشكال خاصة بوسيلته التعبيرية ووفق هذا المنظور، ستبدو
رواية عظيمة مثل (الجريمة والعقاب) مجرد قصة عادية كما
المح انطونيوني مرة-، فعبقرية الرواية تكمن في كيفية سردها
وليس في مادة الموضوع وهذه فكرة مضادة للادب كما يعتقد
جانيتي- وهي تعزز ما اوردناه سابقاً بان عدداً كبيراًُ من
الافلام الممتازة انما اعتمدت على نصوص ضعيفة.
ومصدر الافكار في السينما يُقدم كما في اي فن- من خلال
الحقيقة الواقعية للحياة، هذه الحقيقة التي لا يمكن ان "تُستنفذ"..
ومن المناسب في هذا المجال ان نلجأ الى اراء دستويفسكي حول
اقتناعه بان الافكار العميقة حقاً "تقدمها الحياة
الاعتيادية (الجارية)" فمن ملاحظة تصدر عنه يقول "تتبعوا
حقيقة من حقائق الحياة الواقعية، حقيقة لا تبدو بارزة جداً
للوهلة الاولى، واذ كنتم تتحلون بالقدرة الكافية، واذا
كانت لديكم عين تبصر، فانكم واجدون دون شك في هذه الحقيقة
عمقاً لا نصادفه حتى عند شكسبير غير ان كل المسألة تتوقف
على ما ياتي: في نظر من ومن الذي ستتوفر لديه هذه القوة؟
حقاً.. انه من اجل ان نلاحظ الحقيقة فقط فلا بد من فنان"..
ودستويفسكي يرى بانه من اجل ان تحصل على افكار عميقة لابد
من قراءة الصحف ففيها "نصادف عرضاً باكثر الحقائق واقعية
واكثرها تعقيداً".. ولدى الفنان المراقب ليست القضية كما
يشير دستويفسكي- قضية مادة، بل قضية عين، فان كانت هناك
عين ستكون المادة حتماً موجودة "وقد ترى عين موضوعاً هناك
حيث ترى عين اخرى مجرد تراكم".. فهي اذن قضية الانغمار
كلية في "الحياة الجارية" والكشف فيها عن الدرامات الجديدة
والعظيمة، وعن المعنى العظيم الذي لم يكن ما يماثله.
ان غوغول - يعتقد الباحث كوزينوف- اول من سار في هذا
الطريق، الذي قطع فيه دستويفسكي خطوات عملاقة فيما بعد وقد
اطلق دستويفسكي على غوغول اسم الشيطان الذي "صنع لنا مأساة
فظيعة من معطف يفقده موظف"... بعد ذلك بقرن وفي مجال فن
الفلم سيضع لنا "شيطان" الواقعية الايطالية الجديدة "جيزار
زفاتيني" مأساة لا تقل فظاعة عن دراجة يفقدها عامل.
هذا الامر يعبر لنا عن الافكار العظيمة التي يمكن ان تخرج
عن تفصيلة تافهة، فقط لو توفرت "عين الفنان".
وقد تجلت ثورة الواقعية الايطالية الجديدة بالتزامها بهذه
الطريقة الفنية في الابداع السينمائي بشأن الفكرة، فمن
الممكن خلق فلم كبير من فكرة بسيطة.. لذا فقد ارست هذه
المدرسة دعائم الحل البصري للفلم وكرست اهمية العناصر
السينمائية مجتمعة في تشكيل العرض المؤثر، واكدت على
الجانب البصري وهو روح السينما- في عملية الابداع في فن
الفلم.
كما ان هذه المدرسة مهدت.. كما نحسب لاتجاه السينما نحو
فكرة "سينما المؤلف" (التي تميل الى اعطاء المخرج الاهمية
الاكبر من خلال كتابة افلامه او مساهمته بها)، والتي
اعتبرت المعالجة الفلمية هي المهمة في الحكم على قيمة
الفلم وليس موضوعه، اذ كلما كان الموضوع صغيراً كما يرى
كلود شابرول- استطاع المخرج ان يقدم "معالجة كبيرة" وان
المواضيع المتواضعة هي الاغنى من ناحية الامكانية الفنية
وهذا يحدث فقط حين تتوفر الموهبة الاخراجية التي يتحدث
عنها ميخائيل روم- لدى المخرج، الذي يمتلك مخيلة حية
ملموسة وغنية، والقادر على استخدام التفاصيل، والاهم من
ذلك الذي لا يفتقر الى الحس الدرامي الحاد.. حين تتوفر مثل
هذه الموهبة، فان اي فكرة سيكون لها محتوي تأثيري مهم
ودورها في تشكيل الفلم الجيد.
خلال هذا الاستعراض السريع لتطور الكتابة للسينما، وما
ينبغي ان تكتسب هذه العملية من خصوصية ضمن الفهم الشامل
لكيان فن الفلم، باعتباره فناً مستقلاً..نبّشر مع "استروك"
بعصر السينما الجديد، الذي سيتاح لها فيه ان تصبح وسيلة
للكتابة، تكون على مهارة ومرونة اللغة المكتوبة..وسوف "لا
يكون اي مجال محظوراً عليها".. فالمدى التعبيري الفريد
لهذا الفن المتجدد يجعل من السينما قادرة على تصوير الواقع
مهما كان لا متناهياً وحتى تجاوزه، وكل التأملات البشرية
والأفكار والنظرة الى العالم، باتت اليوم في وضع لا يجعل
اي شيء غير السينما قادراً على الاحاطة بها.. اذ تبقى
السينما كما يصفها بازوليني- هي "المشهد اللامتناهي".
|