الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الوَضُوْء بالدم: أُهَلَّ بالذبائح لوجه مَنْ : ابن درهم وجونسون وكي مون؟

رشيد الخيُّون

يجول شبحٌ الإرهاب في نواحي العراق كافة، يفوق خَطبه التصور والذاكرة، وقد لا نجد في التاريخ، رغم بشاعة العذاب الذي لبسَ أيامه ولياليه، مثيلاً لما يحصل من قتل جماعي وجنون دموي منفلت العقال. نعم نحر خالد بن عبد الله القسري الجعد بن درهم، بسبب قولة كلامية، يوم عيد الأضحى، بعد أن قال لمن حوله من المصلين صلاة العيد: (أنصرفوا تقبل الله منّا ومنكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم) (مختصر تاريخ ابن عساكر). ويضيف النديم بقوله: (جعله بدلاً من الأضحية) (الفهرست). لكن خالداً كان أميراً نفذَ إرادة الخلافة، التي قتلته فيما بعد شر قتلة، وكان الجعد متكلماً، يدرك هول القول بخلق القرآن، وهول تهمة تكذيب تكليم الله لموسى بن عمران. ذبح القسري ابن درهم ذبح الشاة، وما يحيط عملية الذبح من بسملة وتكبير وصلوات.

أعاد مشهد ذبح الرهائن الأمريكية والكورية دماء الجعد بن درهم إلى المخيلة، وهي تلوث أنطاع (النطع جلد يوضع تحت رأس المذبوح حت لا تلوث دماؤه المكان) إرهابيي اليوم، ذبحوا ضحاياهم بدم بارد، لا توقفهم حرمة للأسير ولا مسالمة ولا عزلة سلاح. ذبح الرهائن أيضاً ببسملة وتكبير وصلوات وإحتفالية يتناثر فيها الدم، تكفي وَضُوْءاً للصلاة في محراب القسوة والعنف والتدمير. ومن البشاعة بمكان أن تقطع الرقاب بسكاكين عمياء، لا تميت حتى تريح المذبوح، وهو فن من فنون عذاب المذبوحين. أذكركم بعذاب الذبح والجرح مع تأخير الموت بما قاله عمرو بن سعد بن أبي وقاص، قائد جيش الأمويين بكربلاء، لذابح الإمام الحسين سنان بن أنس: (أنزل ويحك إلى الحسين فأرحه، فقال سنان لخولي بن يزيد احتز رأسه، فبدر خولي ليحتز رأسه فضعف وأرعد، فقال له سنان، وقيل شمر، فتَ الله في عضدك مالك ترعد، ونزل سنان، وقيل شمر، إليه فذبحه ثم احتز رأسه الشريف ... وأقبل القوم على سلبه... وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي، وقطع إصبعه مع الخاتم). والذين سلبوا الحسين لم يحتاجوا لثياب ومتاع بقدر ما كان تلبية للسنَّة، فقد ورد عن أبي قتادة، السابق لا الحاضر، ما نصه (مَنْ قتل قتيلاً له عليه بيَّنة فله سلبه) (صحيح البخاري، فرض الخمس).

Text Box: الوضوء  عدد156 ص 8  عامر

 

وأذكركم بعذاب الذبح الذي تعرض له خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان بأيدي عرب مسلمين، صحابة وأبناء صحابة وأتباع، بعد حرمان من الماء، رغم أن البهائم لا تذبح إلا بعد ريها واشباعها. أنقل لكم ما فعله السلف، المعبود اليوم، بعثمان بن عفان: (كان أول مَنْ دخل الدار عليه محمد بن أبي بكر (الصديّق) فأخذ بلحيته، فقال: دعها يا بن أخي، والله لقد كان أبوك يُكرمها، فاستحيا وخرج، ثم دخل عليه رُمان بن سرحان، رجل أزرق قصير محدود، عداده في مراد، وهو من ذي اصبح، معه خنجر فاستقبله به، وقال: على أي دين أنت يا نعثل (لقب لقبته به أم المؤمنين عائشة)، فقال عثمان: لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، قال: كذبت، وصر به على صدغه الأيسر، فقتله فخرّ، وادخلته امرأته نائلة بينهما وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة، ودخل رجل من أهل مصر معه السيَّف مُصلتاً، فقال: والله لأقطعنَّ أنفه، فعالج المرأة، فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السيَّف، فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان، يقال له رباح ومعه سيَّف عثمان: أعنَّي على هذا وأخرجه عني، فضربه الغلام بالسيّف فقتله، وبقي عثمان، رضي الله عنه، مطروحاً إلى الليل، فحمله رجال على بابٍ ليدفنوه، فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبراً قد كان حُفر لغيره، فدفنوه فيه) (ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب). أترون أن المدينة كانت فارغةً من الصحابة، فسكتوا حتى حزَّ رأس عثمان بن عفان، أم كانت على دين غير دين الإسلام أو قوم غير الأنصار والمهاجرين، وقد أفرغها عمر بن الخطاب من اليهود والنصارى؟

الذبح هو الذبح أباحه السلف وتمثله الخلف، وبهذه الروحية ذبح الشبان الشيعة والكرد بالفلوجة، وذبحت عميدة كلية الحقوق وزوجها، وذبح الرهينة الكوري وهو خير من ذابحيه ألف مرة، لأنه وصحبه أتوا لمداواة جرح العراقيين بينما أتى هؤلاء الملثمون لقتلهم، وحملهم على هجرة بلادهم لتكون إمارة بعد فَقدِ فردوسهم بافغانستان، ليعيدوا لهم مجد المقابر الجماعية والمقاصل اليدوية. هذا الكوري أشرف وأنبل من هؤلاء مثلما الحسين بن علي أشرف من ابن الصحابي سعد بن أبي وقاص، ومثلما الشيخ محمود طه أشرف من حسن الترابي وأنبل وكان المحرض على قتله، ومثلما المقتول فرج فودة أشرف من المحرضين على قتله أمثال محمد عمارة ومحمد الغزالي. الكوري البوذي جاء يطبب جراحنا والزرقاوي المسلم جاء يجهز على بقية حشاشة فينا. الكوري جاء بترياق ينقينا من سموم البعثيين المتراكمة في أبداننا وتربتنا ومياهنا، وأمثال أبي حفص وأبي الحكم وسواهما جاءت تنشط السم فينا، وتبحث عن حفيد نبوة آخر تذبحه بكربلائنا.

 مَنْ منكم لم يرَ بهيمة يؤتى بها للذبح، هل تخيلتم عذابها الصامت وهي تُقدم إلى المنحر موثوقة بحبال، هل فاجأتكم عيناها المرعوبتان، ورغاها الأجش. تخيلوا عذاب المذبوحين من عراقيين وأجانب. أجانب عشنا بأرضهم نصلي صلاتنا ونصوم صيامنا، ويدفعون لنا مصروفات مساجدنا وحجنا، ورجال دين منا يكذبون ويزيفون قوائم المصروفات، ويبيحون سرقة المحال التجارية، ويرون مدن أوروبا ديار حرب لا هجرة.

أديان وأعراف أرعبتها هذه المشاهد فتركت إيذاء الأنعام، كيف تذبح ما يدر لبناً ويفرُّ ناعوراً ويحرث أرضاً. أما أعرافنا فلها رأي بذبح الإنسان ناهيك عن الحيوان وإيذائه، أي يذبح مَنْ أرتد عن الدين وخالف جماعةً، وشتم سلطاناً، واعتقد اعتقاداً تاماً! نحن في مقدمة عوالم القسوة إن كانت تميزها عوال ودرجات، نمارس الدين بالعنف والعاطفة والحب بالعنف، والسياسة بالعنف، ونتبادل العتاب بالعنف، ومع ذلك نعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس، ونعتقد أن أخلاقنا مثالية، وعاداتنا أرقى ما وصلته البشرية!

يُذكر ذبح الرهائن الآمنين وجعل رؤوسهم المقطوعة فوق ظهورهم بدكاكين الجزارين في الدولة القرمطية بالبحرين، شاهد الرحالة ناصر خسرو (القرن الخامس الهجري) ذبائح الأنعام فوق كل منها رأسها، حتى يعرف المشتري ماذا يشتري، لحم أباعر أم أبقار أم أغنام، وهكذا وضع رأس الأمريكي بالرياض فوق ظهره لتعرف جثته.

لفصل الروؤس عن أجسادها تاريخ (مجيد) في حضارتنا، بل وبدار الخلافة كانت هناك دائرة أو خزانة تعرف بخزانة الرؤوس. الرؤوس التي يؤتى بها شواهد على الانتصارات. فإن حولت أوروبا مقاصل تاريخها إلى متاحف تثير في الحاضرين كراهية العودة إلى الوراء فنحن نعود مهرولين إلى خزانة رؤوس دار خلافتنا، ونحاول بعث فُرق حاملي الرؤوس العثمانية من سنجار الأيزيديين إلى استانبول، واحدة منها حملت ثلاثمائة رأس أيزيدي.

جماعات الإرهاب، التي ترى الدين الصحيح هو دينها والذبح لمَنْ عداها، أعادت إلينا ممارسة ذبح الأسرى ورمي الرأس في أحضان أهله، وإن سنَّ ممارستها الصحابي وكاتب الوحي والخليفة الخامس معاوية بن أبي سفيان فإن السائرين على خطاها يحرصون على تصوير مشهد الذبح وبثه عبر قنوات تلفزيونية متبرعة لخدمتهم، وعبر شبكات الأنترنيت، ولو أمتلك معاوية هذه الحداثة لما رمى الرؤوس في أحضان الزوجات، أو الآباء أو الأمهات بل بثها أفلاماً من قنوات الشر والإرهاب.

أذكركم بشيء من أخبار هذه الممارسة: قتل معاوية عمرو بن الحمق الخزاعي، فرفع رأسه على الرمح من الموصل حتى دمشق، وكانت زوجته محبوسة رهينة، فرموا رأس زوجها في حِجرها(تاريخ اليعقوبي)، وقيل كان معاوية (أول مَنْ حبس النساء بجرائر الرجال). وذُبح الإمام الحسين بن علي، والسبعون من آله وصحبه، وسيرت رؤوسهم مرفوعة على أسنة الرماح، أمام عيون النساء والأطفال، ولا زال مكان دفن الرؤوس محل اختلاف بين الأتباع، فقد دفنت الأجساد بكربلاء وسيرت الرؤوس إلى الشام، وما مناسبة عودتها أو مردها إلا حيلة أحتالها المحبون، لستر عورة التاريخ وكأن لسان الحال يقول: ماذا تقول فينا الأمم وقد دفنا ابن بنت نبينا بلا رأس؟ فالذين نحروا رأس الحسين كانوا أبناء صحابة، والمشهد أُخرج أمام أنظار صحابة أيضاً.

 ومما جمعه عبود الشالجي في (موسوعة العذاب) أن رمى هشام بن عبد الملك رأس الإمام زيد بن علي في حِجر والدته، وكم هي المحنة عظيمة أن تتلقف أمٌ رأس ولدها يتدرج فاغر الفم مدمى؟ ورمي رأس مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، في حِجر ابنته، ورمى أبو جعفر المنصور رأس إبراهيم أخي محمد النفس الزكية في حجر والده عبد الله بن الحسن وهو مسجون في مطبقه، ورمي رأس المعتز بالله في حِجر جاريته، ورمي رأس ابن الفرات في حِجر والده الوزير قبيل ضرب عنق الأخير، وذبح القائد علي بن بيلق ورمي رأسه في حِجر والده، وبعد ذبح الأب أُخذ الرأسان إلى مطلوب آخر، فبعد فزعه بهما ذبح ذبح الشاة أمام عيني القاهر بالله خليفة المسلمين وأمير المؤمنين. والأنكى من هذا أن يذبح الابن ويطعم من لحمه الأب، أو يُقطع لحم المطلوب وهو حي ويدس في فمه، وهكذا دار دولاب العذاب وعظم الخطب إلى زمان يحاول فيه ابن لادن اقناعنا بأمارة عادلة يمنع فيها صوت المرأة وشفرة الحلاقة ولبس ربطة العنق ويحرم على الأطفال اللهو بطائرة الورق.

فهل نرجو ممَنْ تسمى بتلك الاسماء وتكنى بكناها، من أبي حفص إلى أبي الحكم، غير عودة تلك المشاهد المخزية؟ يمارسونها وهم طرائد فكيف لو صفت لهم الدنيا وأصبحوا ولاة أمر؟

التحالف بين البعثيين وجماعة الإرهاب الديني، مبني على الإخلاص لعروبة الغزو والقهر لا الفكر والمكارم، وعلى إسلامية القتل لا تسامح أبي حنيفة ولا إنصاف علي بن أبي طالب ولا فلسفة ابن سينا، فليس هناك حلف أقدس من حلف أصحاب ثرامات لحوم البشر والقبور الجماعية مع ناسخي آيات المحبة والوئام الاجتماعي بآية (السيف) (التوبة 5). لقد اندفع الاثنان إلى الذبح والعذاب والتدمير بشدة. وما يزيد تحالف أقطاب العنف والقتل قداسةً أن الطرفين من حواريي أمريكا السابقين، أوصلت الطرف الأول إلى الحكم لفترتين وأوصلت الطرف الآخر إلى نضجه الإرهابي عبر ممر خيبر على حدود أفغانستان.

وإيغالاً بالمشهد الدموي كتب البعثيون آي القرآن بوشلة من دم أمينهم صدام حسين، الملوث بأدران التاريخ، رغم أنهم يدركون تماماً أن الدم ثاني الثلاثة المحرمات حكماً ولفظاً في الإسلام. لكن مَنْ يحرق القرآن ليتهم به خصمه هل تراه يتردد من جعل الدم حبراً له؟ جاء في القرآن: (إنما حرَّمَ عليكم الميتة والدَم ولحم الخنزير)، و(قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير).

كانت جرأة البعثيين على كتابة القرآن بالدم، المحرم أكله وشربه ولمسه اليابس منه والمائع، رسالة إلى العراقيين تقول: إن المتَوضَّأَ هو نحوركم والوَضُوْء هو دماؤكم، فما أنتم فاعلون؟ وتقول: أنتم ماشيتنا وطريدتنا في سريتنا وعلانتينا، سواء كان ذلك في حلفنا (المقدس) مع أمريكا أو في حلفنا (المقدس) مع الذئاب الهائجة.

دخلت عبارة (حلال الدم) قوية في تراثنا الفقهي، فكم من فتوى قتل نطق بها المفتون، وواجههم فيها الضحية مواجهة الحلاج (لما أتي بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير ضحك كثيراً حتى دمعت عيناه)، إنها المأساة عظمت فتحولت إلى ملهاة، ولا يفوتنا القول (شر البلية ما يضحك). وعبارة مثل: (حلال الدم) و(معصوم الدم) أو(حرام الدم) إشارت إلى أحكام الموت والحياة. لو تعلمون مغزى تحريم الأديان لأكل وشرب الدم لعلمتم كم هي الشعوب التي حرمت عقوبة الإعدام قريبة من العدالة الإلهية ومؤمنة بالله، وحافظة لعهده.

لأن الدم هو الروح، وذبح الحيوان قرباناً هو إهداء دمه لوجه الله، هكذا اتفقت الأديان، والروح كما تعلمون (من أمر ربي) سر من أسراره تعالى. وإلا ما سر البسملة والتكبير وتوجيه رأس الحيوان إلى القبلة، إذا لم يكن الدم من حق الله فقط؟ إن مرجعية تحريم تناول الدم في الأديان لأنه (ماء الحياة) وسر إلهي في الأبدان، ورد في التوراة: (دم ذبائحك يراق على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله)، و(أحذر أن تأكل الدم فإن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم). فهل رأيتم قرباناً نباتاً أو جماداً، والسبب لأنه خال من الدم، الذي أجتهد الإنسان أن يكون من حق الله. فما بين الأنساب علاقة دماء لا لحوم وعظام، وإراقة دم أمام عتبة الدار الجديدة ترضي الرب كما يزعمون، فكم هي صعبة معادلة الدماء حتى يستسهل سفكها الملثمون.

كانت حكمة تنقية الذبيحة من الدم، يعني خلوها من بقية الروح التي هي لله لا لغيره، أما الإنسان فله اللحم والعظم وما بينهما من شحم وغضاريف. وقداسة الدم لا دنسه هي سر تحريمه، هذا في الحيوان فكيف بدم الإنسان؟ هل سيقبله الله قرباناً من أيادي ملثمين متأبطين شراً؟ هل عين الله دين خليفته على الأرض حتى يذبح ويقدم دم غير المسلم قرباً، وهل عينه سنّياً كي يُجاز ذبح الشيعي، وهل عينه حنبلياً سلفياً كي يذبح بقية أهل المسلمين؟ هل تريدون اقناعنا أن الله خلق الخلق لتذبحوهم أنتم؟ سؤال أقدمه للجزارين: هل أفرغتم أجساد ذبائحكم من الدماء، وهل وجهتم نحورهم إلى القبلة، أما تكبيراتكم وبسملتكم وصلواتكم فقد سمعناها، إنه الذبح الحلال والجنة بانتظاركم.

يا أمة مذبوحة بجهلها، والله لو خرج النبي محمد بن عبد الله اليوم وسمح للمستأمن والمعصوم الدم أن يصلي بصلاته في مسجده، مثلما فعل مع نصارى نجران، وصرخ فيكم قائلاً: (لا إكراه في الدين) لسمتوه عذاب قريش وثقيف. والله لو خرج اليوم عمر بن الخطاب ولامكم على إيذاء أهل الكتاب، مثلما فعل مع أحد عماله، لشهرتم بوجهه خنجر أبي لؤلؤة وقتلتموه، والله لو خرج اليوم علي بن أبي طالب وصرخ فيكم قائلاً: البشر (أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) لأعدتم فعلة عبد الرحمن بن ملجم فيه وقتلتموه. لا سنَّة تتبعون غير سنَّة خالد بن الوليد بابن نويرة، وسنَّة معاوية بن أبي سفيان في حجر بن عدي، وسنَّة الحجاج بن يوسف الثقفي في سعيد بن جبير، وسنَّة لا مثيل لها في القسوة، أحياها أحد الفقهاء في مذهبه تقول: (لو وجدَ مضطراً آدمياً غير معصوم كالحربي والمرتد فله قتله والأكل منه عند الشافعية، وبه قال القاضي من الحنابلة، واحتجوا بأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع والله تعالى أعلم) (الشنقيطي، اضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). نعم الله تعالى أعلم، وهو أعلم من الشنقيطي بمروءة الإمام الشافعي وعفة الإمام أحمد بن حنبل وزهده. لقد مات الأفارقة والهنود جوعاً ولم يحتاجوا إلى فتوى تجيز لهم أكل لحوم البشر!

أيحسب تابعو سنَّة المذكورين كم يؤذون الدين بتقديم ضحيتهم، كما هو الذبيح الكوري بان كي مون والذبيح الأمريكي بول جونسون، وخلفهم عارضة كتبت عليها الشهادتان؟ أم أنهم يؤسسون لدين آخر، حسب مقاسات فقهائهم وأمرائهم؟


ستصدر عن (المدى) الفلكلور والعلوم الانسانية

دمشق/ ابراهيم حاج عبدي

على الرغم من أن الفولكلور علم قائم بذاته له نظرياته ومناهج بحثه ومصطلحاته العلمية ودورياته ومجلاته المتخصصة، فإنه لا يمكن دراسة هذا العلم بمعزل عن العلوم الأخرى في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية. الفولكلور يرتبط بالعلوم الأخرى بعلاقة متبادلة تتمثل في تطبيق بعض النظريات ومناهج البحث الميداني، وفي الإفادة من أنماط الإبداع الشعبي بصورة أو بأخرى، فلا شك أن الباحث في مجال المأثورات الشعبية يؤثر في العلوم المختلفة ويتأثر بها، ويطور أساليبه ومفاهيمه العلمية تبعاً لتطور الحياة الإنسانية. ومن المعروف أن الدراسات الأكاديمية للمأثورات الشعبية قد نشأت على أيدي مختصين في مجالات أخرى. فالأخوان وليم وجاكوب جريم أحدهما عالم لغة والآخر مختص في علم التاريخ. لذا فإن انعكاس هذين التخصصين كان واضحاً في دراستهما للحكايات الشعبية الألمانية التي ركزا فيها على استنباط الخصائص القومية للغة الألمانية، وتتبع تاريخ نشأة الحكاية الشعبية وربطها بالأساطير التي انحدرت من أصول هندية-أوروبية وكان هدف الأخوين جريم تأكيد أهمية اللغة الألمانية والتراث الألماني بوصفه تراثاً متميزاً في حقبة سادت فيها الحركات الرومانسية في أوروبا، واهتم فيها العلماء بتأكيد قومياتهم. وتبع الأخوين جريم كثير من الباحثين الذين وضحت طبيعة تخصصاتهم بتحليلهم للمادة الشعبية. ومن هؤلاء أندرو لانج، الذي ربط بين علم الأساطير وعلم الأنثروبولوجيا وعلم الأثنوجرافيا. وادوارد تيلر، أبو المدرسة الأنثروبولوجية، الذي دعا إلى دراسة الإبداع الشعبي على أنه حقائق تاريخية يجب التعمق فيها لاكتشاف الموروثات الثقافية المتضمنة فيها من أفكار ومعتقدات تراكمت لدى الإنسان منذ بداية نشأته، وجورج جوم الذي صنف الفولكلور على أنه علم تاريخي، وغير هؤلاء كثير ممن فسروا المادة الشعبية من منطلق تخصصاتهم المختلفة. وهكذا نرى أن الدراسات الشعبية قد قامت في بداية نشأتها على أكتاف باحثين في علوم أخرى كالتاريخ وعلم الأساطير وعلم اللغة والأنثروبولوجيا وغير ذلك من العلوم التي أثرت في نظرة أولئك الباحثين وفي تحليلهم لمواد الإبداع الشعبي. ولكي نستعرض الصلة بين الفولكلور والعلوم الإنسانية لا بد أن نلاحظ، لا مجرد الأثر الذي تركته العلوم الأخرى في مجال الفولكلور فحسب، بل مؤثرات علم المأثور الشعبي في تلك الميادين. فالصلة إذاً ليست مقصورة على التأثير، بل تشمل التأثير والتأثر على حد سواء.  الفولكلور والأنثروبولوجيا: الأنثروبولوجيا من أكثر العلوم الاجتماعية التصاقاً بالفولكلور. فقد اعتنى الأنثروبولوجيون منذ القدم بدراسة النصوص الشعبية، وظهر كثير من النظريات الأنثروبولوجية التي أثرت في مدارس الفولكلور. ومن أهم هذه المدارس المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية بزعامة فرانز بواز، والمدرسة الوظيفية والمدرسة الانتشارية ومدرسة الارتقاء الثقافي. وعد الأنثروبولوجيون علم الفولكلور فرعاً من فروع الأنثروبولوجيا وسموه الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology، وقصروا هذا الفرع من الدراسات الأنثروبولوجية على دراسة أشكال التعبير الشفهية كالأغاني والحكايات والأمثال والحكم. وهذه النظرة الضيقة للمأثورات الشعبية استبعدت الكثير من أنماط الإبداع الأخرى كالعادات والتقاليد والفنون التعبيرية والثقافة المادية. إلا أن علماء الأنثروبولوجيا قاموا مؤخراً بضم الفنون التعبيرية كالرقص والتمثيل والموسيقى وكذلك النحت والرسم والزخرفة إلى مجال الدراسات الفولكلورية. وتجدر الإشارة إلى أن نظرة الأنثروبولوجيين للإبداع الشعبي كانت ولا تزال نظرة إيجابية، فقد عدوا الفولكلور الوسيلة الأساسية لدراسة ثقافة الشعوب لأن المادة الشعبية ذات طبيعة عالمية. فلا توجد جماعة، مهما كانت درجة تطورها، دون إبداع شعبي. فالفولكلور يربط الجماعات البدائية بالشعوب المتطورة ثقافياً. ورغم أن المأثورات الشعبية تشكل في نظر علماء الأنثروبولوجيا جزءاً من ثقافة المجتمع وليس الثقافة ككل، فإنهم عدوا الدراسات الأثنوجرافية التي لا تعنى بالفولكلور دراسات ناقصة وضعيفة. لذلك كان الفولكلور مادة مهمة لتقييم المؤسسات الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع. وتصنيف الأنثروبولوجيين لكل ما يتناقل شفاهياً مأثوراً شعبياً هو من الأخطاء التي ارتكبوها في مفهومهم للمادة الشعبية، لذلك لم يوفقوا في التمييز بين الإبداع الأصيل Folklore  والإبداع الزائف Fakelore الذي يفتقر إلى السمات الأساسية التي تميز النمط الشعبي عن غيره من ألوان الإبداع. كما فشلوا في إدراك بعض الظواهر المهمة في المأثور الشعبي كالتداخل الثقافي acculturation  ومدى تواؤم الفولكلور مع ظروف الحياة المعاصرة. ومن مظاهر الخلاف بين الباحث في مجال الأنثروبولوجيا والباحث في حقل الفولكلور عناية الأول بالبحث في ثقافات أجنبية خارج حدود موطنه، واهتمام الثاني بدراسة البيئة التي ينتمي إليها لإيمانه بقدرة المواطن على فهم مجتمعه دون عوائق من عادات وتقاليد ومفاهيم اجتماعية ولغة أجنبية ربما تحتم قضاء فترة طويلة في الميدان والاستعانة بمترجم قد يحرف، عن قصد أو دون قصد، مضمون المعلومات الميدانية التي ينقلها إليه. ولا يعني ذلك تجاهل باحثي الفولكلور ثقافات الشعوب الأخرى. فكثير منهم صار يوجه عنايته نحو البحث في عادات وطبائع المجتمعات في الدول النامية. إلا أن مجتمعهم الأصلي ظل مجال الدراسة المفضل لديهم. وبرغم اختلاف علماء الفولكلور عن علماء الأنثروبولوجيا في بعض المفاهيم، فقد شهدت السنوات الأخيرة تقاربا ملموسا بين التخصصين نظرا لتطور الدراسات الفولكلورية في كل منهما.فقد اتجه الأنثروبولوجيون وعلماء الفولكلور نحو الاهتمام بالدور الإبداعي للفنان الشعبي ومدى التفاعل بين المبدع والنص والجمهور المستمع، والخصائص الفنية للنص الشعبي من حيث الشكل والمضمون إلى جانب العناية بالدراسات المقارنة. وتعد النظرية الوظيفية Functional Theory، التي تأسست على يد العالم الأنثروبولوجي فرارنر بواز وتلميذته روث بندكت، حلقة وصل بين المأثورات الشعبية والأنثروبولوجيا. وتقوم هذه النظرية على فكرة رصد وظيفة الفولكلور في المجتمع سواء أكانت تعليمية أم دينية أم اجتماعية أم ثقافية، فالفولكلور في رأي بواز،مرآة عاكسة لطبيعة المجتمع، أما في نظر بندكت، فهو وسيلة لخرق عادات وتقاليد المجتمع. وتتماثلُ مناهج البحث الميداني التي استخدمها علماء الفولكلور والأنثروبولوجيا، ويكمنُ الاختلاف فقط في بعض القضايا التي يعدها علماء المأثور الشعبي محور اهتمامهم ولا يعني بها الأنثروبولوجيون.  الفولكلور والأدب يعد الأدب الشعبي حلقة وصل بين أنماط الإبداع الشعبي وأنماط في الأدب الذاتي. ويتفاعل الأدب الشعبي مع غيره من الآداب بصورة مستمرة. فكما يعتمد الفنان الشعبي أحيانا على المصادر المكتوبة في استيحاء نماذجه الشعرية والروائية،يقوم أدباء معروفون باستلهام أنواع من الأدب المروي وتضمينها مؤلفاتهم. وقد يتجاوز الاستلهام، في بعض الأحيان، مجال الأدب إلى أنماط فولكلورية أخرى كالعادات والتقاليد ومظاهر الحياة الشعبية، ففي مجال الشعر مثلا، يوظف العديد من الشعراء المحدثين الأسطورة كدلالة رمزية. ويعد بدر شاكر السياب من أكثر شعراء عصره اعتمادا على الأسطورة ودَلَّ استخدام السياب لها على ثقافة واسعة في مجال الأساطير الشرقية والغربية التي اتخذ منها وسيلة للتعبير عن آرائه السياسية. إلى جانب إشارات السياب لبعض العادات والتقاليد المعروفة في البيئة الشعبية العراقية،والتي رمز فيها أيضا إلى أوضاع بلده المتدهورة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ففي قصيدة (المومس العمياء) وهي من أطول القصائد التي نظمها السياب، أورد حشدا كبيرا من الأساطير الإغريقية والبابلية والعربية. وقارن الشاعر في القصيدة بين المرأة التي تستباح وبلده الذي يستبيحه المحتل الأجنبي. ويشبه عيون المستعمر المتحجرة بعيون ميدوزا التي تحوّل كل من ينظر إليها إلى حجر. كعيون ميدوزا تحجر كل قلب بالضغينة: وميدوزا، في الأسطورة الإغريقية، فتاة جميلة مغرورة، ادعت أنها لا تقل جمالاً عن أثينا آلهة الفنون والعلوم والحكمة، فحولتها إلى حيوان قبيح الشكل، يتحول كل من ينظر إليه إلى حجر. ويشير في نفس القصيدة إلى أسطورة (أبولو) إله الشمس، الذي عشق (دفني) ابنة أحد آلهة الأنهار فحولها أبوها إلى شجرة لتنجو من ملاحقة (أبولو) ولكن كيوبيد ظل يرشق (أبولو) بالسهام ليزداد هياماً بالفتاة، يقول السياب: ستظل ما دامت سهام التبر تصفر في الهواء تعدو ويتبعها (أبولو) من جديد. وسهام التبر ترمز إلى سطوة المال وغلبة الطابع المادي على الجانب الأخلاقي والقيم الروحية في المجتمع. وترد في القصيدة أيضاً، إشارة إلى قصة (يأجوج ومأجوج) وهي من القصص القرآني، ولكن الخيال الشعبي أعاد صياغتها وأضفى عليها ملامح أسطورية. ويستعين السياب بهذه الأسطورة للدلالة على يأسه الشديد من تغير الأوضاع في بلده إلى الأحسن. والذي ربما يحتاج حدوث معجزة، كالتي حدثت لـ (يأجوج ومأجوج). يقول: سور كهذا حدّثوها عنه في قصص الطفولة (يأجوج) يغرز فيه، من حنق، أظافره الطويلة ويعض جندله الأصم، وكف (مأجوج) الثقيلة تهوي كأعنف ما تكون على جلامده الضخام والسور باق لا يشل وسوف يبقى ألف عام لكنَّ -(إن شاء- الإله) طفلاً كذلك سمياه سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير. و(يأجوج ومأجوج) اسم شعبين أو رمز شخصين أذنبا فكان عقابهما أن يلحسا سوراً هائلاً بلسانيهما، طول النهار، حتى يصبح بخف قشر البصل. وحين يدركهما التعب، يؤجلان العمل إلى اليوم التالي. ولكن في الصباح يعود السور على ما هو عليه من المتانة والقوة. حتى رزقهما الله بولد، أسمياه (ما شاء الله) فحطم السور. ولكن المعجزة التي أنقذت (يأجوج ومأجوج) من العقاب لن تنفع في إصلاح الأوضاع السيئة في العراق. فـ (ما شاء الله) رمز الأمل في مستقبل أفضل، بلغ سن الشيخوخة دون أن يستطيع تحطيم السور الضخم الذي يطوق تلك (المومس العمياء) البائسة ودون أن يستطيع إخراجها للحرية والنور. الطفل شاب وسورها هي لا يزال كما رآه من قبل (يأجوج) البرايا توأم هو للسعير وما عدا أسطورةَ (يأجوج ومأجوج) التي احتلت موضعاً راسخاً في سياق القصيدة، فإن باقي الأساطير المستخدمة، هي إشارات تاريخية عابرة، ربما كان التلميح لها وصهرها في نسيج القصيدة أفضل بكثير. فمثلاً أسطورة (أوديب) التي استخدمها الشاعر رمزاً للاستباحة العمياء لا تتجاوز كونها إشارة تاريخية لا تصلح رمزاً. بينما بدت أسطورة (بنيلوب) و(عولس) أكثر انسجاماً وتعبيراً عن ثقافة الشاعر الواسعة في هذا المجال حينما ألمح إليها في القصيدة قائلاً: إنك تقطعين حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلاً سواه وهنا يشير إلى (بنيلوب) وهي تحيك غزلها ثم تنقضه في انتظار عودة (عولس). وفي قصيدة (مدينة بلا مطر) يصور السياب حالة الجدب السياسي الذي تمر به العراق، كحالة مخاض متعسرة. فـ (تموز)، إله الخصب في الأسطورة البابلية، يوشك أن يصحو من (نومه الطيني) ويعود لبابل. ولكنه لا يعود. وتظل غرفات (عشتار). زوجة (تموز) وآلهة الحب، خاوية رغم القرابين التي يقدمها لها الناس لتمن على مدينتهم بالخير. مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب تحم دروبها والدور، ثم تزول حماها حتى يقول: صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب.. صحا (تموز) عاد لبابل الخضراء يرعاها وتوشك أن تدق طبول بابل، ثم يغشاها صفير الريح في أبراجها وأنين مرضاها وفي غرفات (عشتار) تظل مجامر الفخار خاوية، بلا نار. وفي (مرثية جيكور) استمد السياب رموزه من بعض العادات والتقاليد المعروفة في الريف العراقي. ليدلل بها على مظاهر التخلف الاجتماعي التي نجمت عن الفقر والاستعباد. كعادة إبراز العريس، في ليلة عرسه، منديلاً ملطخاً بالدماء ليشهد على أن العروس بكر. ثم يوفي على الجميع بمنديل عرسه المعقود نقطته الدماء يشهدن للخدر بعذراء يا لها من شهود ويعترف عبد الوهاب البياتي بأنه وجد في التاريخ والرمز والأسطورة (أقنعة فنية) للتعبير عن (المحنة الاجتماعية والكونية) ففي قصيدة (في المنفى) يستلهم أسطورة (سيزيف) ليوائم بين حالة (سيزيف) وحالة المنفي المشرد الذي يتجدد عذابه كما يتجدد عذاب (سيزيف). الصخرة الصماء للوادي يدحرجها العبيد (سيزيف) يبحث من جديد، من جديد في صورة المنفي الشريد ماذا تريد؟ (القمح من طاحونة الأسياد يسرقه العبيد) الورد لا ينمو مع الدم والحديد تقضي بقية عمرك المنكود فيها تستعيد حلماً لماضٍ لن يعود. يستشف القارئ من القصيدة روح التمرد ضد القدر، والتحريض على رفض الواقع المعاش. فبالثورة وحدها يستطيع الإنسان تحطيم صخرة سيزيف. وفي قصيدة (سلاماً أثينا) يشبه الشاعر العذاب الذي يتعرض له الأبرياء في السجون والمعتقلات بالعذاب الذي أنزلته الآلهة بـ (أوليس)، بطل الأوديسا، وبروميثيوس، إله البرق، الذي عرف البشرية النار بعد أن سرقها من (الأولمب) فكان مصيره أن يربط إلى صخرة هائلة، ليهاجمه نسر، يفترس كبده بالنهار، ويسترجعه بالليل. ولكن الأمل الذي دعا (بنيلوب) على انتظار حبيبها وهي تغزل وتنقض غزلها. وأعان بروميثيوس على تحمل محنته، هو ذات الأمل الذي يساعد المعذبين في كل زمان ومكان على احتمال الألم. وإن كان أملاً ضعيفاً. (بنيلوب) في انتظارها، تغزل ثوب النار أو (أوليس) في جزيرة المحال لعل في (الأولمب) لا تزال آلهة الإغريق تستجدي عقيم البرق في الخيال وها هو الشاعر محمد أبو سنة في قصيدة (سؤال إلى أبي الهول) يستلهم الموروث الأسطوري، فيصور بوادر البرق في عيني (أبو الهول) وصمته الذي يكون مقدمة لكلام هو إرهاص لتجدد حيوية الأرض وقدرتها على الإخصاب. فمفتاح اللغز الذي يملكه أبو الهول يكون مرهوناً بإنسان جسور يستطيع حل ذلك اللغز. وتومض في مقلتيك بوادر برق حرائق تأكل كل الهشيم الذي خلفته ليالي الخريف فهل أنت تصمت كي تتكلم عما تبوح به الأرض للبذرة النابتة وهل ترقد الآن فوق كنوز الزمان القديم وبين يديك المفاتيح تمنحها للجسور الحكيم جسور يجيء من الماء والنار يعرف سر السؤال المحير هل يجيء الزمان السعيد؟. ولم يكتف الشعراء باستلهام الأسطورة لمطابقتها واقعهم المعاش وإنما عمد بعضهم إلى (..تعديل بنيتها التراثية، حتى تبدو في صورة محرفة معكوسة، فتكون ظاهرتا التحريف والعكس برهاناً على خصوصية التأويل الذي يقدمه الشاعر للموروث، وإيماء إلى المدلول الرمزي للإشارة يتجاوز بالضرورة، مدلولها التراثي). ويقول عبده بدوي في قصيدته (الشاعر والعالم): فلتذكر يا ذا الوجه المعشوق الباهر أن الدينا صارت غير الدنيا وقميصك في دمه لن يبكي غير الذئب أما يعقوب، فهو يحث خطاه الليلة في معطفه الخالي من كل بشاشة كي يشهد من فوق الشاشة إحدى قصص الحب يا يوسف ما عاد يدق القلب فاهبط للجب. وهكذا يستخلص بدوي مفارقة عجيبة في مدلول قصة النبي (يوسف) عليه السلام الذي تغير، برأيه، بتغير الزمن وتغير معنى الأشياء. فقميص يوسف الملطخ بالدم، لم يعد مصدراً للأمل والبشارة وإنما صار مبعثاً للشفقة والبكاء. ليس بكاء يعقوب الذي تحجرت مشاعره، وإنما بكاء الذئب، المتهم بقتل يوسف، والذي أثاره منظر الدم. ويتجاوز استلهام الثراث الشعبي مجال الشعر إلى القصة. فأحمد شوقي يؤلف (ورقة الآس)، وهي قصة خيالية على غرار قصص (ألف ليلة وليلة) ويستلهم أسلوب المقامات المسجوع، ذا الطابع النقدي في تأليف (أسواق الذهب). ويسير على نهج شوقي في تقليد المقامة، كل من محمد المويلحي في مجموعة مقالات عيسى بن هشام، وحافظ إبراهيم في (ليالي سطيح). ونجد أيضاً في القصة الحديثة إشارات دالة على العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية كالتبرك بالأولياء الصالحين. واستخدام وسائل الطب الشعبي لإشفاء المرضى، ففي (قنديل أم هاشم)، يستشفي الناس بزيت القنديل (المبارك) الذي تزداد قدرته على الشفاء في ليلة الحضرة التي يجيء فيها الأولياء، في كوكبة من الخيل ترفرف عليهم أعلام خضر، ويفوح من أردائهم المسك والورد، يأخذون أماكنهم عن يمين الست (أم هاشم) وعن يسارها، وتنعقد محكمتهم، وينظرون في ظلامات الناس. ولو شاؤوا لرفعوا المظالم جميعها. ولكن الأوان لم يئن بعد، فما من مظلوم إلا هو ظالم أيضاً، فكيف القصاص له؟ في تلك الليلة، هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المقام، يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ ضوء لألاء يخطف الأبصار.. إنني ساعتها لا أطيق أن أرفع عيني إليه.. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء... وفي قصة (بين القصرين)، يورد نجيب محفوظ إشارة إلى اعتقاد الناس بوجود أشباح وعفاريت تسكن البيوت الكبيرة. وتتم السيطرة عليها بالتلاوات المباركة. وحينما تصاب (زينب) بطلة القصة المسماة باسمها، بمرض خطير، يرفض أهلها عرضها على الطبيب لاعتقادهم بأنها (محسودة) ويكتفون بحرق الشب درأ للعين الحاسدة، مما يؤدي إلى تدهور صحتها ووفاتها. وفي نفس القصة، ترضخ (عزيزة) ابنة العاشرة، لحكم التقاليد، فتنقطع عن الدراسة وترتدي الحجاب. وهو تقليد شائع في بيئات عربية أخرى في ذلك الزمن. ومن يستعرض كتب المفكرين والكتاب التقليديين، كالجاحظ وابن خلدون، وكتاب صفي الدين الحلي (العاطل الحالي والمرخص الغالي)يجد فيها مصادر زاخرة بالأغاني والحكايات والأمثال والشعر العربي والموسيقا. ولا يفوتنا أن نشير إلى أدب الرحلات، المتمثل في مؤلفات ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما من الأدباء الأوائل، على أنها مصدر مهم من مصادر الإبداع

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة