التحرر من الوهم

التحرر من الوهم

ياسين طه حافظ

أن تفهم الناس كما هم، لا كما تتخيل أو كما تتمنى، ذلك ما لا يتحقق عملياً. أمرٌ مهم ومفترَض ولكنه بعيد لدرجة كبيرة عن واقعنا اليومي ومما يشدنا للناس. والاعتماد في فهمهم على ما نتخيل أو على ما نتمنى أن يكونوا ،

ذلك افتراض نصنعه نحن ولا، إلا نادراً، يستند الى حقيقة. نحن أنفسنا لسنا كما نحن في نظر غيرنا وفهمنا كما نحن شرط لـ نتحرر نحن وليتحرر غيرنا من الوهم، أعني من الوهم الخاص والوهم العام. كما من توهمنا نحن للناس أفراداً.

أما ما رسمته الأديان أو ما رسمته الأحزاب والجمعيات أو ما رسمته أحلامنا – وما قبلها بعض من الأحلام أيضا.. – ما يتم رسمه لنا وما نرسمه لهم، وللآخرين، كل هذه "التصورات" نتائج" لمؤسسات الوهم" التي ذكرناها، لأنها أساساً إصلاحية تريد ما تتصور أو ما تتمنى وتعمل من أجله. هي ترسم أمثلة أو نماذج لما تراه سليماً او صالحاً أو مفيداً. وهذه التصورات او الامنيات تصير بالنسبة لها وللناس مسلمات وقد تحتذى. والمؤسف، كما الكاشف، إن غالبَ من تبعوا المثال وبشروا به أو حتى ضحوا من أجله، خسروا الرهان. أقول خسروا قضيتهم وأشك في إنهم لم يندموا، ولو بعض الندم، على ما كان من تضحياتهم ثم خيبتهم في النتائج. 

إن أسى الفنانين وحزن الأنبياء وشكوى المؤمنين من بعضهم وممن حولهم، ومن أحوالهم، مصدره إنهم يطلبون من الناس، أو يُطلب منهم، ما لا يستطيعونه هم ولا يستطيعه الآخرون. هم لا يستطيعون أن يكونوا مثاليين، مؤمنين تقاة. لا يستطيعون أن لا يطمعوا وأن لا يكسبوا مزيداً والا يمدوا أيديهم الى حرام وقد احتاجوا أو ارادوا أن يزدادوا غلبةً .. هم لا يستطيعون أن يزهدوا بالدنيا ومتعها. وأي عاقل إذا راجع نفسه وتفكر، يجد ان مطلب الزهد في الدنيا والابتعاد عن متعها و لذات العيش فيها، انما هو مطلب ليس عسيراً حسب ولكنه غير معقول أيضاً!

الإنسان كائن حي يعيش الحياة ويلتذ أو ينعم بفرصة عيشه. ليس هناك نظام يجعل الأمور على وفق سياقات منتظمة وثابتة وتيسر لكل ذي حاجة حاجته. فليس له إذاً الا أن يعيش بتسابق وبالتفاف ومكر، والخداع وارد أيضاً.. الالتزام بالوصايا لحفظ الحياة ونظام الاحياء مطلوب ويتمناه الفرد. لكن ذلك في أحوال، يضعه في مواقف تتراوح بين العوز والحاجة أو الموت. التضحية كرم ولكن لها مناسبات، وحين تكون قادراً عليها والا فهي قهر! 

الحياة العامة تتطلب سعياً لضمان العيش وديموته. والمسرات فرص عيش متميزة ا حسنة او مثيرة ولا استعداد دائماً للتضحية بها ! أضعنا أزمنة وأعماراً في طلب ما هو مناقض للطبيعة البشرية وما لا يرتضيه عقل. لم ترعب الناس ولم توهمهم التوصيات "الخارجية"، لم يبالوا بها. هي تطلب من الناس أن يكونوا كما تشاء، هي تريد الإنسانَ نظرياً، قصد التهذيب أو التنظيم. العقل ليس كل شيء في تكوين الفرد. هذا أمر معلوم. فلتكن معلومة أيضاً المكونات الأخرى له. لذلك الاطمئنان الى النوايا الطيبة غالباً، إن لم يكن دائماً، يخذلنا. اعتقد بأننا أكبر من أن نفسر الخطأ من المقابل كونه غير مخلص أو غير وفي أو غير صادق هو الحقيقة إنه غير قادر على إرضائك! وإنه محكوم بعدم القدرة هذه! واضح إن عملاً ما يرضيك قد يضيع عليه فرصة ارضاء نفسه. والانسان كائن غرزي مثلما هو عقلاني. لكنه ليس كائنا فكرياً تنتظم حركاته ورغباته واحتياجاته على وفق نظريات. الظرف يتحكم والحاجة تتحكم أكثر وله نزوات لا يمكنه التحكم بها. 

والغريب إن هذا الاشكال الحياتي أو الاخلاقي يصنع نموذجيات "تمثيلية"، تمثيلية بمعنى بدائل أو ممثلين عن رغباتهم غير المتحققة او غير المستعدين هم للتضحية من أجلها. فيظهر لنا كُتاب ومفكرون يحرضون على تحقيق ذلك. هم ناس تحريضيون، لكن تحريضيون على ماذا ؟ على ما يرونه لصالح المجموع او المجتمع او عموم حياة الناس. حسناً لسنا ضد ذلك لكن لهذا العمل وفي الاستجابة له خروقات . خروقات من الطرفين! مثلاً، تحريض على الثورة أو التمرد على غير الملائم او على غير الممتثلين للأمنية أو لما تريده الوصايا دينيةً أو اصلاحية، هنا المعنى واحد، في كلها نجد حالات زوغان من المحرض أحياناً أو ممن استجاب أو آمن. يبدو إني تجرأت على الولوج في منطقة حرام، حين اتهم هؤلاء المحرضين، ثواراً أو مصلحين، قادة أحزاب أو جمعيات، أو زعماء ثورات.. لكن ألم ينحَز بعضهم الى نفسه ؟ والاتباع، ألم ينحازوا الى ذواتهم وحتى الوصول الى العمل المضاد او الخياني؟ 

الاتهام واللعنات والاستنكار وشتى مفردات السباب، هي التي تأتي. لكن أحداً لم يتوقف طويلاً وعميقاً لإيجاد حل للمعادلة أو يحاول التوفيق بين حالين متناقضين وعند لا الناس العاديين حسب ولكن عند المفكرين والثوريين، قادة أو زعماء أيضاً. لا أحد توقف عند الاجواء الوسطية التي تحضر فيها الذات بحقيقتها وغرائزها ونفعيتها وحرصها على ضمان وديمومة الافضل لها. هذا الوسط أو هذا الميدان هو الذي يشغل المسافة بين عظمة وكبر أمثلتهم وبين حقيقتهم الشخصية التي يريدون تحقيقها أو الانتصار أو الانحياز لها. لا أدينهم قدر ما أريد أن أجد مسوغاً إنسانياً للإشكال. "عيوبهم" الشخصية او تكوينهم النفسي او البايولوجي، حالات وصفات ألقيت عليهم أو ورثوها. والأخلاقيات القريبة منها أورثها مجتمع. هذا المجتمع هم الآن يريدون إصلاحه لينجو من باقي عيوبه أو من استمرارها. هم عموما لا يقرون بعيوبهم الشخصية منه. قد ينكرونها بدعوى النزاهة أو الكمال أو الانضباط. لكنهم ، وغيرهم، ليسوا دائماً كما ترسمه أفكارهم ويتبناه وعيهم. في الممارسة تتكشف العيوب المقموعة أو المستترة. وهنا يبدأ الاستهجان أو الشكوى أو الإدانة أو الاتهام.. 

لعل أبسط الامثلة وأوضحها إن مفكراً أو كاتباً أو صاحب مبدأ قد يختل توازنه اذا لم يحصل على رئاسة أو موقع متقدم أو إذا تقدم غيره، من الاتباع، عليه. ولنا نماذج من سياسيين ومفكرين وكتاب انقلبوا وعملوا بالضد مما كانوا يدعون له، حين لم يتحقق لهم ما تريده "حقيقتهم" الكامنة. 

وقد نجد عذراً، مستهلَكاً غالباً، إنه إذا كان في المقدمة سيكون أوسع قدرةً إذ يمتلك مجالا اوسع، ومن بعد سيكون أفضل عملاً وانجازاً ولا يشعر بالحيف من تولي غيره، القاصر، فيتحمل هو والجماعة تبعات لا جدارة ذلك ... لكن هذا عذر. من يُرِدْ ان يعمل يعمل حتى في الصفوف الأخيرة. هو عذر مردود ولا يقوى لأن يكون حجة كافية. النزوع الفردي للحصول والنيل، مسألة نبدو متصنِّعين إذا سوغناها وتحججنا بغير حقيقتها، تلك التي أتينا عليها واعتمدناها أول المقال ... 

علينا إذاً أن ننظر للإنسان فرداً حياً فيه ما هو غرزي وبعض أساس من الطبيعة البشرية ويحمل أيضاً عبء موروث اجتماعي بعيد الجذور. التعامل معه بلا مبالاة بكل تلك المكونات، وبغير حاله الحقيقية عمل فيه جور واضح. هو يؤدي لأن يأخذنا الوهم الى غير ما نريد. بقي لنا "بعض" الحل وهو إصلاح المجتمع أو تغيير بيئة الفرد وظروف نشأته وشروط العيش، لننمو نمواً سليماً ونعيش حياة لا تؤذي ولا تضطرنا لما هو غير مرغوب فيه .. هذا يخفف كثيراً ولا ينهي الإشكال. لكنه السبيل ليتحرر الفرد من بعض ما يحمل ولنتحرر نحن من أوهامنا ولو تحرراً منقوصاً ...

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top