كانت للدكتور ضياء المنشئ تجارب سابقة في التأليف والنشر حيث امتازت كتاباته بالتصدي لمهمة الأرشفة كمؤرخ رياضي ، وطالما كان يفتخر بمعلمه وأستاذه المرحوم اسماعيل محمد شيخ المؤرخين الرياضيين الذي علمه أهمية المؤرخ وواجبه في الحفاظ على تاريخ رياضة بلده لتس
كانت للدكتور ضياء المنشئ تجارب سابقة في التأليف والنشر حيث امتازت كتاباته بالتصدي لمهمة الأرشفة كمؤرخ رياضي ، وطالما كان يفتخر بمعلمه وأستاذه المرحوم اسماعيل محمد شيخ المؤرخين الرياضيين الذي علمه أهمية المؤرخ وواجبه في الحفاظ على تاريخ رياضة بلده لتستفيد منها الأجيال اللاحقة من الرياضيين وطالبي العلم والشهادات العالية في تاريخ الرياضة العراقية وكرة القدم تحديداً.
وأتذكر عندما أنجزت طبع وتجليد موسوعته الموسومة ،عن كرة القدم العراقية ، حمل منها ثلاث نسخ ليوصلها بيده عرفاناً منه الى أستاذه اسماعيل محمد الذي تصفحها فرحاً وهو يرى تلميذه النجيب يسير على خطاه فأطلق عليه المثل البغدادي الذي يقول ( صانع الأستاذ أستاذ ونص فعلاً ) .
اما النسخة الثانية فكانت لأعظم ما أنجبته الكرة العراقة لاعباً وانساناً وقائداً ميدانياً نقش اسمه بحروف من ذهب بتاريخ الكرة العراقي المرجوم ( جمولي ) جميل عباس كابتن المنتخبات الكروية الأهلية والعسكرية والوطنية وهو يرقد طريح فراش المرض بأيامه الأخيرة ولم يكن قادراً على النطق إلا أنه ابتسم للمنشئ واغروقت عيناه بالدمع عندما وضع المنشئ إصبعه على اسم جمولي المنقوش على صدر الموسوعة مع جكو.
وأما النسخة الثالثة فكانت لزميله وصديقه الأثير الذي ملأ اسمه الصحف العراقية والعربية والآسيوية ضجيجاً لاعباً ومدرباً لا يشق له غبار (عمو بابا) طبعا .. هذه الالتفاتة الجميلة لا يفعلها إلا صحفي مؤرّخ يحمل من العلمية والتواضع الكثير الكثير كضياء المنشئ.
في عام 1987 أصدر المنشئ كتابه الموسوم ( صفحات من تاريخ العراق الأولمبي) الذي وثـّق فيه بأمانة تاريخ مشاركات العراق الأولمبية من عام 1948-1989، وفي عام 1989 أصدر المنشئ وليده الثاني ( الموسوعة الموجزة للأولمبياد العربي ) وثـَّق فيه لأول مرة تاريخ الدورات الرياضية العربية من عام 1953-1985 حيث أصبح مؤلفه هذا مرجعاً يستند اليه معظم الصحفيين الرياضيين العرب المهتمين بالتوثيق الرياضي.
صرخة صادق
وأتذكر حادثة ترتبط بهذا الموضوع فعلاً ، عندما كنت أسكن في العاصمة المصرية القاهرة عام 2006 قرأت في صحيفة الأخبار المصرية عن إقامة ندوة رياضية تتخللها محاضرات لصحفيين رياضيين مصريين كان على رأسهم د.علاء صادق الإعلامي الرياضي المعروف مصرياً وعربياً وكان قد سبق للمنشئ أن أوصاني ان اُسلـِّم نسخة من موسوعته الكروية لصديقه د.علاء صادق فانتهزت الفرصة لكي أحضر الندوة وبالوقت ذاته أوصل أمانته لعلاء باليد، وصلت مكان الندوة وعندما صعد صادق ليلقي محاضرته أرسلت له قصاصة ورقية كتبت فيها إني فلان العراقي ولي أمانة أود تسليمها لك من د.ضياء المنشئ ، راقبت ردة فعله عندما قرأ قصاصتي فقطع محاضرته صارخاً ( الله دكتور ده حبيبي ) ثم طلب مني أن أتقدم للمنصة مصافحاً إياي بحرارة وسط دهشة الحضور الذين تبددت حيرتهم وهو يشرح لهم مَن هو د. ضياء المنشىء؟ ورفع نسخة موسوعته ليريها لهم مذكراً إياهم بظروف العراق آنذاك، ومع ذلك يكتب ويطبع وينشر هكذا موسوعات مهمة وشكرني وسط تصفيق الحاضرين ودعاني للصعود الى المنصة فألقيت كلمة قصيرة شكرت فيها د.علاء صادق والشعب المصري على مواقفه الوطنية لمؤازرة الشعب العراقي في محنته ، مذكراً إياهم كيف كانت بغداد تجمع كل العرب وبالأخص أشقائنا المصريين الذين بلغ تعدادهم أكثر من 4 ملايين رجـل وامرأة .
كانت فرحة المنشىء كبيرة عندما حدثته عمّا جرى بيني وبين صديقه د.علاء صادق في القاهرة، وبعد حضوره الدورة العربية الرياضية التي اُقيمت بالقاهرة التقى برفيقه صادق، وكان المنشئ قد سبق له أن أصدر كُتيباً صغيراً بعنوان ( بيليه ..كارنيشيا وكرة القدم البرازيلية ) عن سحر الكرة البرازيلية ونجومها الكبار (مترجم) ، أصدر بعد ذلك المنشئ كتاباً من القطع الصغير عن سيرة اللاعب الفذ عمو بابا تحت عنوان ( عمو بابا ..شاعر الكرة العراقية ) .. بعد اصداره كتابه الموسوم (الحركة الأولمبية في العراق) الذي يُعد من أهم الاصدارات العربية، أصدر المنشئ آخر كتبه ( موسوعة العاب الساحة والميدان .. الأسرع ..الأعلى ..الأقوى في العراق ) ذكر فيه بالأسماء والأرقام والتواريخ والمناسبات جميع مشاركات الرياضيين العراقيين وفق جدولة حديثة لم يسبق لها مثيل.
جحود .. وإهمال
ولد المنشئ ببغداد عام 1941 ومارس العمل الصحفي منذ عام 1958 وعضو الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية، في عام 2005 تشكلت في اللجنة الأولمبية العراقية بمبادرة إنسانية وفية من رئيسها السابق أحمد الحجية لجنة من كبار الصحفيين الرياضيين الرواد كمستشارين للمكتب التنفيذي وكان يرأسها عميد الصحافة الرياضية حينها ضياء عبدالرزاق وعضوية د.ضياء المنشئ وقاسم العبيدي رحمه الله وصلاح العامري.
وأتذكر حادثة طريفة على هامش إقامة احتفالية رياضية لمناسبة عودة وفد العراق الأولمبي المشارك بدورة أثينا 2004 عندما وصل اعضاء اللجنة المذكورة إلى قاعة السلة بالأولمبية صرخ أحد الحضور من بين مدرجات الملعب ( أهوو هَم جوي جماعة العصر الحجري ) انفجرت ومعي المنشئ من الضحك. أمام سيرة وذكريات نخلة عراقية باسقة كضياء المنشئ لا نملك إلا أن ننحني محبة واحتراماً وتقديراً لسيرته المشرّفة لتوثيق الحركة الرياضية العراقية بلا مقابل نرى في الوقت نفسه الجحود والإهمال والتهميش الذي طال قامته على المستوى الرسمي والمهني والعلمي وحتى الأخوي من أقرب رفاق دربه إلا ما ندر منهم ويُعـدَّون على أصابع اليـــد مع الأسف !
د. ضياء المنشئ يعاني من مرض عضال منذ 4 سنوات وانتقل للعلاج والسكن في ولاية كنتاكي بأميركا بين عائلته زوجته المخلصة وبناته الوفيات بعد ان تعذر علاجه في العراق وطنه الأم الذي لم ينصفه حيـاً.
يبقى المنشئ بيرقاً عالياً يناطح سماء المجد ، يحفظه الله القدير ويشافيه ، وهكذا حال مبدعينا في العراق العظيم لا وفاء ولا رحمة ولا سياقات تكريم معمولاً بها في كل الأوطان إلا بلـــدي !!










