لا تكترث السائرات، مثلما لا يبالي السائرون، وهم يسيرون بمحاذاة المبنى الواقع عند ركن تقاطع شارع السموأل مع شارع النهر في مركز بغداد، بذلك المبنى العالي الذي "دوخ" <البغادّة> و<غير البغادّة> لجهة ارتفاعه الشاهق، و"صعقهم" لعلوه غير المسبوق،
لا تكترث السائرات، مثلما لا يبالي السائرون، وهم يسيرون بمحاذاة المبنى الواقع عند ركن تقاطع شارع السموأل مع شارع النهر في مركز بغداد، بذلك المبنى العالي الذي "دوخ" <البغادّة> و<غير البغادّة> لجهة ارتفاعه الشاهق، و"صعقهم" لعلوه غير المسبوق، عندما اكتمل بناؤه بطوابقه "الستة" في عام 1948.
ذلك لأن المدينة العريقة لا تتذكر ان مبنىً عالياً (مبنىً كاملاً، وليس مفردة مبنى كالمنائر، على سبيل المثال) وصل الى ...مثل ارتفاعه طيلة تاريخها الطويل! نحن نتحدث، بالطبع، عن "عمارة" الدامرجي، هي التي نسجت حول ارتفاعها العالي حكايات كثيرة، وصل بعضها حد الاساطير، التي يصعب قبولها او تصديقها؛ احداها كنت قد سمعتها وانا طفل صغير، في مدينتي الصغيرة الصويرة: "بانك ليس بمقدورك ان ترى اعلى قمتها، من دون ان يقع..."عكالك"! وهو توصيف كامل، وشامل، ومثير... ومبهر (رغم مبالغته!)، عن ذلك الارتفاع "الأسطوري"، الذي به انتقلت مفردة "مبنى" العادية لتصير "عمارة"، كناية عن المبنى الضخم؛ المبنى الفسيح والشاسع والشاهق! ويبقى الحديث عن "عمارة" الدامرجي بشؤونه و"شجونه"، حديثاً عن صفحة هامة ومؤثرة، ترتقي لتكون نقطة تحول أو "منعطفاً" لافتاً في مسار تاريخ عمارة الحداثة العراقية! وانا اذ اذكّر "بشجون" المبنى، فما هذا إلا لأن "حكاية" تاريخه غير العادية، وربما غير العفيفة، او حتى "غير النظيفة" (ان شئتم!) التي أحاطت عملية تنفيذه (التي سأقصها بعد قليل!)، تبقى إحدى اللحظات الملتبسة في ذلك التاريخ، الذي اهدانا، مع ذلك، روائع نماذج عمارة الحداثة!
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، أدرك كثر من ممثلي البرجوازية الوطنية، بأن ثمة آفاقاً اقتصادية واعدة، تنتظر اقتصاد البلاد الغنية بمواردها النفطية. وكان لوجود مبنىً عالٍ في البيئة المبنية المحلية، يمكن له ان يكون "تمثيلاً" رمزياً للمتغيرات الكبرى التي سيشهدها العراق لاحقاً. وسبق لهذا "التمثيل"، ان كان وسيلة فريدة وناجعة في التعبير عن المتغيرات الاقتصادية التي شهدتها مدن العالم الكبرى المختلفة. كانت نيويورك، ومبانيها الشاهقة: ناطحات السحاب فيها، درساً واقعياً وبليغاً، لما يمكن ان تكون عليه "لغة" العمارة الجديدة، المعبرّة عن واقع اقتصادي مفترض. لكن نيويورك ذاتها، لم تكن، تاريخياً، هي من "ابتدع" ناطحات السحاب. ان فضلها يكمن في لفت انظار العالم، عما يمكن ان تكون مقاربة "التخطيط الحضري" المعاصر، كما انها اول من سخرّ طبيعة ونوعية تلك المباني العالية كرمز لنجاح اقتصادي ومالي. والحال، ان من "ابتدع" مباني "ناطحات السحاب"، هي مدينة "شيكاغو". وكان ذلك "الابتداع" محض حاجة فعلية و"وظيفية"، شهدتها تلك المدينة الامريكية. فعلى إثر حريق هائل ومدمر، شب في المدينة سنة 1871التهمت النيران معظم مباني شيكاغو الخشبية، مخلفة وراءها شبح مدينة وأنقاضا محروقة. وعندما طرحت فكرة إعادة بناء المدينة مجدداً، ارتؤيَ ان يبقى المكان ذاته لنظراً لاحتوائه على عقدة مواصلات واتصالات ضخمة، ذات أهمية كبرى للإقليم الذي تقع فيه المدينة. في تلك الاثناء، كانت تعمل في المدينة مجموعة من المصممين المبدعين، بضمنهم "لوي سوليفان" (1856-1924)، أحد اهم المعماريين الامريكان، والذي اقترح ان يكون البناء في المدينة "عمودياً" بشكل عام، وليس افقيا لاعتبارات اقتصادية. وبتوظيف "المصعد" الآلي، المكتشف قبلا في سنة 1854، تم حل الإشكالية التصميمية بيسر. وظهرت منذ ذاك، مبانٍ متعددة الطوابق وبلغة معمارية جديدة، اعتمدت بالإساس على "التنطيق" الوظيفي في معالجة الواجهات. وقد دعي هذا النوع من الطراز التصميمي "بمدرسة شيكاغو". اما الأسلوب فقد سمي بـ "الأسلوب الوظيفي"، الذي سيكون له شأن كبير في ولادة "العمارة الحديثة". على ان الاستطراد في تقصي تاريخ "ناطحات السحاب" وظهورها في المشهد المعماري، قد يشغلنا عن "حكايتنا" الرئيسية، والأهم انه يبعدنا عنها. والامر الانسب هنا، والمستحسن، بالطبع، الرجوع الى شارع السموأل، والشروع في الحديث، ابتغاءً، في "تقصي" تاريخ عمارة المبنى البغدادي الشهير!
عندما سألت صديقي و"استاذي" جعفر علاوي (1915- 2005) المعمار العراقي الرائد (الذي تعلمت منه الكثير عن تاريخ عمارة الحداثة في بلدنا)، عن "اسم" المعمار الذي صمم مبنى الدامرجي، اجابني "بحكاية" لا تخلو من طرافة. فمن المعلوم، ان تجربة المعماريين العراقيين وحتى المهندسين في تصميم وتنفيذ المباني العالية محدودة جدا، بل هي نادرة في الممارسة المعمارية العراقية، عدا مثال واحد، هو "مبنى سوفير" (1946)، ذي الأربعة طوابق، الواقع في منطقة "راس القرية" بشارع الرشيد، والمصمم من قبل مدحت علي مظلوم (1913-1973)، والذي اعتبر اول مبنى شاهق منفذ في العاصمة العراقية.وحالما ولدت فكرة بناء مبنى متعدد الطوابق عند رجل الاعمال والتاجر "محمد الدامرجي"، اتجهت الأنظار نحو مصر، التي بات فيها تنفيذ الأبنية العالية امراً مألوفا ومشاعاً. ويبدو ان رب العمل اتفق مع معمار مصري (يجهل الوسط الفني اسمه، مع الأسف!) لإنجاز تصاميم المبنى، وإعداد مخططاته. وعلى ما يبدو، فإن هذا العمل انجز كاملاً. وفيما يتعلق بإشكاليات الاشراف على البناء وإكمال مهمة عمل "أساسات" المبنى البغدادي، هي التي اعتبرت في حينها "العقدة الحرجة" والاهم في البناء، لجهة عدم اطلاع العراقيين، بما فيه الكفاية عنها وعن مشاكلها الهندسية، فقد ارتؤيَ حلها عن طريق تعاقد مع مهندس مصري مختص للإشراف على سير البناء، وهو ما تم فعلاً. بدأ العمل في حفر الأسس للمبنى ما أن وصل المهندس المصري الى بغداد. وتحت مشورته المباشرة، انجزت هذه الفقرة بنجاح تام؛ وباتت الأسس جاهزة لتقبل احمال الطوابق العلوية الستة. وهنا، حدث ما لم يكن في الحسبان. اذ لاحظ رب العمل مع مهندسيه العراقيين بأن عملية شق "الأساسات" للمبنى العالي لم تكن تستوجب كثيراّ من الحيطة والحذر، كما كان يظن، بل وأنها لم تختلف جداً عما يمتلكه المهندسون المحليون من معلومات ودراية، ما يعني إمكانية التفكير في الاستعاضة عن خدمات المهندس المصري واناطة العمل الى المهندسين العراقيين طمعاً في خفض التكاليف. ويقال ان رب العمل، وقد "تملكته" هذه الفكرة، <افتعل> شجاراً مع الاستشاري المصري، على اثره تم ابعاده عن الاشراف وتسلم العمل من بعده مهندسون محليون. بمعنى آخر، ثمة "مكيدة" غير نظيفة رافقت تنفيذ اول "ناطحة سحاب" بغدادية. وكأننا امام "خديعة" من خدع ارباب العمل و"مراوغاتهم"، الذين "يتفننون" في إيجاد الذرائع والأسباب "لهضم" اتعاب وأجور الاستشاريين و"بلعها" بتلك السهولة التي لطالما اتصفوا بها! ولكن مع هذا، فان كثراً من الناس لا تتذكر تلك "الواقعة". ويتذكرون بدلا عنها بنوع من العشق، وأحياناً الفخر الحضور البهي لذلك المبنى العالي، كما ان كثيراً منهم يعدون ذلك الحضور من الاحداث الفريدة التي طرأت على البيئة المبنية لمدينتهم وأسلوب العمران فيها. وهو ما افضى الى نشوء كثير من الحكايا الممتعة، والقصص غير القابلة للتصديق، فضلا عن ظهور امثال واقوال مأثورة عديدة، ارتبطت بوجود "عمارة" الدامرجي إياها.
لا تثير عمارة المبنى انتباهاً خاصاً. فلغتها التصميمية متواضعة، مثلما هي زهيدة في مفرداتها التكوينية. ثمة "اجتهاد" تصميمي خجول، ربما نجده في أسلوب معالجات القسم الوسطي من الواجهة الرئيسية فيها. اذ استثمر المعمار "بيت الدرج"، ذا الشكل نصف الدائري، والموقع في منتصف ركن المبنى، بنوافذه الطولية الأربع، للتدليل على أهمية مكانته التصميمية، وبكونه الجزء الذي تتفرع منه وتمتد شرفات المبنى نحو اليمين ونحو الشمال مؤكدة، في الوقت ذاته، قيمة موقع المبنى بين شارعين متقاطعين. لكن تلك المحاولة المحتشمة، تُنسى مباشرة، حالما نبتعد عن منطقة الوسط. فالقسمان الطرفيان للمبنى تركا من دون اية عناية تصميمية تذكر. ثمة فتحات عمودية لنوافذ طولية محفورة على السطح العاري "الملبوخ" للمبنى. تليها سلسلة من الشرفات الموقعة فرتكاليا، تنبئ بنهاية إيقاع الواجهة وتدلل على ختامها. ويبدو لي، ان أسلوب العمارة المصطفاة للمبنى، يشي "بتقليد" سمج لاحد مباني القاهرة العادية، الحافلة بها شوارع العاصمة المصرية ومركزها الحضري. جدير بالتنويه ان مصمم المبنى لم يعر اهتماما يذكر للظروف المناخية المحلية البغدادية السائدة وتعامل معها، كما يتعامل مع أجواء القاهرة المعتدلة جدا مناخيا وقتذاك. ومع هذا...ومع ظهور مبانٍ عالية عديدة في العاصمة العراقية، بعدد طوابق يفوق عدد طوابق "عمارة" الدامرجي الستة، كمبنى "الدفتردار" (1953)، المجاور للدامرجي، ومبنى مصرف الرافدين (1968) العالي بطوابقه الـ 16 غير البعيد عن موقع "ناطحة السحاب البغدادية"، وحتى برج الجامعة الذي وصل ارتفاعه الى 21 طابقا، وعدّ ارتفاعاً قياسياً ببغداد، فقد ظلت "عمارة" الدامرجي في مخيلة البغداديين وزوار العاصمة تعتبر من الاحداث الاستثنائية، التي لا يمكن لها ان تنسى بسهولة. وحتى عندما صورته حديثا، لتوثيقه، ومع وجود "البشاعات" البنائية المجاورة له، ورغم "اكوام" الاوساخ تحته وجواره، فان المبنى ما فتئ يوحي (بالنسبة اليّ في الأقل!) الى قدر كبير من البهاء، والثراء الموسر، رغم "مكائده" المهنية التي يتذكرها المعماريون اليوم بنوع من السخرية... غير الخبيثة!
وتبقى مهمة معرفة "اسم" معمار المبنى من القضايا المهنية، الملقاة على عاتق المعماريين، وعلى مهتمي ومحبي العمارة العراقية ومتابعي نشاطها الإبداعي، لجهة أهمية المبنى وقيمته العمرانية والمعمارية الكبيرتين. وليس لديّ، من ثمة شك، بان طلاب العمارة (على وجه الخصوص) بجهدهم المميز، وحرصهم، ومتابعاتهم الذكية والمتشعبة قادرون على الوصول الى حل هذه الإشكالية المعرفية بنجاح. وإذ اناشدهم في تبني مسؤولية تقصي ومعرفة اسم المعمار، فما هذا الا لأني واثق، بان "الواجب البيتي" هذا، المعطى لهم، سيحل من قبلهم على جانب كبير من الاثارة البحثية المترعة... بالشغف المعرفي.