تصفية التطرّف بلا تطرّف

فخري كريم 2017/04/29 05:01:00 م

تصفية التطرّف بلا تطرّف

أول خطأٍ يقود الى مأزق اللحظة الراهنة، يتمثل في إعتبار "التطرّف" وما ينتجه من منظوماتٍ فكرية تكفيرية نابذة للآخر، وتنظيمات ارهابية مدمرة "حالة مناطقية " تنبعث وتنمو في كنف الاسلام، ديانة، وتنمو وتتسع من حيث النفوذ والعُدَّة برعاية الاسلام السياسي، بمعزلٍ عن وجهة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتمهيد لتكريس السلطات المستبدة التي وجدت الرعاية والاحتضان من الولايات المتحدة والدول الغربية المتطورة، وهي التي أمدّتها بعوامل القوة والهيمنة على مفاصل الحياة السياسية في البلدان العربية والاسلامية وغيّبت إرادة شعوبها والقوى المعبرة عن تطلعاتها وآمانيها ، طوال مرحلة التحرر والاستقلال الوطني "الشكلاني" ونشوء الدولة الحديثة .
ولا يغيّر من هذه الحقيقة ارتباط أتجاهاتها بالصراع الذي ارتبط بالحرب الباردة وما أدى اليه من فرز وإستقطاباتٍ بين القوى والدول والمناطق المختلفة وخياراتها .
وقد يُشكل التدخل والتدخل المقابل في الشأن الافغاني والحرب التي لم تتوقف فيها حتى الآن، لحظة تحول نوعي في إنبعاث التكفير والتطرف كظاهرة مهددة بلا أي إنضباطٍ أو قيم أخلاقية وحضارية . وهذه اللحظة نقلت الظاهرة من طابعها المحلي المحدود ، الى كل طرفٍ في كوكبنا ، إرتباطاً بالتعامل معها وأسباب نشوئها وحاضناتها ومنابتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأعتماد الآلة العسكرية الحربية والأساليب الأمنية، بمعزلٍ عن تجفيف مصادر الظاهرة داخلياً وخارجياً . وظلّ المصدر العربي المتمثل في الصراع العربي الاسرائيلي، وما يتصل منه  بمطامح الشعب الفلسطيني في هذا السياق، مرشحاً لمزيدٍ من التعقيد والاهمال والتحدي .
والمواجهة الجارية اليوم في العراق وسوريا وليبيا ومناطق أخرى ضد داعش والفلول الارهابية الأخرى تعتمد نفس المنطق السائد ، وذات الوسائل والادوات العسكرية والأمنية ، وقليلاً من تدابير الترقيع والتسويات المخلة دون الالتفات لمعالجة الانقسام العميق في المجتمع، وبعيداً عن ملامسة الجذور الثقافية والاقتصادية وعوامل التخلف الحضاري واسباب الانكفاء والارتداد الى الماضوية السلبية .
إن التطرّف بوصفه ظاهرة وقوة سلبية تدميرية في جوانب منها باتت تسود العالم في كل ميادين الحياة فيه، بما في ذلك  الميادين الخلاقة الايجابية التي حولته الى قرية كونية الكترونية، عبر سباقٍ بين مراكز التجارة والتسويق العالمي لمنجزات العلم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وحوامل الترفيه والاستهلاك، دون مراعاة القدرة المعرفية والشرائية على استيعابها وتداولها . وهو سباق في جانبٍ منه يوسع الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة ، والطبقات والفئات المحدودة الدخل والغنية، مما يطرح مسائل جديدة في إطار إقامة عالمٍ إنسانيٍ يرى الناس فيه المستقبل خلافاً لما ينبئ به الانقسام الحاد بين أجزائه وأممه وشعوبه .
وينعكس هذا الاستقطاب في العالم بصيغة وتائر متزايدة من التطرّف في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر والتدين والانحياز العقائدي والحزبي والجنس والسلوك الفردي والمنافسة في الاستحواذ على القيم المادية وخيراتها . ولا يستثني التطرّف كل ما له علاقة بالوسائل والادوات المشغولة بمعافاة المجتمع وأفراده والانعتاق من ربقة الانشداد الى الماضي
المتخلف.
إن تصفية داعش وقوى الارهاب في العراق وسوريا وليبيا ، عسكرياً ، ممكن وقادم دون شك. وعملية تصفية مواقع سلطته سائرة باتجاه الحسم. لكن القضاء على الظاهرة، عملية مستدامة على عدة مراحل ، مباشرة ما بعد الحل العسكري ، ومنظورة على مستوى التدابير السياسية الحكيمة لاجراء مصالحة مجتمعية عميقة وشاملة وشجاعة على ارضية تفاهم على الأولويات وفقاً للمشاركة في ادارة الحكم والتوافق في معالجة الخلل والتسوية العملية غير الانشائية ، وإجتثاث جذور الفساد وإجراء نقلة ملموسة على صعيد تكريس المواطنة كبديل عن الطائفية والمحاصصة .
لكن جوهر العملية المستدامة لتجفيف منابع التطرّف والارهاب وإنقسام المجتمع يتطلب تدابير مترابطة تؤول الى :
- استنهاض التعليم بكل مراحله باعتماد منهج التفكير بديلاً عن التلقين .
التوزيع العادل لثروات البلاد، وايلاء الاهتمام بالحواشي الرخوة المتمثلة في المناطق والاحياء والفئات الأشد فقراً، وتفعيل برنامج عملي للقضاء على البطالة بأشكالها المباشرة والمقنعة وتأمين الخدمات الضرورية بدءاً بالكهرباء والماء الصالح للشرب وسواها من الضروريات .
- اصلاح القضاء وتكريس استقلاله بعيداً عن المحاصصة وأطرِها بما في ذلك البرلمان .
- تصفية ظاهرة الفساد ووضع رموزه امام القضاء وفِي مواجهة الرأي العام . هذه المعالجة تتطلب تضافراً مناطقياً وأممياً على قاعدة برنامجٍ متعدد الوسائل والأهداف:
أولاً: اشراك المؤسسات والأطر الدينية في عملية إصلاحها ، عبر استقطاب واحتضان ودعم القوى والعناصر المناوئة للتكفير والارهاب. ويحتل الأزهر موقعاً بالغ التأثير بين الطائفة السنّية. وفِي المقابل تحتل المرجعية الشيعية العليا في النجف موقعاً موازياً على الصعيد الشيعي. ولا تستثنى ممثليات الأديان والطوائف في المشاركة .
ثانياً: تعبئة المفكرين والمثقفين بكل نزعاتهم المناوئة للتطرّف والتكفير ، والسعي للارتقاء بنشاطات متنوعة على هذا الصعيد، وعقد ندوات ومؤتمرات تمهيدية لبلورة مشاريع وبرامح تحديثية وإصلاحية .
ثالثاً: لا يمكن انجاز خطوات متضافرة في هذا الاتجاه بدون مشروع شبيه بمشروع مارشال لاعادة بناء اوربا بعد الحرب العالمية الثانية، تساعد في اصلاح البنى المخربة والمتصدعة في المجتمع ، وتنشيط الحياة الاقتصادية ، واصلاح التعليم وتمكينه من ذلك ، دون ان يعني ذلك التدخل في خياراته السياسية وارادته الوطنية .
رابعاً : وضع برنامجٍ يستجيب لتطلعات اللاجئين العرب والمسلمين في تأكيد هويتهم ، بعيداً عن مراكز التطرف والاستمالة الايديولوجية، بفتح مراكز ثقافية ومدارس ومناهج تعليم تعتمد معايير التفكير والمقارنة وليس التلقين
المخل .
خامساً: دعم نشاطات المبدعين والأدباء وتمكينهم من التعبير عن ذواتهم الانسانية عبر الوسائل الفنية وسواها .
سادساً: بناء جسر للتواصل بين الجاليات الاسلامية والعربية مع بلدانهم من خلال تبادل الفعاليات والندوات والزيارات وإقامة المدرجات الثقافية وكل ما يحقق التفاعل مع محيطهم الاجتماعي والاندماج فيه دون طمس الهوية .


ورقة رئيس مؤسسة المدى في مؤتمر (صحفيو الدول الاسلامية ضد التطرّف في موسكو)

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top