غالباً ما نوهت بما للتقنية من دور في اخراج الأعمال التشكيلية في عروض تشكيليينا المغتربين. والتقنية التي أقصدها هي بعض مما متداول في إخراج الاعمال التشكيلية المعاصرة. ربما هناك اعتراض يتداول بأن علينا ان نقدم المغاير من أجل جلب الانتباه ليس إلا. وأعتقد أن جوهر الاعتراض نابع من تفضيل الخصوصيات المحلية المتداولة في العديد من أعمال الفنانين العراقيين، وهي إشكالية المركز والأطراف. لكن وأنت تشتغل على تفكيك مآسينا المتكررة، ومنها كارثة الهجرة والتهجير التي بلغت مستويات متعاظمة، حتى شكلت أعداد المهاجرين نسبة لا يستهان بها من شعوبنا.
مأساة كهذه إقتلعت الإنسان من جذوره ورمته لمجهولية إقامة مغايرة، وما يتبعها من انفصام أو انفصال في الشخصية وفي أجيالها اللاحقة. هل تكفي صور الفوتو المرفقة للمحنة أو التذكارات التي سرعان ما تتحول الى ماض غير نافع، إلا كونها كمرثاة سرعان ما ينأى زمنها بالتدريج حتى يختفي. وما أكثر الصور حد مألوفيتها وانتفاء مفاعيل إثارتها الوجدانية بسبب من التداول المفرط لها. أمام وضع كهذا أعتقد أن من أوليات البحث التشكيلي أن ينتبه الفنان المهاجر الى وسطه التشكيلي ومحاولة استيحاء أساليبه الفاعلة المؤثرة من ضمن هذا الوسط الفني والمجتمعي الجديد. من هذه الأساليب الأداءات المفاهيمية. والتقنية هنا ربما تكون تقليلية، ربما مثقلة بتفاصيل ومواد وتقنيات مختلفة. ربما أيضا تكون لقطة من لقى رحلة الاغتراب، أو بناء انشاءات متعددة مبعثرة أو مقننة في أحياز معلومة. هي إذاً تعتمد على نواة الفكرة التي من الممكن البناء عليها لإجلاء المغزى، وربما لما قبل أو بعد المعنى.
حينما اعتمدت مدينة كوبنهاكن عاصمة للثقافة الأوروبية عام(1996) اقترح الفنان عباس على المؤسسة الثقافية الدانماركية أن يكون مسلخ مدينة كوبنهاكن المهجور مكاناً لعرض ترينالي(تحت سماء أخرى(*)، لم يدر بخلده أن يتحول هذا المكان الواسع المهجور الى صرح ثقافي وعلامة من علامات المدينة بعد نجاح مشروعه الذي أخذ من وقته أربعة أعوام. بالتأكيد هو يدرك ما لعنوان المعرض وتوقيت فعله من أهمية. فأن تجمع العديد من فناني العالم المهاجرين أو المرتحلين في عرض يكرس موضوعة أو ثيمة الهجرة (انتقال، أو استبدال، أو ضرورة ملحة) الأمر يعني أن يحاول كل منهم تفسير أو تبرير أو تفكيك سبب هجرته بالفكرة والتقنية المناسبة. أعتقد من هنا لا بد أن تكون الأعمال متنوعة ومغايرة وتتوازى ومغايرة أسباب الهجرات ودوافعها. فإن كان الفعل الفني ينطلق من باعث وسبب شخصي وانساني في نفس الوقت، فالأداء وهو يعيد ويفكك جوهر الفكرة، مهما كان، لا بد وأن يتعدى مألوفيته للإتيان بفعل تشكلي مواز. لكن يبقى ثمة ثلمة في هذا العرض رغم أهميته المعترف بها، ماذا لو حافظ من رمم البناية المسلخ وأعدّها للعرض، على بعض من معالمه القديمة التي تدل عليه. من أجل أن يساهم المكان أيضا (وهو اغترابي أصلا) في تصعيد القيمة الاغترابية للأعمال المعروضة المبنية أصلاً على ثيمة الاغتراب.
مع ذلك لم يكن مسلخ كوبنهاكن البناية الوحيدة المنتهية صلاحيتها، فالعديد من الأمكنة(معامل مقرات محطات سكك ورش موانئ عفى زمنها) تحولت في أوروبا الى متاحف وصالات فن وعروض مسرحية وغيرها من الأنشطة الفنية المختلفة، بعضها حافظ على بعض ملامحها المعمارية والأخرى جرت تحويرات كثيرة عليها لتلائم وظيفتها الجديدة. وأذكر هنا ما نوهت اليه في مقترحي لتحويل بناية القشلة البغدادية الى متحف لجرائم الدكتاتورية لملائمة ميزته المعمارية الأثرية المناسبة، بفضاءات غرفه المتينة الجدران وطرازها العثماني المعتم.
ما تزال إشكالية الأصل والتأصيل والتأثر بالفن العالمي شرقاً وغرباً مطروحة في الوسط التشكيلي العربي. رغم أن الزمن تعداها حسب ما أعتقد. فزمن مبحث التأسيس في النصف الأول من القرن العشرين، ليس نفسه زمننا الحالي بسيولته الثقافية وبقنواته التواصلية. عباس الكاظم وهو يقيم في الدانمرك المساهم في تأسيس مدرسة(الكوبرا) الاعتراضية، باشتغالات فنانيها على البداهة الطفولية والبدائية والوحوشية والتجريد التعبيري سوية. بحدة وكثافة ملونتها وتشخيصيتها. في عام(1992) دخل بوعي هذا الزخم التعبيري البيئي(التجريدي) لإنتاج فعله الفني المشحون بشجن عاطفي لا يخفي مصادره، لم يكتف ببيئته العاطفية الجديدة المتمثلة في رسومه الـمكرسة لهذا العرض الإحتفالي الـ(96)، بل استغلها مفصلاً من مفاصل مشهد أدائي أكبر نفذه بمعونة ستة عشرة راقصة في أداء حركي شغل الفضاء الوسطاني لمتحف الفن(الكلوبتيوك الكوبنهاكي) المعروف بدأته المؤديات بأداء بانتومايم على وقع موسيقى مناسبة وليتحول الاستعراض بعد تغيير الأزياء(ملابس وشال اسود على الوجود) لحركات تعبيرية نقلن فيها الرسوم تباعا الى هيكل عمودي منصوب لتستقر عليه حائطا مهيمنا على فضاء المكان. لم يكن هذا الحائط او الحاجز المعماري كغيره، لخشونة وحرارة ملونته، فعباس لا يستسيغ استعمال الفرشاة في رسمه، هو يسكب ويبني ألوانه بيده وأصابعه، يحفرها حفرأ، ليتحول هذا الحائط الحفري لعمل حركي مواز لبقية ايقاعات المشهد ككل. وهو هنا استفاد من الدرس التعبيري المعاصر للتعبير عن دواخل نفسه التي على ما اعتقد لا تبتعد عن هم الهجرة وارتحال البشر وتمازج واختلاف الثقافات. آلامه وآلامنا المعلقة نحن العابرين خطوط التماس الأعنف في العالم، وكما أشار اليها عنوانها(الآلام المعلقة) كناية عن جنائن بابل افتراضية مغايرة دلالاتها.
في عام (2000) وفي ساحة معتقل الخيام(المقلع) الشهير في جنوب لبنان وبنية تحويله الى متحف ادانة للممارسات الهمجية للمعتقلين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية(قبل أن تهده طائراته في حربها الثانية لتمحو صيته السيئ)، استغل عباس الفضاء الذي كان يمنح للمعتقلين وقت الاستراحة ليحوله الى عمل تركيبي ذو مغزى واضح بعد ان زرع ثمانية أسرّة حديدية جرداء بصفين وسط الساحة المنخفضة تحت الشمس وسلط فوقها شبكة تمثل جندي إسرائيلي يخيم بظله المتحرك مع اتجاهات الشمس فوق أسرّة المعتقلين الذين غادروا ولم يغادروا، كناية عن هيمنة الاحتلال وإدانة لجرائمه، وأنا هنا أتذكر السجون السياسة العراقية وحيث صفوف المعتقلين يفترشون الأرض بدل الأسرة في العهود المتتابعة. فالعمل التركيبي(الأنستليشن) عند فنان مرتبط دوماً بنزعته الإنسانية. كما في بقية أعماله الأخرى. لم يكن السرير بالنسبة له يمثل وظيفة الرقاد فقط. لقد حوله الى فعل تحريضي مغرق بدلالاته المضمرة، كما فعلها قبل ذلك في سريره(الوطن) الذي عرضه في بينالي القاهرة عام(1998) والذي حصد فيه الجائزة الأولى في الفن التركيبي التشكيلي. بقاعدته المركبة، تل تراب مغطى بلدائن تعكس صور فيديوية متحركة، دلالة عن عدم الثبات. فهل الوطن هذه العناصر البيئية التي تحمله(قاعدته)، أم هي حوادثه المتحركة غير الثابتة التي أوصلت الكثير منا الى ما وصلنا اليه، من عدم الاستقرار والثبات الجغرافي والبيئي.
عباس هو أيضا ابن وطنه الأم الذي سكنه ثقافة هادفة تعلي من شأن الإنسان. وكان وقع اغتيال شهيد الثقافة(كامل شياع) عليه مؤلماً. هو الذي خبِر الألم الجسدي والإنساني، كان حاضراً في ذكرى الاستشهاد الأولى في عمله المعبر(قداس لصديقي كامل). هنا يستحضر الصورة(الفوتو) متجلية بإنارة تناسب وقع المناسبة الحزينة حيث الأزرق يغطي صورة الشهيد ويتناغم واشعة المصباح المقابل المطروح على كرسي متين، ليشكل تضاداً بين هيكله الصلب وهشاشة الروح الضوء المتذبذب الصادر من المصباح. وليكمل ملحمته في تفصيلها الأخير حيث الرأس(الاغتيال الفيزيائي) نحتاً مطروحاً هو الآخر كما المصباح في حيزه الآخر النافذة أو الفرجة القصية.
أخيراً أنا هنا لست بصدد أيراد جرد بأعمال الفنان العراقي التشكيلي المغترب عباس الكاظم، وهو من أوائل من اشتغل بتقنيات معاصرة مختلفة، بل لأشير الى نوعية هذه الاشتغالات في رحلة اغترابه الأوروبية وبما استفاده من الدرس العالمي التشكيلي لإيصال أفكاره لجمهور مغاير، ولنا نحن أيضا أبناء الغربة اللاحقين في نفس الوقت.