روبرت شولز والمتوالية السردية

روبرت شولز والمتوالية السردية

د. نادية هناوي


لا غرابة أن يُعدَّ الناقد الأمريكي روبرت شولز من المنضوين في مدرسة نقد استجابة القارئ معطياً القارئ اهتماماً خاصاً. لكن الغريب أن يعطي هذا الناقد للحبكة السردية وقفة نقدية مهمة في كتابه (السيمياء والتأويل) معالجاً بمهارة الكيفية التي بها تحبك أحداث القصة لتغدو متقنة ومتينة، وقد إتفق مع تودوروف في تعريف القصة بأنها نوع من توالي القضايا التي هي على نوعين : الصفات والأنواع. وقد أصبح المنهج الذي أقترحه تودوروف للفاعلية السردية مقترباً سيميائياً عند شولز، يتعامل مع التوالي بوصفه صيغة اشتغالية لا يكاد يخلو جنس قصصي منها.


وهذا البزوغ في التوالي هو الذي يشكل ـ بحسب شولز ـ أساس الصناعة السردية حيث القصة عبارة عن نعوت وأحداث وأفعال وشخصيات وأسماء. وهكذا يصبح بإمكاننا على سبيل المثال قراءة متوالية تتألف من صفة مثل ( صبي ) وفعل مثل( يحب ) واسم مثل (البحث عن الحب ) لتغدو كالآتي:
أن صبياً يفتقر إلى الحب أو صبياً يريد أن يكون محبوباً .. وعن هذا التوالي يقول روبرت شولز: " إن هذه قصة لأنها متوالية من القضايا التي تتضمن الموضوع نفسه تكون فيها آخر القضايا تحويلاً للأولى، أيا كانت النهاية سعيدة أو تعيسة، فإن ما يجعل من المتوالية قصة هو العودة إلى القضية الافتتاحية في النهاية فالقصص تدور حول التحويل الناجح أو الفاشل للصفات" السيمباء والتأويل/ 152
وبهذا يصبح التوالي هو الأساس في بناء أي نص قصصي بغض النظر عن اجناسيته كأن يكون رواية أو قصة قصيرة أو أقصوصة، وستكون مهمة الناقد فرز التوالي ليكون كل توالِ على حدة، فهناك متوالية الأفعال الأساسية للعثور على القصة الأصلية وهناك متوالية الصفات ومتوالية الشخصيات ومتوالية الأسماء.
وينمذج شولز على مقتربه السيميائي في التوالي مستنداً إلى منهجية تودوروف السردية بقصة ايفلين لجيمس جويس التي تحوي سلسلة رموز وشفرات إيحائية، ويحللها على وفق متواليات صفاتها وأفعالها وأسمائها، التي ستدور القصص حولها أولاً على أساس أن نظام التدوين الرمزي عند تودوروف يلزمنا بان نركز على قضايا الصفة ويلزمنا أن نستخرج ثيمة العمل الآخر.
لكن السؤال الذي يلح هنا يتعلق بالزمن والتنظير للمتوالية الذي لم يعطه شولز توصيفاً يجعله أساسا لتوالٍ معين، فلماذا؟
لقد وجد شولز أن في منهج جيرار جينيت في كتابه( الخطاب السردي) إمكانية لتحليل النص القصصي استنادا إلى الزمن والمظهر والصوت " على أساس أن كل قص يمكن أن ينظر إليه بوصفه اتساعاً لفعل ما " السيمياء والتأويل/ 156 ولا غرو أن كل نص قصصي يرد إلينا بصورة خطاب سردي هو نص فعلي، يخبرنا عن مجموعة من الأحداث القصصية التي يمكن توليدها عن النص نفسه، ووفقاً لشولز فإن تمييز عنصر الزمن القصصي سيتم بثلاث صيغ بنائية هي ( الترتيب ، الديمومة ، التردد )
ويطبق شولز ذلك على قصة ايفيلن متحدثاً عن نظام التدوين الرمزي، مبيناً إننا نستطيع أن نصنع قصة لها بداية ووسط ونهاية، ومع ذلك تظل نوعاً من توالي القضايا القصصية التي هي على نوعين : الصفات والأفعال.
وأن أهم متوالية قصصية هي متوالية ( الصفة ـ الفعل ـ الصفة ) ولعل هذا الموقف الذي يتبناه شولز بإزاء الزمن هو انعكاس لتأثره بمنظور تودوروف للمتوالية القصصية على حساب ما قدمه جيرار جينيت عن الخطاب السردي بوصفه ( ترتيب، ديمومة، تردد) مطبقاً ذلك على المجموعة القصصية ( في زماننا ) لارنست هيمنغواي مميزاً الروي عن الحكي مع بعض الكلمات المفتاحية في قراءة القصص فنبدل الوحدات السردية الشخصيات ـ الشاهد ـ الأحداث بوحدات لفظية كأن تكون أسماء أو صفات أو عبارات أو أشباه جمل.
وإذا كانت كلود أدموند ماني قد ذهبت إلى أن أسلوب القص الموضوعي بطريقة عين الكاميرا هو نقل ( شريحة من الحياة slide if life ) فان روبرت شولز يرى المتوالية القصصية القصيرة والقصيرة جداً هي شريحة شبه طبيعية من الحياة.
وطبقا لعلاقة النص بالحكي فإن القصة القصيرة الواحدة يمكن إعادة كتابتها، كأن يتحول ضمير الـ (هو) إلى ضمير الـ( أنا ) أو أن يتكتم الخطاب في نص ليقابله قدر معين من الثرثرة في نص آخر، أو بالانقطاع الذي يجعل النصوص نصاً واحداً في مجموعة قصصية، وهو ما اعتمده همنغواي في توالي قصص( في زماننا ) بحيث ينظر إليها بوصفها مادة حكائية متشابهة جدا، أو حكاية أقرب إلى حكاية أو نماذج من جمل عن القصة نفسها مع أنواع من المنظورات الداخلية والخارجية الثابت منها والمتحول والمتعدد والخالي انطلاقاً من البؤرة وبإستراتيجية الإدماج.
ثم ينتقل شولز إلى العبارات ومقتربه في تحليل الصوت والمنظور كتاب رولان بارت س/ ز مؤولاً الجملة السردية بحسب الشفرات الخمس وهي: شفرة الفراسة والشفرة التأويلية والشفرات الثقافية والشفرات الإيحائية والحقل الرمزي.
وهذا الأخير هو أكثر أركان التشفير القصصي بنيوية أو ما بعد بنيوية على فكرة أن المعنى يأتي من التضاد أو التمايز الثنائي الأولي، ويطبق الشفرات على قصة ايفيلن أيضاً.
وبهذا تصبح الوظيفة السيميائية هي المنهج الأقرب عند روبرت شولز لتحقيق التوالي القصصي، بوصفه ثقافة فنية وليس اجناسية سردية أو نوعا قصصيا، كما ذهب بعض الأدباء العرب واسمين أعمالهم بأنها ( متوالية سردية ) معتقدين أنهم يقدمون للدارسين جنسا سرديا جديدا توهما بالابتكار، حاضين الآخرين على التوهم معهم بأحقية ( المتوالية السردية ) كجنس قصصي ونص كتابي سردي ولو عرفوا انه تكنيك لما اعتمدوه أبدا.
وهذا الوقوع في خطأ التجنيس هو سوء تقدير نقدي كونه يضفي على النص الإبداعي انتقاصاً حين يجعله كله تكنيكاً بينما المطلوب أن يكون النص مجموعة تكنيكات تماما كذاك الذي يسمي االشجرة جذور فالجذور جزء من مجموعة أجزاء لا تكون الشجرة من دونها مجتمعة وإذا أطلقنا عليها ذلك فكأننا نذم شكلها ونضر بكيانها .
ولقد أهتم روبرت شولز وهو الناقد ما بعد الحداثي ببنية التوالي وقصده ليس ابتداع نوع أدبي وإنما توسيع المحتوى السردي للحدث أو الشخصية أو الصفة كما في قصة ايفيلين التي ابتكر فيها جيمس جويس تكنيك التوالي والغاية أن ننظر بشفقة إلى وضع الفتاة الشابة ـ بطلة القصة ـ في حبسها الانفرادي المطلق من دون أن تكون قادرة على إعطاء علامة ما.
وقد أورد شولز في نهاية تحليله السيميائي نص القصة كاملاً وهو لا يتجاوز سبع صفحات كي يوقف القارئ على ما تحويه هذه القصة قصيرة من افعال واسماء وصفات يمكن أن تتوالد منها حبكات مختلفة، ولو شغل شولز نفسه بالتجنيس وتحديد الأطر والزوايا والمنعطفات لما وصفنا منهجه حينئذ بأنه سيميائي ولما عددناه ناقدا ما بعد حداثي أصلا.
وأمر طبيعي أن يكون لشولز موقفه الانفتاحي الذي يتعدى مرحلة نقدية تجاوزت نظرية الأنواع إلى مرحلة آمنت بتلاشي الحدود وتماهيها بين الفنون السردية. والهدف استفزاز القارئ بحثا عن المعاني وكيفية توليد البنى النوعية تمييزا للقصة عن الخطاب والأفعال عن الأحداث والقصة بوصفها أحداثا والقصة بوصفها زمانا ومكانا ..وهكذا.
وخلاصة ما نريد الوصول إليه من وراء هذا التحليل لمنظور شولز للتوالي السردي توكيد حقيقة أن النقد الراهن تجاوز مسائل التنويع الأدبي ولم تعد قضية التجنيس تطرح إلا في إطار انفتاحي إدماجي تداخلي، يتعدى أن تكون مسألة الحكي أو الروي مرادفة للسرد والسردية.
فالقصة ليست نسقا حكائيا ينتظر من يجترح منه أنواعا جديدة، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الناقد قبل المبدع حتى إذا توهم المبدع في توصيف عمله بأنه متوالية، صحح الناقد بوعي وتخصصية، خطأ ما ذهب إليه ذلك المبدع مظهراً له الحقيقة بعلمية وموضوعية لا أن يجاريه على الخطأ، وقديماً قال الشاعر العربي :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والخطورة في هذا التوهم ليست محصورة في نقدنا ولا في أدبنا وإنما تعديها إلى الدراسة العليا فيجهل الأستاذ مع مجموعة أساتذة ليقعوا في هذا المحذور، جاعلين طلابهم جاهلين مثلهم، مع أن طريق الحقيقة واضح ناصع لمن ابتغى الوصول إليه بوسيلة أو أكثر من وسيلة حتى لو كلف ذلك مشقة القراءة والبحث والتنقيب.
ولربما استطاعت هذه المقالة مع مقالات سابقة في موضوع ( المتوالية السردية ) أن تقطع لهم نصف الطريق موفرة عليهم وعلى الدارسين بعض مشقته، وما زال الطريق مفتوحا لمن يريد أن يشعر بلذة الحقيقة غاذا السير نحوها بالقراءة والبحث.

تعليقات الزوار

  • حامد لعيبي

    هل يمكن عد المتوالية القصصية نظرية مستقلة وهل كان المنشأ لها غربي أم عربي وماهي المصادر التي يمكن الاعتماد عليها لفهم مصطلح المتوالية بشكل أوضح اجنبيا قبل العربي وشكرا

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top