زهير الجزائري
أقرأ روايات فلاح رحيم لأرمم ثلماً في ذاكرتي العراقية. روايتاه (حبات الرمل ... حبات المطر، 2017) و (صوت الطبول من بعيد، تحت الطبع) سياق متصل من سيرة الكاتب خلال النصف الثاني من السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهي فجوة انقطاعي التي تبدأ من نهاية ما سمي بالجبهة الوطنية ثم تنتهي بالحرب العراقية-الإيرانية، بينما روايته الأولى (القنافذ في يوم ساخن، 2012) عن سيرته كمنفي خلال حياته الأكاديمية. قرأت الروايتين الأخيرتين متتبعاً زمانهما مستحضراً الأمكنة من الذاكرة، وأشهد أن فلاح أسعفني كثيراً لأنه في منفاه يمسك بالتفاصيل قبل أن تغطيها سحابة النسيان. يحرص، وهو يكتب، على أن يغلق الباب خلفه حين يفتحها دون أن يترك للقارئ أن يعرف ذلك ضمناً من تجربته الخاصة.
تتجول عيناه خلال الرواية لتُرينا كل تفاصيل الزقاق والبيت، تتفحص أشياء الألفة كأنه يراها لأول مرة، ويتنقل في جبهات الحرب من موقع لموقع، وحيثما ذهب يؤثث المكان قبل أن يضع الحدث فيه، وأحياناً يضحي بالسرد الحركي الروائي لصالح وصف الأشياء الجامدة، الرادارات وأجزاء المدافع وجغرافية المواقع بتفاصيل دقيقة. كتب فلاح رواياته في المنفى حيث يصير استرجاع الأماكن والأشياء جزءاً من مشاغل الذاكرة. يسترجع المنفي التفاصيل ويسميها ليتوهم امتلاكها. وقد دفع فلاح الكثير حياةً ووعياً بهذه التجربة لذلك يحرص على أن يرويها كما هي مكاناً وزماناً.
الرواية وحدها لا تبرر سببها. ينبغي أن يكون هناك سبب خارجي يبرر كتابة الرواية. في (حبات الرمل..) هناك قصة تحت نفس العنوان كتبت قبل أربعة أعوام من بداية حدث الرواية تستدعي الآن التمدد إلى رواية، هذه القصة "تفرض نفسها نولاً للحكاية وطاقة محرّكة". وفي (صوت الطبول..) يكتب الراوي لأن صديقاً "طلب مني أن أروي حكايته الحربية كما سمعتها منه مراراً". الرواية لم تكتب بذاتها ولذاتها، إنما تلبية لوعد. وفي كلتا الروايتين تُكتب الحياة ثم تُعاش لاحقاً كما أقدار الرب.
الخيال في روايات فلاح شحيح. شحة الخيال يقول لنا إن في الواقع الذي عاشه الكاتب، وفي جبهات الحرب بالتحديد، ما يكفي من اللامعقولية. المصالحة بين المخيلة والذاكرة تحدث على أرض الواقع، فقد كتب ما عاشه وما رآه فعلاً كسيرة شخصية. ما يحتاجه الروائي هنا ذاكرة دقيقةً بدلاً من المخيلة. ما عليه إلا أن يلتقط اللحظة الأكثر دلالة، والحياة في جبهات الحرب كريمة بمثل هذه اللحظات: تكفي مثلا صورة السجين والسجان في قيد واحد، تكفي حالة التأهب بدون عدو، أو بعدوٍ لن يأتي، ابتذالات الحياة اليومية وسط الشظايا التي تبحث عن اللحم الآدمي.
تسلسل روايات فلاح يساوي تماماً تسلسل الزمن، لذلك يؤكد "لن أقفز إلى الأمام، لست من المولعين بالعبث بالتعاقب السردي وألاعيب المبتكرين. أنا حريص على استعادة الانتظام والرتابة وسط هذا الاضطراب الشامل."
في روايتيه (حبات الرمل...حبات المطر) و (صوت الطبول من بعيد). يعكس، كمدني وجد نفسه وسط الحرب، المفارقة الحادة بين الحياة المدنية والحياة العسكرية في بلد بلغ فيه التعارض بين الحياتين حد التناقض بين الموت والحياة. هذه المفارقة تقسم روايته (حبات الرمل..) إلى روايتين منفصلتين جمعتا في ٦٠٧ صفحات. الخيط الذي يربط تناقض العالمين هو قصة حب معاشة أو متذكرة من وراء المتاريس. للحياتين إيقاع زمني متقارب.. إيقاع الحياة المدنية بطيء، زمن انتظار وتأجيل. كل العواطف مكبوتة ومؤجلة بانتظار وضوح ما. لا يتخذ البطل (سليم) قراراته العاطفية لأن إرادته مسلوبة بسبب وضع سياسي يفوق إرادته. الخوف من الآتي يحكم البطل ويعطل إرادته فيترك الأمور للزمن. حياة سليم منقسمة بين نشاطه السياسي كشيوعي منتمي، وبين عقله كمثقف شكاك بالحزب الذي ينتمي إليه، وبين سعيه لإخفاء هذا الانتماء لأن "البلاد مقدمة على فصل مخيف من المواجهات ولا مكان للموقف الوسط". عليه أن يتوارى ويواري أفكاره وفعاليته، أن يخفي ذاته الحقيقية وراء قناع من الحياد، يخفيها عن أقرب الناس إليه، بما في ذلك أهله وحبيبته. بسبب كل هذه التعارضات والتعارض بين فكره وأقداره فقد تلك الثقة القديمة في أن المرء مهندس مستقبله يصنعه كما يهوى. هنالك ما يشبه السقوط الحر في فراغ شاسع دون تخوم بينة وهو يتخبط متشبثاً بأي جسم صلب ثابت يقيه الارتطام بصلابة القاع، ولا أثر لمثل هذا المرتكز حوله.
المكان في الجزء العسكري من الرواية هو معسكر وسط صحراء على امتداد الأفق وحياة عسكرية بدون حرب تذكر برواية بوزاتي عن "صحراء التتار"، بانتظار عدو غير مرئي و لن يأتي. الحراسات رمزية في "صحراء شاسعة خالية منكشفة لا تسمح لأحد بالاقتراب منه متسللاً...الصحراء المنبسطة الجرداء تحتمي بانكشافها." والموقع الذي تجري فيه الرواية لم يكن مستهدفاً من أحد، كان هامشاً بعيداً عن اهتمام الجميع في المدن الآهلة. ما من عدو، المكان نفسه هو العدو: "حر الظهيرة المجنون وعواصف التراب ووقت العصر حين تغطس الشمس في الرمال يكثف الإحساس بالوجوم والقنوط حيث لا ظالم ولا مظلوم، سعيد أو تعس ...هذه التصنيفات تصح في المدن الآهلة...الصحراء لا تميز في حصصها من القسوة." في مواجهة هذا الأفق الموحش ينصرف الجندي "إلى إحصاء خساراته والتوجع مع نفسه."
في هذا الجزء من الرواية وبانتظار اللاشيء يهيئ فلاح لروايته القادمة.
كاتب الحرب
شروط كاتب الحرب تنطبق تماماً على فلاح رحيم. هذه الشروط حددها صموئيل هاينز في كتابه "حكاية الجند" (ترجمة فلاح رحيم) "ما يناسب مذكرات الحرب أن يكون الكاتب في وسطها، وثيق الصلة بأحداثها، لكنه بعيد الصِّلة عن قيمها، غريباً عنها، شاهداً عليها إلى جانب كونه جندياً فيها، يحس بالحرب لكنه لا يحبها." ففي الخندق وبانتظار الموت الذي يأتي صدفة عبثية، وحيث شظايا القذائف تشق الهواء والفضاء المفتوح فوقه، يسجل فلاح يوميات الحرب كوسيلة لاستعادة المبادرة لفعل شيء يتحدى به استهانة الحروب بوجوده الفردي. لا يتوقف فلاح ليشرح لنا دوافع هذه الحرب وستراتيجياتها. الحرب قائمة مثل القدر والراوي منقذف وسطها دون إرادة. الشخصيات التي تصنع الحرب وتديرها غائبة. ليست هناك غرفة عمليات وخرائط ولا شخصيات مثل نابليون أو كوتوزوف كما في "الحرب والسلام" لتولستوي. الراوي سليم يرى الحرب من خلال الأفعال الصغيرة، وحتى المبتذلة للأفراد الذين يقع عليهم عبء الحرب. مشاركين في القتل وضحايا له في نفس الوقت. عشرات الشخصيات العابرة، تظهر مع الحدث ثم تختفي لتنبثق مع حدث آخر.. جنود وضباط صغار تنكشف شخصياتهم في مجاورة الموت: الذي يحلم بشراء سيارة جديدة، والذي لم تسعفه إجازته القصيرة ليرتوي جنساً من زوجته الجديدة، والمراسل المنافق الواشي عند الآمر، نائب الضابط الذي لا يغادر مخبأه...التراتبية العسكرية الصارمة لا تخفي عن فلاح الوقائع التي تكشف جوهر الأفراد في هذه الأمكنة الجهنمية. الشخصيات لا تنكشف في صمتها وسكونها من خلال مونولوغها الداخلي، إنما تنكشف من أقوالها والأكثر من أفعالها وهي في خضم الحدث. الحياة المعاشة لكاتب هذه الرواية، على خيباتها، تعاش في النهاية لأنها تخضع بدقائقها لاختبار الروائي وتسجل بتفاصيلها. التوثيق اليومي للتجربة يحتل الجزء الأكبر من الرواية. بدون التوثيق تتحول الحرب لفاجعة صماء لا تعني إلا اللامعنى. تستعاد روائياً بوصفها تجربة لها صلة بالذاكرتين الجماعية والفردية. السرد اليومي بصيغة المفرد، لكنه يشمل الجنود حوله بصيغة الجمع "هل يوجد في رعيل المقر الصغير اثنان متفاهمان دون شائبة؟ أشعر بألم وأنا أجيب بالنفي القاطع..." عيون الكاتب ووعيه يتجولان في الموقع لرصد الحركات والخروج بأحكام.
في روايته (صوت الطبول..) تتناوب ذاكرتان: ذاكرة تتصل بالتجربة المدنية في البيت ومع أصدقاء الجامعة والمقهى وعلاقته مع عمله وبالمركز منها علاقته مع البولونية بيانكا، وهي ذاكرة تسترجع الأحداث بعد وقوعها وتتصل بزمن الكتابة بوعي مفارق ومن زمن حالي يستشرف أحداثاً وقعت في زمان سابق. تجري الحركة الروائية في الحياة المدنية وفق زمن انسيابي يسير مع تتالي الأمكنة من الثكنة الى محطة الوصول ومنها بالسيارة إلى مدخل الزقاق متتبعاً تسلسل الأمكنة وصولاً إلى البيت.
ذاكرة أخرى تتصل بتجربته في الخطوط الأمامية. الفجوة بين الحدث وروايته تقلصت لأن الكاتب يروى الأحداث يوماً بيوم، وأحياناً في لحظة الكتابة "أنا أجلس الآن في نفس الحفرة التي اخترتها منذ البداية." الجمل برقية قصيرة بدون استطرادات. والعين التي تشاهد مربكة تدور وتلتقط مشاهد لا على التعيين، والزمن مبعثر حيث نعرف حركة الجنود في النص قبل أن نعرف سقوط القذيفة. السرد هنا يوحي بتشظي الحياة في لحظات القصف العشوائي: "استيقظت في الحادية عشرة ليلاً على أصوات متداخلة وتراكض ... هرعنا جميعاً إلى بنادقنا تملأ آذاننا أصوات الاشتباك الصاخب بالأسلحة الرشاشة. كانت مدفعية الميدان وقتها خارج الحلبة! ارتدى عريف عبد خوذته وجاء ينقل خطوه بحذر كوميدي مبالغ فيه محدودب الظهر داعياً الجميع أن يفعلوا مثله." تمتزج المشاهد الجماعية والفردية، ويمتزج المشهد بالانطباع بعجالة دون حاجة لتفسير.
يهدأ الزمن ويتمدد حين ينفصل عن الأحداث "أتذكر أنني رأيت في أول يوم أصل فيه الجبهة وأسمع صوت القصف أمراً أثار دهشتي...." ها هنا، في انفصال الذاكرة زمانياً عن التجربة تدخل حكمة الكاتب وأحكامه حين يطغى التأمل على فوضى التجربة وحرارتها.
الملل بدل البطولة
الحرب كما يصفها كلاوفتس تدفع الطاقة الإنسانية حتى أقصى حدودها. فلاح، من معايشته الخاصة ومن إنكاره شرعيتها، يثبت العكس فيرينا في روايته "صوت الطبول.." رتابة الحياة على حافة الموت. لا عجب أن يبدأ فلاح روايته الأخيرة من نهاية الاندفاعة الأولى في الحرب العراقية-الإيرانية. يبدأ من حالة الانكفاء والدفاع السلبي والتراجع.
في منفاي، وهو مناف متعددة، تابعت سيل الروايات التي أدرجت تحت عنوان (أدب القادسية) هناك تمجيد للحرب بذاتها باعتبارها مطهّر خلقي. ففي الأحاديث الهامسة بين الرصاصة والرصاصة يعترف الجندي لرفيقه بأن الحرب غيرته تماماً بعد أن كان يفزع من صوت الطلقة، وينحي الكاتب الخوف ليجد جمالاً في ليل البصرة الذي تضيئه قذائف التنوير، هناك حوارات مطوّلة عن "جماليات الاستشهاد في قادسية صدام". الرموز تغتصب الوصف والترددات الداخلية للشخصيات، والسمة الرمزية لتلك الكتابات هي الاقتران الدائم بين الموت والميلاد حيث يأتي الوليد الجديد في اللحظة التي يُقتل فيها الوالد.. هذا الاقتران يتجسد في نصب الشهيد الذي يتجاور فيه سقوط الدرع مع الرحم.
يفند فلاح رحيم أية أسطرة رمزية للحرب. ليست هناك حركات جماعية للجنود حوله. ليس هناك فرد يفقد ذاته ضمن الجمع المندفع، وليس هناك صراخ عصابي (هجوم!) ليست هناك فكرة أيديولوجية مقنعة تبرر قبول الحرب والثمن الفادح.
الفعاليات القتالية خلال الهجوم والهجوم المضاد من جانبه غائبة كلياً والتركيز على ردود الفعل السلبية على فعالية العدو من خلال القصف البعيد: الكل في حالة كمون إزاء قصف معادي ولا بطولات، البطولة، إذا سميناها، تكمن في اعتياد الموت: "الجنود يصوبون حجارة إلى كعب زمزمية، وقد حفزهم رهان الفوز ببعض النقود. ظلوا منهمكين في لعبتهم بينما القصف يشتد حول موقع البطرية." هل هم شجعان؟ يسأل فلاح، ثم يجيب نافياً "الدافع إلى فعلهم ذاك معايشتهم الخوف مدة طويلة". يسخر فلاح من الكليشيهات الصحفية التي تريد أن تربط الشجاعة بعمق الإيمان بالقضية التي من أجلها يحارب الجندي: "لكن من يعش في الجبهة كنفر ضائع، لا صحفي موفد لتسجيل انطباعات سريعة، يدرك كذب هذا التفسير."
بعد قراءة رواية فلاح وقع بين يدي بالصدفة كتاب "الكاتب في الحرب" A writer at Warللكاتب الروسي فاسيلي غروسمان Vasily Grossman الذي غطى مقاومة الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي في كل الجبهات ومنها ستالينغراد المحاصرة. بين التقارير الصحفية التي كتبها للصحافة اليومية وبين المذكرات الخاصة هناك شرخ بين الكليشيهات الثابتة للمراسل وهو يكتب للصحافة العسكرية خلال الحرب، وبين النبرة الخافتة في يومياته وهو يصغي لأحاديث الجنود "معهم لست بحاجة لأسئلة، كانوا يتحدثون لي دون تصنع ولا عبارات رنانة في بوح صادق عن معاناتهم ومصائرهم." وفي مذكراته ورسائله الشخصية نبرة تأملية متشككة بقصدية واعية في المآسي التي رافقت بدايات الحرب عام ١٩٤١، يتابع مصائر الناس المفجوعين بالحرب بصبر ودقة ووصف دقيق للأمكنة والجو العام الذي رافق الحرب.
التذكر في رواية فلاح، يشمل الأيام العادية والأيام الاستثنائية. بل إن الأيام العادية تحتل معظم وقائع الرواية، ليست هناك بطولات ولا هجمات أو هجمات مضادة، الدفاع السلبي هو الغالب، انتظار القذيفة القادمة ولا يظهر العدو كصورة مجسدة، إنما تأتي قذائفه. في الهجوم أو الهجوم المضاد يفقد الفرد ذاته ويتبع الآخر، وهو القائد الذي ينفخ صافرته ويصرخ بالجمع: هجوم! القتلى خلال الهجوم يتساقطون إلى الخلف تماماً كما الماضي دون أن يلتفت إليهم أحد. في الدفاع السلبي يرسل العدو قذائفه ولا يهجم.. ردود الفعل على القصف البعيد فردية، كل يتصرف حسب طبيعته. فلاح يقتنص بمراقبته ردود الفعل الفردية. "لم يمهلنا القصف الإيراني العنيف الذي تصاعد في تلك اللحظة وأعقب انفجار آخر أعتدة الكدس مباشرة فرصة تأمل ما يعنيه موت قاسم. تفرق الجمع مهرولين إلى مواضعهم تاركين الجثة وحدها وسط أكياس الرمل المسخمة... لجأت مع هاشم إلى موضعنا القريب هذا ننتظر ما تسفر عنه موجة القصف المقصود الموجه هذه المرة... سقطت قذيفة هاون قرب موضع الطبخ وجثة قاسم المتروكة هناك... ظل أزيز اللاسلكي متصلاً كما هو لا تعكر صفوه أية كلمة من الجانب الآخر". هناك موتى في حرب فلاح، لكن الموت نفسه غائب. يقترب الموت فيفقد هيبته، يترك فلاح القتيل كتحصيل حاصل لعبثية القصف ويمر بالجثة مروراً عابراً لثلاث مرات دون توقف. لا يستحق الموت وقفة تفصيل، إنه مجرد فارزة، في السياق المتناثر للحركة العامة. لا يتوقف الراوي ليصف لنا كيف قتل القتيل، لأنه لم يره ولا يريد أن يتفحصه. الموت أكيد وعابر، تتعداه الأحداث الأخرى. الملل يغلب خلال انتظار الموت في الخنادق على الإثارة. خلال القصف البعيد لا يرى الجندي قاتله أو قتيله كما في الاقتحامات.
المثقف أو الروائي؟
يتناوب الروائي والمحلل في روايات فلاح. الروائي يتخلى عن موضوعيته ككاتب من خارج تجربته يصمم مكاناً وزماناً ويضع فيه حدثاً يهدف لتوصيل فكرة عامه. فلاح يدخل في صلب حكايته. وهي في الحقيقة ليست حكاية، إنما شهادته ويومياته عن تجربته الخاصة التي عاشها كجندي في حرب. هي تجربة محولة إلى رواية وليست رواية ذات قيمة رمزية عامة مصممة لتكون كذلك. تنطلق الرواية من فرد لا يقبل تجربة فرضت عليه. تنطوي هذه التجربة على كل ما يخدش البديهيات العامة. فالشجاعة مفقودة في حرب فلاح، وكذلك المهارة، فالضباط مخادعون يسعون للنقل إلى أماكن أهدأ في المعسكرات الخلفية، العادة حلت محل الشجاعة، الحظ حل محل الأقدار الروائية. في نفس الوقت هناك إذعان قسري من خلال تهميش المشاركين وتحويلهم إلى بيادق إزاء لوحة الحرب الكبيرة.
ليس فلاح الروائي من يروي الوقائع، بل البطل سليم المدني المثقف الذي جاء لواقعة يرفضها أصلاً ولا يعيشها بصفتها حياته، إنما يراقبها بعين متشككة، بصفتها قدراً مفروضاً. ولا يستطيع الروائي أن يقف بمعزل عن روايته، إنما يتخلى عن موضوعية باردة، ويدخل الرواية وعالمها باعتبارها تجربته الخاصة وإن كانت تجربة الجماعة أيضاً.
حيلة الرواية تكمن في احتواء الانطباع من خلال السرد. الحوار والوصف يستوعبان أفكار الروائي. لكن روائياً مثل بلزاك يأخذ مكان الله وهو يرى شخصياته وأفعالها من الأعلى. يراها ويحكم على أفعالها بمجرد أن تفتح الشخصية باباً لتدخل صالة مقامرين قبل أن تجلس معهم. المثقف المدني سليم يزيح الروائي أحياناً ويهيمن المحلل على الوصاف ويتغلب الحكم على التجربة المعاشة من فوقها. الحكم لا يتداخل مع سرد الأحداث إنما يسبقه أو يليه وتتغلب لغة التحليل على لغة الرواية حين تهدأ الأمور: "اكتشف سليم بعد حين من الصدمة أن أصعب ما في الموت الحياة. الموت ينتمي إلى سكون الأبدية وغفلتها وهو ما تنبشه الحياة وتشاكسه وتتحداه بيأس غاضب. تعذب الحياة نفسها على عتبات الموت وتوغل في تأمل فجيعتها حد التعب والوهن ثم تأتي طقوس المواساة. أبلغ تعليق على الموت هو الصمت، ولكن الحياة لا تقبل الصمت وتبقى تصر على الكلام والمعنى في وجه ذلك الصمت الأبكم. لذلك ينتمي كل ما يقال ويكتب ويفعله الناس في مواجهة الموت إلى ما قبل الواقعة وما بعدها. الواقعة نفسها لا تقبل أي تعليق، إنها النقيض الكامل للكلام والحياة." أحياناً يخرج فلاح عن سياق النص ليعكس لنا بمرارة سخطه على جنود عراقيين يأخذون صورة تذكارية وأمامهم جثث الجنود الإيرانيين الذين قتلوهم.
في لحظة حزن ثقيل يغادر سليم مشاعره الداخلية ليدقق في حركات أهله خلال طقوس الزيارة. هنا لا يكتفي العلماني بالمراقبة الخارجية لحركات الآخرين، إنما يستبطن مشاعره الخاصة ويصدر حكماً: "انتبه سليم وهو يرصد العالم المحيط به أثناء الزيارة وبعدها أنه لم يندمج في طقوسها كلياً وأن انشغاله بتقصي معانيها وطريقة والديه وإنعام في استقبالها قد أفسد عليه ما حصدوا هم منها."
وفي الحالين، في السرد أو الحكم، يكمن العمق في دقة التفاصيل التي عاشها الكاتب وسجلها يوماً بيوم بأعصابه وبوعيه.