تجارب دولية مختارة في مكافحة الفساد مقاربة مع الملف العراقي

آراء وأفكار 2019/02/04 06:46:58 م

تجارب دولية مختارة في مكافحة الفساد  مقاربة مع الملف العراقي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

 مفهوم الفساد له تعاريف متعددة متنوعة منها ما يتمييز بالعمومية وأخرى ترتبط بشأن أو شؤون محددة. أحد التعريفات العامة الذي يمكننا إيرادها هي أن الفساد : "تحريف سلطة ما لفائدة خدمة مصالح خاصة ، سواء أتعلق الأمر بسلطة سياسية أم بسلطة قضائية أم إدارية أم أقتصادية . بمعنى آخر ، الفساد عبارة عن إتخاذ القرارات في الشأن العام وفق إعتبارات المصلحة الخاصة ، وليس وفق المصلحة العامة". علما بإن اشكال وصور الفساد لاترتبط بالشأن العام فقط وإنما بالشأن الخاص أيضاً خاصة وأن الحدود بينهما ليست محددة تحديداً ثابتاً أو مطلقاً. من هنا نجد إن صور وأشكال الفساد تغطي شؤون ومصالح متنوعة متداخلة في تأثيراتها وتداعياتها (السياسية - الاجتماعية – الاقتصادية –الجيوسياسية وغيرها). إن الفساد أضحى أكثر من ظاهرة عابرة في حياة المجتمعات والدول بل أصبح "ثقافة ومنظومة –هيكلية مؤسساتية " ما يضيف تعقيدات كبيرة على موضوعة الفساد المركبة . من الأسئلة المهمة في مجال تشخيص و تحليل ظاهرة الفساد المركبة في عناصرها ، مضمونها ، تأثيراتها وتداعياتها العامة سؤال حول طبيعة المساءلة : "هل يمكن مساءلة الفساد سياسياً أم إدارياً أم اقتصادياً أم هناك أسئلة أعمق يمكن أن نطرحها على القانون والثقافة والعلاقات الاجتماعية والتاريخ؟ لانود الخوض في تعقيدات مفاهيم ونظريات الفساد  ولكنها مسألة غاية في الأهمية إذا ما أردنا تبيان مدى صعوبة معالجة أو مكافحة الفساد أو على أقل تقدير معرفة كيفية إحتواء تأثيراته في المحيطين الداخلي والخارجي . إن جهود مكافحة الفساد في العراق تقع حتى الآن في معظمها في إطار محدود نسبياً . برغم ذلك يمكن القول بإن جهود حكومة السيد عادل عبد المهدي قد تكللت بالنجاح النسبي من خلال تأسيس المجلس الاعلى لمكافحة الفساد وهي خطوة مهمة عملياً في طريق الألف ميل . إجراء مرحب به يترافق مع توقعات متباينة تحمل درجات من التفاؤل أو الحذر النسبي للنتائج التي يمكن تصورها على الأرض خاصة وأن القوى التي قد تتضرر مصالحها لن تقف مكتوفة اليد تجاه نجاح هذه التجربة الجديدة . إنطلاقا من ذلك يبدو من الأهمية بمكان ضرورة الاستفادة من تجارب العالم في مقاربة موضوعية مع الحالة العراقية التي بينت تراجع العراق إلى الدرجات الدنيا في المقاييس أوالمؤشرات الدولية لمكافحة الفساد من ضمنها وبشكل واضح التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية. علما بأن أي تقدم له في الجدول الصادر عن تقرير المنظمة للعام 2018 لايقاس عليه كثيراً إذ إنه لازال ضئيلا )موقع 168 من مجموع 180 الموقع الاخيرالذي احتله الصومال). من منظور مقابل لايمكننا أن ننكر إن جهود الأمم المتحدة في تأسيس الميثاق العالمي لمكافحة الفساد تكللت بالنجاح "ظاهرياً" في أكتوبر -  2003. هدف الميثاق الدولي تقليص الممارسات التي تهدد "الحكم الرشيد" و"الرفاه الإنساني" من خلال خلق جهاز دولي ملزم قانونا لمكافحة الفساد. ترتيباً على ذلك ، حدد الميثاق خمسة مساحات أو مجالات رئيسة للايفاء بالالتزامات هي : أولاً: الوقاية من الفساد ، ثانياً: التجريم  وتطبيق القانون ، ثالثاً: إستعادة الاموال والممتلكات المهربة ، رابعاً: استخدام التقنية للقضاء على الفساد ، خامساً: تبادل المعلومات بين الدول حول قضايا الفساد. ممارسات الفساد غطت حالات متنوعة منها إستخدام : الرشوة ، النفوذ غير القانوني في الحقل التجاري ، إساءة استخدام المنصب الرسمي لأغراض الفساد وأخيراً: حالات متنوعة من الفساد في القطاع الخاص وفقاً لتوصيف الامم المتحدة. من هنا، اتفقت الدول الأعضاء المنضمة  للميثاق على خطة هدفها إلزام الدول تنفيذ نصوصه  وبنوده. أكثر من ذلك، إتفقت الدول المشاركة في الميثاق على آلية مراجعة لما نفذ من بنود ونصوص قانونية دولية . من منظور أخر لابد من توضيح مدى علاقة الفساد بموضوعات التنمية الإنسانية التي تظهر بشكل واضح مدى صعوبة مواجهة ظاهرة الفساد كونها مركبة ، حرجة وترتبط بمجالات حياتية عديدة جدا . إذ وفقا لتقرير من تقارير البنك الدولي   " World Bank – WB : "يضر الفساد بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية  ويمنع الاستثمار ويعيق التنمية ، ويحفز على عدم المساواة ويقوض الاستقرار الاقتصادي والمالي ، وهو كذلك يقلل من فاعلية الادارة العامة ويشوه قرارات المصروفات العامة ويحول مسار الموارد ضد حاجات قطاعات أساسية كالصحة والتعليم والسكن اللائق ..كما يؤدي الفساد إلى تقويض القانون وعدم فاعليته ويضر بسمعة الدول ويقلص من جاذبيتها الاقتصادية". . التبرير المنطقي لإجراءات المكافحة وفقاً للتقارير الدولية له أبعاد شمولية مترابطة في تأثيراتها وتداعياتها الخطيرة : "إن الفساد يقوض الديمقراطية ويقلص مجال دولة القانون ، ويزعزع استقرار دول باكملها ، ويؤدي إلى خروق متعددة لحقوق الانسان ، ويفسد قواعد اللعبة السياسية ، ويزرع الشك وفقدان الثقة عند المواطنين ، ويزيد من سوء حال الناس الاكثر فقراً ، ويقوي الزبونية والامتيازات ، ويساهم في تفكيك النسيج الاجتماعي ، ويقلص القيم التي يجب ان تكون اساسا للاخلاق العامة والمصلحة العامة الأمثلة الجديرة بالإشارة في مجال مكافحة الفساد عديدة جداً منها ما حقق نجاحات وأخرى ما وصلت إلى نتائج محدودة  بل وقسم أخر منها فشل في إدارة هذا الملف المعقد والذي يتسم بالحساسية المفرطة . نقطة انطلاق مثلا دولة غانا في عام 2014 حيث اعدت خطة وطنية لتنفيذ بنود ونصوص مكافحة الارهاب. الخطة الغانية غطت 120 هدفاً ما جعل مثل هذه الستراتيجية متنوعة الابعاد توصف بكونها طموحة جداً . على رأس هذه الأهداف أولاً : تدعيم تطبيق منهج السلوك النزيه في قطاع الخدمة العامة ثانياً: تحسين إجراءات التصريح عن الذمة المالية لممتلكات الموظف الحكومي  ثانياً: توسيع نطاق تبادل المعلومات بين الدول الأعضاء في الميثاق، ثالثاً: تبني عدة قوانين جديدة لمكافحة الفساد. جدير بالذكر أن 15 دولة اخرى قد اعلنت عن اهداف مماثلة لإهداف غانا في مكافحة الفساد وإن إختلف الأمر وفقاً لخصوصية الحالات والظروف في الدول المعنية. صحيح أن غانا قد حققت بعض النتائج المتواضعة في صياغة وبلورة استراتيجية  مكافحة الفساد إلا أن عملية التطبيق اكتنفتها صعوبات ناجمة عن طرح سياسات واسعة النطاق مضادة للفساد "مثالية" في وقت تواجه فيه معارضة شديدة من الداخل. من هنا، يمكننا القول بإن الحالة العراقية مماثلة للحالة الغانية في بعض جوانبها ، إذ حتى مع إمكانية طرح ستراتيجية وسياسات جادة لمكافحة الفساد لابد من توقع وجود معارضة تمثلها جهات لها مصالح معارضة لاتتمنى ان يقضى على الفساد او ربما حتى يخفف من شأنه. مثال اخر يبين أن مواطني موريشوس Mauritius  (الدولة التي تقع في المحيط الهندي) عندما ابدوا قلقهم الصريح من انتشار الفساد الذي في الغالب أتخذ صورة رشاوى في الدوائر الحكومية أتجهت اللجنة الوطنية المستقلة المضادة للفساد لأتخاذ برنامج لمنع الفساد في إطار استراتيجية تبتدأ بالمعالجة من إدنى السلم الحكومي إلى الاعلى من أجل تحقيق أهداف مهمة متعددة منها أولوية تقليص فرص استخدام الرشاوى ثم تحجيم المحسوبية لتنتهي بإتجاه تخفيف حدة صراعات المصالح في القطاع العام. وفقا لظروف موريشوس اعتبر الاطار اللامركزي هو الاجدى في مكافحة الفساد وقد استدل عليه من عدد اللجان التي تاسست حيث بلغت 70 من مجمل 200 لجنة كلفت بتنفيذ 380 أجراء لمكافحة الفساد.  من منظور مكمل وفقاً لأوضاع العراق المعقدة نسبيا انتشر الفساد بصورة كبيرة جدا من القمة إلى المستويات الدنيا في هرم السلطة وبالعكس ايضا ، الامر الذي ينتظر معالجات أكثر حدة ، جذرية وشمولية.  في جنوب افريقيا نجد مثالا على جودة أداء وزير المالية برفان جوردهان الذي تسلم وزارة المالية في عام 2009 حيث كشف عن أفتقاد بلايين الدولارات نتيجة معطيات متعددة منها شراء السلع والخدمات بصور متعددة منها تلك غير القانونية الناجمة عن الفساد ، إضافة إلى إنعدام الكفاءة وسوء الادارة ما ترتب عليه تصاعد وتيرة الاخطاء من ضمها أخطاء الجهاز البيروقراطي التي تعرقل عمليات الاستثمار . اما المعالجات فقد شملت إتخاذ إجراءات مضادة للفساد منها : إعادة هيكلة الانظمة وتقييد التنظيمات واللوائح القانونية – الإدارية بالتوازي مع بناء جهاز أعلى "مجلس" للمراقبة يستقطب جملة من الكفاءات المهنية التي توفر نصائح ومشاورات هدفها تحسين الاداء والذهاب بإتجاه القضاء على الفساد بكل صوره ، مستوياته وانواعه.  لعل من المناسب الإشارة إلى أن منظمة الشفافية الدولية قد حددت خمس مجالات رئيسة لمكافحة الفساد : "القيادة والبرامج العامة وإعادة التنظيم الحكومي والوعي العام ، وإنشاء مؤسسات لمكافحة الفساد ". من منظور العراق فإن مجهودات الحكومة العراقية الحالية لمكافحة الفساد أخذت مايقارب نسبة نصف مساحة العمل الحكومي ما دفع حكومة عبد المهدي لتأسيس مجلس أعلى لمكافحة الفساد يتمتع بسلطات تنفيذية نافذة مستقلة لمحاربة الفساد (الجانب المخفي أو المعلن من عملة الارهاب) مع وضع كل التفصيلات الممكنة والفاعلة لتنفيذ الاجراءات الحكومية. إن مايواجهه رئيس الوزراء العراقي محاربة فساد مركب سياسي اقتصادي وأمني (جزء منه يرجع إلى مصالح مليشيات مسلحة غير منضوية بعد تحت لواء المؤسسة الأمنية المهنية الرسمية). الأمل كل الأمل أن تتخذ الاجهزة الرقابية – القضائية والتنفيذية إجراءات رادعة للقضاء على الفساد بدءاً من القمة في الهرم الحكومي والتشريعي والقضائي إلى المستويات الأدنى من التنظيمات دون الدولة كي يكون كل من يرتكب الفساد محاسب وعبرة لمن اعتبر دون ذلك لن نصل لما حققته مثلا اندونيسيا وماليزيا من مستوى حيوي في مكافحة الفساد الذي اعتبرته سلطات تلك الدول بمثابة المعادل الموضوعي لاستبداد السلطات واستخدامها آليات القمع الذي  يهدف لقتل البلاد والعباد ما يستوجب المحاسبة المشددة من خلال تنفيذ التشريعات والتزام الاحكام القضائية التي تلتزم الحيدة والاستقلالية بعيدا عن التدخلات والضغوط السياسية الداخلية والخارجية. عمل وجهد وطني خالص يوفر فضاءات من الاستقرار والامن والامان أضافة إلى الازدهار والرفاه الاجتماعي والتنمية الانسانية المستدامة دون تمييز او تمايز لكل من يقطن "ارض السواد" . إن الانتهاء من معركة القضاء على داعش لابد ان تقابلها ارادة سياسية قوية للقضاء على كل صنوف وصور ومظاهر الفساد المستشري من خلال إتباع حكم رشيد ومعالجات موضوعية تتسم بالحزم والحكمة والموضوعية لأن القضاء على الفساد ليست مسألة مادية فحسب بل معنوية – ذهنية وفكرية شاملة وهذا ما هو أخطر في التداعيات المتوقعة.  

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top