أبعد من قصته في فيلم  روكيت مان ..  أي ملامح بغدادية للمغني ألتون جون؟

أبعد من قصته في فيلم روكيت مان .. أي ملامح بغدادية للمغني ألتون جون؟

علي عبد الأمير عجام

بعد النجاح الذي حققه العام الماضي فيلم "بوهيميان رابسودي" والذي وثّق بلغة جمالية عالية مراحل من السيرة الموسيقية والحياتية لمغني فريق "كوين" البريطاني فريدي ميركوري، وانتجه ديكستر فليتشر، يعود الأخير مخرجاً لفيلم "روكيت مان" أو (الرجل الصاروخ) الذي بدأ عرضه الأسبوع الماضي في الولايات المتحدة والعالم (عرض الشهر الماضي في مهرجان كان السينمائي).

هو فيلم موسيقي يستند إلى حياة المغني والملحن البريطاني الأسطوري ألتون جون كتبه لي هال، ويقوم ببطولة الممثل والمغني تارون إغيرتون (ألتون جون)، ويتتبع أيام صاحب الأغنية التي صارت عنواناً للفيلم، منذ بواكير حياته كمعجزة في العزف على البيانو بالأكاديمية الملكية للموسيقى ثم الفصل الأكثر أهمية، وتمثله شراكته مع الشاعر بيرني توبين الذي كتب له أجمل النصوص الغنائية، بل هو صديقه الذي انقذه من بئر المخدرات والأزمات الروحية القاتلة (أب متغطرس حانق وأم لاهية وميول جنسية مثلية) واعاده الى الضوء بأغنية "ها انا اقف من جديد" 1981 التي ينتهي معها الفيلم.

يقول الشاعر الغنائي توبن الذي كتب كلمات الأغنيات التي ميزت العصر الذهبي لألتون جون ومنها الرقيقة "أغنيتكِ" رداً على سؤال "كيف ظلت علاقتهما سليمة على مر السنين": "أود القول أنني كنت دائماً مرساة له... لم أكن قديساً على مر السنين، لكن بالمقارنة مع تجاوزاته، أفترض أنني كنت هادئاً إلى حد ما".

فيلما "روكيت مان" و"بوهيميان رابسودي" لهما أكثر من وجه تشابه، فكلاهما من إنتاجات استوديوهات هوليوود ذات الميزانية المتوسطة التي تسعى إلى إضفاء الطابع الدرامي على حياة نجوم موسيقى الروك البريطانيين. يعرض كلا الفيلمين الموضوعات على الطريق المؤدي إلى النجومية في السبعينيات، حيث يناضل كل منهما بحياته الجنسية وإدمانه على المخدرات والكحول. يتم رواية كلا الفيلمين من خلال الأغاني الشهيرة للمغنيين ميركوري وجون، ويشترك ديكستر فليتشر في كليهما: منتجا ومخرجاً منفذاً للأول ومخرجاً للثاني.

وحسناً فعل المخرج فليتشر حين اختار لحظة مفصلية في حياة ألتون جون ليبدأ منه سرد حكاية الفيلم، لحظة هروب المغني من حفلته في "ماديسون سكوير غاردن" بنيويورك وتوجهه إلى مصحة للاستشفاء من الإدمان، وهناك يبدأ في سرد معاناته العميقة رغم شهرته الصاروخية. هنا يوضح المخرج "الفيلم ليس سيرة ذاتية، إنه موسيقى وذكريات جون، وهذا يعني إنني قد تحررت من عبء ملاحقة التسلسل الزمني لسيرته".

المهرج الحالم

حين تذكر الأغنية الانجليزية يبدو من الصعب تجاهل أسماءٍ شكلت رسوخاً في أحداث تلك الأغنية وتطورها. ومن هذه الاسماء المغني ( ألتون جون ) الذي عرف بغرابة مظهره في أداء الأغنيات ( قبعات غريبة، ألوان وأشكال من النظارات وملابس لا تقل غرابة عن ثياب مهرج) وهو ما كان فيلم "روكيت مان" أميناً على إظهاره بل جعله النبض الحيوي لعروضه الغنائية.

في الألحان كانت صورة جون أقل من مظهره في الغرابة، فهي متقنة وكلاسيكية أحياناً في شكلها وبنائها، وتظل أكثر لمسات المغني براعة في أغنياته هي مرافقة لآلة البيانو وعزفه المتقن عليها. وشهدت أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات للمغني تحقيق نجاحاته المتتالية وكان ذلك بفضل من تعاونه مع كاتب الاغنيات بيرني توبين، فلهما الأغنيات الجميلة: "أغنيتك" التي سبق ذكرها وتعتبر واحدة من أنجح أغنيات جون، كذلك أغنية "لا تطلق النار علي، انني مجرد عازف بيانو"، وهناك الأغنية "شمعة في الريح" عام 1974 وأهداها لذكرى النجمة مارلين مونرو وغناها عام 1997 في حفل تابين الأميرة ديانا ضمن مقاربة للجمال القتيل. 

لقد شكّل ألتون جون عبر هذه الاغنيات وغيرها ظاهرة متفردة في الموسيقى الانجليزية المعاصرة، غير انه وفي أواخر السبعينيات بدأ العد التنازلي لشهرته، وحين نسأل عن السبب لن نجد غير انفصاله عن زميله الشاعر بيرني توبين، وكمحاولة للتعويض عن هذا التردي في شهرته حاول في رحلته إلى موسكو عام 1979 ان يبدو كأول من يبشر بـ "موسيقى البوب" في بلد كان يعتبر تلك الألحان ظاهرة غربية ينبغي محاربتها.

في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كان هناك شبان يسهرون على حافة ساقية قرب الحقول الزراعية التي كانت تفصل بين مدينتي البياع والسيدية ببغداد، وحكى أحدهم الذي كان مولعاً بالغناء الغربي حكاية حلمه الخاص بالرحيل إلى لندن والوصول إلى المغني ألتون جون، والوقوف قريباً إليه وهو يعزف على البيانو. 

بعد أيام من صدور لحن جون المؤثر "لا أحد يربح" الذي قدمه في خريف عام 1981 والذي لم يحظ للأسف بنجاح جماهيري متوقع، كان "راديو بغداد أف أم" قد مضى شوطأً في نقل الغناء الغربي الجميل إلى الفضاء المحلي العراقي، وبث الأغنية وغيرها من الاغنيات الجديدة، ليستمع البغدايون حينها لأغنيات من جون مثل "ها أنا أقف من جديد" و"الأغنيات الحزينة" فضلاً عن الترنيمة التي حققت من النجاح الكثير للمغني وهي "نيكيتا".

لاحقاً كان بغداديون من محبي النغم الغربي الرفيع على موعد من حدث جميل، حملته أسطوانة مزدوجة لحفل غنائي ضخم وبمعاونة فنية كبيرة من فرقة (ملبورن) السيمفونية الأسترالية. استطاعت الاوركسترا بضخامة توزيعها الآلي للالحان أن توفر للمغني عاملاً مهماً في اجتياز الضعف الظاهر في صوته (بعد اجرائه عملية جراحية في حنجرته)، لا بل تفوق المغني في إعادة تقديم ألحانه مستفيداً من ذلك الجو الموسيقي الأخاذ، حتى أن الاسطوانة المزدوجة التي سجلت عليها أغنيات الحفلة وبثها على مدى شهور، راديو "بغداد أف أم" نجحت في أرقام مبيعاتها، وقفزت أغنيتان منها الى قائمة الأغنيات المفضلة لشتاء 1988 ولكن للأسف لم تكن بينهما الأغنية الرقيقة "آسف ... تبدو كأصعب كلمة". 

ومع هذه الأسطوانة لألتون جون وللتمتع بموسيقاها المدهشة، كان يجتمع شبان في بيت كاتب السطور ببغداد: هذا يفضلّ أغنية "الملكة يجب أن تموت"، وآخر يريد الاستماع إلى "هذه الليلة" وثالث يفضل "آسف.. تبدو كأصعب كلمة" ولكنهم جميعاً بقصد أو بدونه، وبفضل من الأثر الحميم لـ "بغداد أف أم"، كانوا من بين من أعطى المغني الذي يحتفي به فيلم "روكيت مان" ملامح بغدادية لا تمحى.

بعد اسطوانته تلك المدوية النجاح، جمع ألتون جون كل علامات مظهره الغريب من قفازات، قبعات ونظارات وقال لها وداعاً حين أودعها أحد محال المزاد، وطبعاً كانت هناك أموال كثيرة دفعت لأشياء رافقت المغني في سيرته الفنية وصارت علامة مميزة لها، وكان هناك من يتدافع لاقتنائها، والمبالغ المستحصلة راحت للأعمال الخيرية التي نذر المغني نفسه لها، ووصلت مؤخراً نحو 450 مليون دولار تبرع بها خلال السنوات الثلاثين الماضية.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top