أيام قرطاج السينمائية، كنتُ أتمنى أن تطول شهوراً

أيام قرطاج السينمائية، كنتُ أتمنى أن تطول شهوراً

صلاح سرميني

يبدو لي، بأنّ هذه الشهادة هي بمثابة امتحان للذاكرة، وفي الوقت الذي لا أمتلك أرشيفاً ورقياً يُسعفني، أجد بأنه لا مفرّ من التقاط بعض اللحظات المفصلية في علاقتي مع دقائق، وساعات، و"أيام" قرطاج السينمائية، والمدينة التي تحتضنها.

قبل أن أذهب إلى تونس للمرة الأولى، كنت أنتظر فرصة المُشاركة بفيلمٍ من إخراجي، وعندما تعثر مشروعي لألف سببٍ، وليلة، تصالحتُ مع نفسي، وارتضيتُ بأن أتوقف تماماً عند محطتي المهنية الأولى، النقد السينمائي.

كانت المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى تونس عندما تواصلت مع صديق الدراسة "فتحي الخراط"، وطلبت منه دعوةً لحضور إحدى دورات المهرجان، يومها، قال لي: 

ـ أنت مخرجٌ يا صلاح، وليس لديك فيلم في المهرجان.

قلت له: 

ـ وهل نسيتَ بأنني ناقدٌ سينمائيّ أكتب في الصحيفة الفلانية، والمجلة العلانية، ...

منذ تلك المكالمة الهاتفية، بدأت علاقتي بأيام قرطاج السينمائية، تعلقت بتونس إلى حدّ الشغف، حتى أنني فكرت بترك باريس، والعيش فيها.

خلال متابعتي لعددٍ من الدورات، لم يكن يهمّني مشاهدة الأفلام كثيراً، لأنها كانت، ومازالت متوفرة بغزارةٍ في باريس، بقدر اهتمامي بأجواء سينمائية، وإنسانية لم أجدها في أيّ مهرجان آخر، الحميمية في كلّ معانيها.

في كلّ دورة، كنت أدخل تونس، وأخرج منها شخصاً آخر مختلفاً، أكثر عاطفية، عقلانية نضجاً، وحباً للحياة، والسينما.

كانت "الأيام" موعداً مقدساً بالنسبة لي حتى عام 2011، .... منذ ذلك التاريخ المفصليّ، ومن المُفترض بأن يجسد تحولاتٍ إيجابية، بدأت أفقد حماس متابعة أيّ مهرجان في المنطقة العربية (ماعدا تلك التي أعمل لصالحها).

خلال متابعتي لعددٍ من دورات "الأيام"، شاهدت ما تيّسر لي من الأفلام، ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم، تتداخل في ذاكرتي آلاف الأفلام الطويلة، والقصيرة، ولم تعدّ ذاكرتي قادرةً على تحديد أين شاهدت هذا الفيلم، ومتى ؟.

كانت "الأيام" مع مهرجاناتٍ أخرى متخصصة بالسينما العربية، فرصة لمشاهدة الأفلام العربية، والأفريقية التي يندر عرضها في صالات السينما الفرنسية.

الآن تذكرتُ بأننا، ومنذ سنواتٍ طويلة، لم نعد نشاهد في الصالات الفرنسية التجارية الأفلام الأفريقية كما كان الحال في الثمانينيّات، والتسعينيّات، بينما تزايدت أعداد المهرجانات المُتخصصة بالسينمات الأفريقية، والعربية، وكلّ سينمات العالم.

هل فيلم "عرق البلح" للراحل "رضوان الكاشف" (هو الفيلم الذي اكتشفته، وفي أيّ دورة، وترك لديّ الأثر الكبير، ولماذا؟)، لا أعرف، وسوف أقبل برضى اتهامي بضعف الذاكرة، أنا الذي أنسى ما شاهدته البارحة. 

وهنا ألوم نفسي، لأنني لم أحتفظ بكتالوغات "الأيام" خلال السنوات الماضية كما يفعل أيّ ناقد سينمائيّ، ضياع مكتبتي الورقية في حلب، والقاهرة، وتنقلاتٍ سكنية كثيرة من مكانٍ إلى آخر في باريس، جعلني لا أحتفظ بأيّ كتاب، أو مجلة، أو فيلم، أقرأ، وأشاهد، وأمنح ما لديّ للآخرين كي يستفيدوا بدورهم. 

وإذا كان من الضروري الإشارة إلى فيلم ما شاهدته في إحدى الدورات، فلابدّ من الإشارة إلى "راقصة في الظلام" للمخرج الدانماركي "لارس فون ترير".

في الحقيقة لم أكتشف هذا الفيلم، فقد شاهدته مُسبقاً في مهرجان كان، أتذكره فقط لأن مشاهدتي له في تونس تسترجع موقفاً جميلاً، عندما انتهى عرضه، وكان الصمت يسود الصالة، وكأننا في عزاء شخصاً عزيزاً فقدناه، نهضتُ من مقعدي متوجهاً نحو باب الخروج، وبالقرب منه لمحتُ الفنانة التونسية العظيمة "هند صبري" تمسح دموعها متأثرةً بالفيلم، كان ذلك المشهد سينمائياً بامتياز، كما الحال عندما نتحدث عن الفيلم داخل الفيلم، أو السينما داخل السينما.

اليوم، وكلّ يوم، أفكر بقدرة السينما على التأثير في المتفرج حتى المحترف الذي يعرف جيداً بأن ما يشاهده على الشاشة ليس أكثر من فيلم، وعلى الرغم من معرفتنا بأن السينما هي فنّ خلق وهم الحركة، ومع ذلك، في كلّ مرة/مشاهدة نقع في شراكها، وكأنّ السينما حقيقة.

وفي الوقت الذي أعلن فشلي في تحديد فيلم (اكتشفته، وتأثرتُ به..)، وأنا في كلّ يوم أكتشف فيلماً، ما زلت أتذكر مشاهد حيّة طريفة عايشتها في كلّ الدورات التي حضرتها، تتجسّد في المحاولات التي كنت أبذلها لمشاهدة فيلم ما في إحدى الصالات، ولأنني لم أحبّ يوماً الزحام، والانتظار من أجل مشاهدة فيلم(أيّ فيلم)، كنت أترك طوابير المنتظرين مبتهجاً بهذا الإقبال، وأقنع نفسي بأن المهرجان لم يوجد من أجلي، ولكن من أجل الجمهور التونسي، وفي معظم الأحيان، كنت أدخل الصالة، وأحظى بمقعد، وبعد دقائق أتخلى عنه لمتفرج تونسي.

ومن بين الذكريات اللطيفة أيضاً، في بعض الدورات كان الكتالوغ يتأخر وصوله من المطبعة، وفي مهرجان آخر يمكن اعتبار هذا التأخير "كارثة"، ولكنني لم أكن أبالي، وكنت أقول لنفسي، وللآخرين أيضاً، المهمّ أننا في تونس.

كنت متسامحاً إلى أبعد حدّ مع المهرجان، وفوضاه الجميلة، وعندما كان يفوتني مشاهدة فيلماً بسبب الزحام، أو أتعمّد أن يفوتني، كنت أنسحب من أمام الصالة للمشاركة في مهرجان إنسانيّ موازٍ ينتظم تلقائياً في شارع "الحبيب بورقيبة".

من بين مميزات أيام قرطاج السينمائية، فعالياته التي تتجمّع في وسط المدينة، حيث الفنادق، المطاعم، المقاهي، والصالات،...

لا أعرف مدى نجاحي في استرجاع بعض الذكريات عن تلك "الأيام" الأسطورية، والتي كنت دائماً أتمنى أن تطول شهوراً.

كلّ الشكر، والمحبة، والاحترام، والتقدير لمن شيّد، وطوّر، وحافظ على هذا الصرح السينمائي الكبير.

وذكرى وفاء، وعرفان بالجميل للراحل "المُنصف بن عامر".

هامش: كتبتُ هذه الشهادة الشخصية بناءً على طلبٍ من الناقد التونسيّ "خميس خياطي" بتاريخ 18/07/2016، ومن المُفترض أن تُنشر في كتابٍ تذكاريّ صدر بمناسبة الذكرى الـ 50 لأيام قرطاج السينمائية، يجمع شهادات نقاد من كلّ أنحاء العالم حضر كلّ واحدٍ منهم مرةَ على الأقل دورة من الدورات السابقة للمهرجان.

وكان الطلب بأن أتحدث عما احتفظتُ به من ذكرياتٍ، وما هي أفضل الأفلام (في جميع الأقسام) التي اكتشفتها خلال المهرجان (وما هي الدورات؟).

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top