د. حسين الهنداوي
أدلجة أفكار العراقي الأصل رشيد رضا
الإطار العام للمنهج الذي اعتمده المفكر الإسلامي الإخواني الكبير، سيد قطب، لتفسير النص القرآني، في كتابه (في ظلال القرآن)، هو ـ ظاهرياً ـ المنهج نفسه الذي اعتمده الأستاذ الروحي لمؤسس جماعة الإخوان،
حسن البنا، وهو المفكر الإسلامي رشيد رضا (1865 ـ 1935)، والذي قدّمه في عدد من مؤلفاته، ولا سيما (تفسير المنار)، الذي حاول فيه استكمال تفسير معاصر للقرآن، بدأه شيخه محمد عبده، غير أن موقع كل من سيد قطب ورشيد رضا يختلف جذرياً، فبينما كان العراقي الأصل، اللبناني المولد، المصري المقام، رشيد رضا، تلميذاً للمصلح الديني والاجتماعي والسياسي، محمد عبده، وداعية للنهضة العلمية والتربوية وللتمسك بالدين، ولاسيما عبر مجلة (المنار) الشهيرة، التي أسسها عام 1898، على نمط مجلة (العروة الوثقى)، التي أسسها محمد عبده قبله، كان سيد قطب ينطلق في المسائل كافة من وجهة نظر شخصية، متشبعة بأجواء الفكر السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ما بعد انقلاب يوليو 1952 في مصر، وهو فكر عملي، كفاحي، مستحدث، يتطلع إلى تحقيق مشروع سياسي، يعيد تنظيم الحياة الدنيوية الراهنة للإسلام والمسلمين. وكان سيد قطب منغمساً في فكر الأخوان كلياً، بل كان المنظر الأبرز له بعد حسن البنا، وأكثر نفوذاً من الأخير.
ومع ذلك، يمكن أن تكون مدرسة الإخوان امتدادا لمدرسة (المنار)، نظرا إلى أن الكثير من مثقفي الأخوان يعدونها المهادَ الأوحد للصحوة الإسلامية في العصر الحديث. صحيح إن رشيد رضا لم تعرف له علاقة تنظيمية ما مع جماعة الإخوان، المؤسّسة قبيل وفاته ببضع سنوات، إلا إن تحوله من الاعتدال إلى السلفية، في مطلع القرن الماضي، ودفاعه عن أفكار ابن تيمية والحركة الوهابية، تسمح بالقول إن العلاقة الفكرية بين رشيد رضا وجماعة الإخوان ليست مستغربة على أكثر من صعيد، فعلى صعيد الموقف الرافض للاستشراق الغربي يتشابه الطرفان، إلى حد ما، غير أن سيد قطب أكثر حدة، فهو يعد الاستشراق "مؤامرة يهودية ومسيحية" قديمة تعود أصولها إلى الفترة النبوية، فضلاً عن كونها استمرارا للحملات الصليبية على الإسلام، ولا تهدف إلا إلى تجريد القرآن من بعده الإلهي ومعاملته بوصفه مؤلفاً دنيوياً. وتزداد هذه الحدة عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الإسلاميين المتساهلين مع الاستشراق والمتواطئين معه. وحتى محمد عبده ورشيد رضا، و(تفسير المنار) إجمالاً، لا ينجو من ذلك، برأي قطب، فهو يأخذ على مدرسة محمد عبده ورضا ليبراليتها، أي عقلانيتها المتشددة في موضوع النص القرآني، على الرغم من أننا نعرف إن عقلانية محمد عبده هي عقلانية محدودة جداً، تقوم أساساً على وضع العقل في خدمة النقل، وليس العكس أبداً. ونلاحظ، أيضاً، إن احترام قطب لمحمد عبده غائب كلياً، تقريبا، كما أن قطب لا يتردد في أن يرفض، صراحة، فكرةَ الإقرار بوجود ثنائي للحقيقة، أي حقيقة العقل والعلوم من جهة، وحقيقة الوحي من جهة أخرى، الأمر الذي يجعله يتجنب محمد عبده ورشيد رضا إلى أبعد الحدود الممكنة. وفي الأقل، نجده في (في ظلال القرآن) شديد التحفظ بشأن مسألة التوافق بين القرآن والعلوم الحديثة، فهو يتجنب هذا التوافق عموماً، ويميل، دائماً، إلى تغليب التصديق الإيماني، من دون الحاجة إلى الفهم أحياناً، الأمر الذي لا يقبل به محمد عبده، إلا في أحوال نادرة جداً، على نحو ما لاحظ، محقّاً، المستشرق الفرنسي، أوليفيه كارا.
وعلى العكس من محمد عبده ورشيد رضا، يلح قطب على الجانب غير النظري، بل الفعلي الملموس في النص القرآني، إلى درجة يمكن القول معها إنه إذا كان عبده ورضا يؤكدان على ميزة الطبيعية والبساطة والعقلانية للإسلام، فإن قطب يذهب إلى إبراز المضامين التي يتفرد بها الإسلام، أي تلك الخاصة به، ومن بينها المضامين الصعبة القبول، من قبيل المعجزات، وخصوصا الإعجاز القرآني نفسه، والجهاد، والفتوحات الهجومية، وفوقها جميعاًن قضية وحي الله إلى الأنبياء، الذي لا يمكن تفسيره مطلقا بأدوات العقل، وأيضا، وعلى الضد من عبده ورضا، يرفض قطب أن يقدم أدنى شرح ممكن طبيعة العلم النبوي، ويعلن أنه لا ينبغي البحث عن كيفية حصول ذلك، في الوقت الذي يقر فيه بعبقرية نبي الإسلام.
مقابل هذا، يتفق الطرفان، قطب وصاحب (تفسير المنار)، في اتخاذ موقف الحذر من الاتجاهات التي تبالغ في تأويل النص القرآني وتحميله أكثر مما يحتمل، على الرغم من أنهما يسقطان معا في الخطأ نفسه، أي الاعتماد على بعض المدونات الأخرى غير القرآن، والأحاديث النبوية. لكن قطب يتميز في رفضه النظر إلى القرآن بوصفه مجرد مدونة أو وثيقة بين غيرها. من هنا، يقدم (في ظلال القرآن) نفسه، أكثر من المنار، بوصفه منظوراً كاملاً وتمامياً قبلياً، بالمعنى المناقض للتحديث. ومن ثم، تحظى كل محاولة تحديثية لـ (الإسلام)، من قبيل محاولة محمد أركون مثلا، بغضب مقدس، أي ذلك الغضب الذي يستحقه المسلمون المرتدون، الذين يزعمون أنهم مؤمنون وعلماء، وما هم، في الحقيقة، سوى من أرباب الجاهلية، الذين أشار لهم القرآن عبر حديثه عن أهل الكتاب. وهذا الموقف القطبي يشمل التأريخ، أيضاً، بالمفهوم الحديث، باستثناء أن قطب، الأكثر ثقافة في هذا المجال، لا يصرح بذلك، بل يلجأ على التركيز على الجوانب غير التأريخية في القرآن.
ونحن نلاحظ أن (تفسير المنار) و(في ظلال القرآن) يعودان ويعتمدان، جوهرياً، على المفسرين الإسلاميين الأقل عقائدية وتعقيداً. لكن، وبينما يشن (المنار) حملة ضد التقليد الأعمى لهؤلاء، يشن (في ظلال القرآن) حملة على التقليد الأعمى للغرب والمفكرين الغربيين، أي إن مفردة (التقليد الأعمى) لا تتوجه لديهما إلى الهدف نفسه. وفي الحقيقة، إن مفردة (التقليد)، في لغة الإخوان المسلمين منذ البنا، موجهة بشكل دقيق هنا، أي إن حملتهم موجهة، أساساً، وبشكل شبه قاطع، ضد هؤلاء المقلدين المتأثرين بالعقلانية الغربية، وليس ضد التقليد بمعنى العودة إلى الأصول.
وفضلاً عن ذلك، تتجاوز العودة إلى الأصول، التي يدعو لها قطب، مجرد العودة إلى الينابيع التفسيرية الإسلامية الأولى، إنما العودة إلى القرآن نفسه، والانطلاق منه إلى تلمس التجربة الفعلية والإعجازية للرسالة القرآنية، لكن نقطة الانطلاق هذه ليست موجودة في الماضي، إنما في اللحظة الراهنة، وهذا ما يجعلنا نقول إن (في ظلال القرآن) ليس محاولة معاصرة لتفسير القرآن بأدوات تقليدية، إنما هو دعوة إخوانية لانطلاقة جديدة في فهم القرآن.
وعلى العموم، إن تمكن جماعة الإخوان من أدلجة أفكار رشيد رضا وتوظيفها لحساب أهدافهم عائد إلى إمكان المقارنة بين كتاب (في ظلال القرآن) و(تفسير المنار)، النابعة ـ في الواقع ـ من وجود خط مشترك بين الاثنين وعلاقة استمرارية بينهما، فالمعروف، تأريخياً، أن حسن البنا كان على اتصالات مباشرة مع رشيد رضا، منذ عام 1924، ومع مجلته (المنار)، وبعد موت رشيد رضا، عام 1935، انتقلت (المنار) لتصبح تحت الإشراف المباشر والرسمي للإخوان، فكان اسمهم يظهر على المجلة، منذ ذلك العام إلى عام 1941، أي حتى حظر صدور المجلة. والأهم من ذلك هو أن تفسير رشيد رضا يتوقف عند السورة الثانية عشرة من القرآن، بسبب موته، ولم يقم البنا وجماعته باستكمال ذلك التفسير، إنما كان ينبغي أن يجيء سيد قطب ليواصل ذلك. لكن سيد قطب لم يقم بالسير على طريق رضا، إنما ذهب إلى تحقيق هدف آخر، وهو وضع تفسير للقرآن خاص بحركة الإخوان المسلمين.
اترك تعليقك