د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
يذكر المعمار الايطالي ما بعد الحداثي "رينزو بيانو" (1937) Renzo Piano،
مصمم "مبنى برلمان مالطا" (2009 -2015) في العاصمة فاليتا، إنه "مغرم في إيجاد فكرة توحّد الماضي مع المستقبل، وتنسج التاريخ مع الحداثة. وفي موقع كموقع "فاليتا"، الحافل بنماذج آثار المدينة القديمة والحافظ بحرص لأطلالها، يغدو منح تلك الأطلال وظيفة جديدة وجعلها تعمل كمفردات للحياة المعاصرة، هو بمثابة نوع من إضفاء شعور الاعتزاز والفخر بنماذج تلك الأطلال". قد يبدو هذا الحديث الداعي لاحترام "التاريخ " والاهتمام في شأن "تراث" المكان، مقبولاً ومفهوماً من معمار آخر غير "رينزو بيانو". لكن أن يصدر من معمار، استطاع وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، مع رفيقه المعمار الآخر <وهو ريجارد روجرز (1933) R. Rogers>، أن يغيرّ (أن يغيرّا) مسار العمارة في اتجاه آفاق معرفية وتصميمية غير معروفة، وغير مسبوقة (نحو ما سيعرف لاحقاً بـطراز "الهاي تيك" High – Tec، "طراز التكنولوجيا الفائقة"، المتمثل في مشروعهما المشترك: "مركز بومبيدو" الباريسي <1971 -1977>)؛ فإن الأمر يبدو هنا مختلفاً ومفاجئاً! إذ من تلك <اللحظة> التي ظهر بها للعيان "مركز بومبيدو" في المشهد المعماري، إبان المعماريان للملأ بأن حدثاً تصميمياً لا يضارع، ولانظير له، قد وجد! ممهدّين الطريق لإرهاصات آخرى في مسار ومقاربات ما سيدعى لاحقاً "عمارة ما بعد الحداثة"!. لكن الأمر على ما يبدو قد اختلف بعد مرور كل تلك السنين، أو بالأحرى بعد مرور ثلاثة عقود من زمن ما بعد الحداثة وتطبيقاتها المهنية اللافتة والفريدة.
يذهب "رينزو بيانو" في تعاطيه مع إشكالية "فهم" العمارة مذهباً مهنياً مميزاً، عبر تبنيه مقاربة معرفية ظل يستنير بها في خلق ذائقة خاصة به، يمكن بها إدراك كنه تلك الفعالية الإبداعية التي تدعى "عمارة"! فهو يرى، بأن العمارة ما هي إلا ظاهرة شبيه لكتلة "جبل الجليد" العائمة <الآيسبيرغ> Iceberg، لا يٌرى منها إلا الجزء القليل، في حين يبقى قسمها الأكبر غاطساً في أعماق المياه. وهذا القسم المخفي يتضمن ثلاثة عناصر، هي: المجتمع، والعلم، والفن. ويعتقد "بيانو" بان هذه التركيبة شكّلت بتأثيراتها الجانب الأهم في عمله المهني. فالعمارة هي المجتمع، ذلك لأنها (أي العمارة)، لا يمكن لها أن تتواجد في المشهد من دون الناس ومن دون طموحاتهم. كما إن العمارة هي –علم، أيضاً: فالمعمار يتعين أن يكون باحثاً ومستطلعاً، يمتلك حب الاستقصاء، والشجاعة، مثلما يحتفظ بتوق نحو المجازفة. وأخيراً فإن العمارة هي – فن: عندما تثير لدى الإنسان أحاسيس معينة، وهي تقوم بذلك من خلال "لغتها" الخاصة و"مفرداتها" المتشكلة من الأحياز، والمنظومة التناسبية، وحضور اللون، والمواد، التي منها (من هذه المفردات) تتشكّل تلك اللغة؛ وتتبلور تلك العمارة!
بمثل هذه القيم والرؤى سعى "رينزو بيانو" وفريقه التصميمي وراء إيجاد حلول مقنعة ورائدة لتصاميم مشروع "بوابة المدينة" City Gate، المكلف به من قبل الحكومة المالطية سنة 2009، وهو المشروع الواقع في أقصى الطرف الغربي الجنوبي لمدينة فاليتا. وتضمن المشروع إعداد أربعة تصاميم لأقسامه الأربعة، وهي: إعادة تعمير بوابة مدينة فاليتا، ثم إعادة تنظيم وترتيب وتصميم مسرح مفتوح ضمن أنقاض دار الاوبرا الملكية السابقة (التي دمرت أثناء الحرب العالمية الثانية)، وتصميم وتشييد مبنى البرلمان الجديد، وأخيراً إعداد تصاميم لمجمل الفضاءات الخارجية Landscape في خندق المدينة. وكان بودنا تناول جميع مفردات المشروع الأربع التي قام بإعدادها مكتب "رينزو بيانو"، نظراً لترابطها الواحد مع الآخر، لكننا، وبحكم المجال المحدد عادة لحلقات "عمارات"، سنكتفي بالحديث عن عمارة مبنى "برلمان مالطا" الجديد، وهو الحدث الأبرز في المشروع والأهم معمارياً، إن كان لجهة لغة التصميم أم لناحية نوعية المقاربة.
يقع مبنى البرلمان مباشرة بعد أن يجتاز زائر مدينة فاليتا، الجسر/ البوابة، حيث يُرى بكتلتيه الاثنتين. إنهما يطلان على الميدان الجديد الذي كان في السابق موقفاً للسيارات. خصصت الكتلة الواقعة في الشمال من الموقع الى قاعة البرلمان وملحقاتها، في حين شغلت الكتلة الواقعة الى الجنوب منها بمكاتب خاصة الى رئيس الوزراء والوزراء وكذلك الى زعيم المعارضة ومكاتب اللجان البرلمانية والنواب.
قدرت المساحة الكلية لمبنى البرلمان بحوالي 7000 متر مربع، موزعة على أربعة طوابق فوق الأرض وطابق تحتها "سرداب". بلغ الارتفاع الاجمالي للمبنى نحو 20 متراً عن مستوى سطح الأرض. تم ربط الكتلتين بواسطة جسرين/ ممرّين مكشوفين عند مستوى الطابق الأول والثالث. جدير بالذكر إن هيئة الكتلتين جاءت على شكل "فورم" هندسي مميز، أقرب الى شكل شبه المنحرف. وإذ تم توقيعهما بالموقع بشكل خاص، نجم عنه ظهور "ساحة داخلية"، حُفر جزء منها لعمل فناء مفتوح ومزروع، تطل عليه فضاءات طابق السرداب. في حين استخدم الجزء الأعلى المتبقي من تلك الساحة كـ "بهو" خارجي أمام أبواب المبنى.
تم اختيار المنظومة الهيكلية التركيبية للحل الإنشائي، المتكونة من أعمدة فولاذية وجسور معدنية رابطة. ذلك لأن الاعتماد على منظومة الجدران الحاملة، سيكون أمراً محفوفاً بالمخاطر نظراً لظروف المنطقة الجيولوجية المتّسمة بتكرار الهزات الأرضية. سعى المعمار وراء أن تكون المادة الانشائية المستخدمة في تنفيذ مبنى البرلمان هي حجر الكلس ذي اللون المرجاني الضارب للحمرة، والمستخرج محلياً في جزيرة "غوزو" المجاورة. وقد تم ربط صفوف تلك الاحجار بهيكل حديدي خاص، ثُبـّت هو الآخر بهيكل المنظومة الانشائية الأساسية. كما اعتمدت الفكرة الجمالية لواجهات المبنى، اعتماداً أساسياً على خصائص هذه المادة ومنظومة توزيعها وصيغ قطعها التي تمت باستخدام الحاسب الآلي. وقد استفاد المعمار من وجود تلك الأحجار المغطية لسطوح واجهاته، في منح مبناه انتماءً مكانياً، بحكم الاستخدام المماثل والشائع لتلك الأحجار في غالبية تركيبة جدران المباني المحيطة، وفي الأخص في منشآت الخندق العديدة المحاذية لمبنى البرلمان.
وبغية إيجاد معادل جمالي لأسلوب توزيع أحياز المبنى، الذي انطوى حلوله على نَفَس وظيفي/ نفعي عال، فإن المعمار اجتهد اجتهاداً واضحاً في "رسم" واجهاته بعناصر تصميمية مبتكرة، أوحت أشكالها الى ما يشبه "مناقير حجرية"، مُضفية قيمة جمالية لافتة الى تلك الواجهات، ومكرسة شعور الانتماء المكاني للمبنى ككل. وعند هذه النقطة، نقطة أشكال العناصر التصميمية اللافتة، أود أن أتوقف ملياً.
تختلف عمارة مبنى البرلمان عن سياق البيئة المبنية المحيطة. وهذا أمر طبيعي ومتوقع، ذلك لأن المعمار المصمم له باع طويل في الممارسة المهنية، وتحديداً في مقاربتها مابعد الحداثية. لكن هذه "الغربة" التصميمية في برلمان فاليتا، لم تكن غربة "مكان"، مثلما لم تكن غربة "عدائية" لشواهد البيئة المجاورة. ومثل هذا الأحساس يمكن للمرء أن يشعر به، ويحس بحضوره عندما يشاهد عمارة مبنى البرلمان للمرة الاولى. (هذا في الاقل، ما شعرت به، شخصياً، واحسست بوجوده، عندما وقفت امام المبنى أول مرة)، رغم اللغة المعمارية المتفردة والحداثية (ما بعد الحداثية تحديداً)، التى صاغها المعمار المثابر والمجد! وازعم بان احد بواعث ذلك الاحساس، يرجع الى نوعية المادة المستخدمة (حجر الكلس المرجاني)، كما اشرنا. لكن اسلوب "رسم" الواجهات، أو بالاحرى "فكرتها" المبتكرة والمتأنقة، وغير العادية، قد تكون لها الفضل الأكبر في ترسيخ الإحساس بعدم غربة المبنى تصميماً، ومن ثم تكريس حالة الانتماء المكاني له.
تعج أمثلة العمارة التقليدية المالطية (وفي فاليتا، على وجه الخصوص)، بمفردة تصميمية معينة، يكاد يكون حضورها لازماً في نماذج عمارة البيئة المبنية المحلية، مانحة تلك العمارة عنوانها النوعي. وهذه المفردة، التي تبدو بشكلها المميز ووظيفتها المحددة، كثيرة الشبه بـ "المشربية" او "الشناشيل"، التي ترى أشكالها وهيئاتها دوماً في منتج العمارة الإسلامية، ما يثير تساؤلات مشروعة عن مرجعية ذلك العنصر التصميمي وأسباب انتشاره الواسع في عمارة مالطا.
نعرف بأن العرب المسلمين سكنوا تلك الجزيرة لفترة قاربت قرنين من الزمان (من منتصف القرن التاسع الى منتصف القرن الحادي عشر). ووصل عدد المسلمين، في حينها، ما يقارب الثلثين من سكان الجزيرة. وبالتالي فان من المتوقع ظهور تأثيرات راسخة ومؤكدة لمنتج العمارة الإسلامية على نوعية النشاط المبنى في تلك الجزيرة. ومن تلك المؤثرات قد يكون انتشار استخدام "المشربية" كاحد العناصر التصميمية الشائعة في منتج العمارة الاسلامية (التى دللت الوثائق والدراسات الجادة بانها احدى ابداعات العمارة الاسلامية، هي التي راج استخدامها كثيراً إبان الفترة العباسية، وبالتزامن مع وجود المسلمين في تلك الجزيرة المتوسطية). ولهذا نعتقد، كما يعتقد كثير من الدارسين، بأن شيوع تلك المفردة في العمارة المالطية، التى تُرى باشكال وبمعالجات والوان ومواد متنوعة، ما هي الا احدى تنويعات ذلك الخزين الثرّ، الذي اجتهدت العمارة الاسلامية في كشفه وإبداعه. ونشير، هنا، بأن تنوع الأشكال واختلاف المواد وتباين الحلول وتميزها، التي لازمت استخدامات هذا العنصر التصميمي الذكي في عمارة الجزيرة؛ لا يمكن له أن ينفي صلته مع النموذج البدئي Archetype المبتدع من قبل العمارة الإسلامية.
في عمارة مبنى "البرلمان المالطي" تحضر "المشربية"، تحضر في تفسير مبدع وتوظيف خلاق، يشيان بجمالية عالية ومبتكرة، لذلك النموذج الأصلي الذي ابتدعته، يوما ما، العمارة الاسلامية. ولئن حرص المعمار على استخدام "فكرتها" المتمثلة في حجب أشعة الشمس الحادة، والسعي وراء عدم دخولها المباشر الى الأحياز المغلقة، والتقليل من وهجها الشديد، وتنقية و"فلترة" سلبيات الظروف المناخية السائدة من خلال ابتكار ما دعي لاحقاً بـ "المناقير الحجرية"؛ فانه ارتضى ان يكون ذلك الاستخدام، أداة رئيسية و(جوهرية ..كذلك!) في صياغة جماليات واجهات المبنى. وجاءت الحلول التصميمية لتلك الواجهات مقترنة بتوظيف تنويعات تلك المفردة التصميمية واستخدام أشكالها بأعماق متفاوتة، وبغزارة وتجميع متباينين. واذ يستعير المعمار إحدى أدوات إدراكه لمفهوم "العمارة" (الذي لطالما تحدث عنه طويلاً وباستمرار، وقد أشرنا إليه في مكان آخر من هذا النص)، فانه يجعل من <الفن> وتأثيراته، وسيلة أساسية في تنظيم ومعالجة واجهات المبنى العديدة. فيشرع في "نشر" تلك المفردة التصميمية التي اختارها كتمثيل لرؤاه في معنى "المشربية" والاشتغال على تأويلاتها. وجاء ذلك النشر (والنثر ..أيضاً)عاكساً ذائقة المصمم الفنية، في اختياراتها لحلول "كمية" و"مواقع" و"صيغ" نشر ونثر تلك المفردة، ما جعل سطوح واجهات المبنى "تفقد" خاصيتها "التكتونية" Tectonic، لتضحى "لوحات تشكيلية"، مشغولة على قدر كبير من القيمة "الاستاطيقية" المبتكرة والآسرة. فهو، تارةً، ينثر تلك المفردة في أمكنة محددة، وتارة آخرى ينحو لتجميعها بكثافة في مواقع معينة على سطوح تلك الواجهات، وتارة ثالثة، يجعل منها عناصر احادية مبثوثة بتقتير كبير على سطوح واجهاته الحجرية. بتعبير آخر، تعاطى المعمار مع "كشوفاته" في فعل تأويل مهام "المشربية"، بذائقة جمالية عالية، تنأى بنفسها عن الإحساس بالملل أو الشعور بالرتابة جراء تكرار أشكال تلك المفردة التصميمية. وهو بفعله الجريء هذا، فقد وهبنا "رينزو بيانو"، درساً بليغاً في قيمة جدل التراث وما بعد الحداثة وأهميته في الممارسة المعمارية، مانحاً إيانا متعة رؤية تأثيرات تأويل تلك المفردة، والاستمتاع في لذاذة مشاهدة الاشتغال على إجراءات "تناصها". في الوقت الذي أضفى المصمم بعمارة مبناه المميزة والفريدة، "جرعة" جمالية زائدة لحضرية المكان الذي يتواجد فيه مبنى "برلمان مالطا"!
والمعمار"رينزو بيانو" ولد، كما عرفنا، في سنة 1937، في مدينة "جنوة" الايطالية، في عائلة عمل أكثر أفرادها في قطاع المقاولات. فجده، وأبوه، وثلاثة من أعمامه بالاضافة الى شقيقه عملوا جميعاً في شركتهم العائلية. درس العمارة في مدرسة العمارة بجامعة البولوتكنيك في ميلانو. أسس في سنة 1971، مكتباً معمارياً بالاشتراك مع المعمار الانكليزي "ريجارد روجرز"، وقدما في حينها مشروع "مركز بومبيدو" في باريس، الذي حازت عمارته على شهرة عالمية واسعة. كما أسس لاحقاً، في سنة 1981، مكتباً خاصاً به باسم "ورشة بناء رينزو بيانو" RPBW. صمم العديد من المشاريع ذات اللغة المعمارية المميزة في أنحاء عديدة من قارات ومدن العالم. حاز على جائزة "بريتزكر" سنة 1998. يوجز مقاربته المعمارية بالكلمات التالية"..أنزع لتوظيف عناصر غير مادية في نشاطي المعماري، مثل الشفافية، الخفة، وانعكاس الضياء. واعتبر ذلك بمثابة جزء لا يتجزأ من التكوين، مثل الشكل والكتلة".
اترك تعليقك