افتقاد بيئة للإصلاح

افتقاد بيئة للإصلاح

ياسين طه حافظ

في الوقت الذي اشعر فيه بالاحترام لأولئك الذين يستاؤون من العيوب فيخرجوا غاضبين احتجاجاً، تاركين بيوتهم وسلامهم اليومي ومضحّين بيوم راحتهم، في هذا الوقت،

يحاصرني تساؤل صعب ومؤسف، ذلك هو إن كان عملهم المجيد ذلك مجدياً؟ ويزداد السؤال ارباكاً حتى يسدّ عليّ طريق الرؤية، أما بين هؤلاء الذين طلبوا الإصلاح الاجتماعي وتنحية الفاسدين والفاشلين والمدانين بتبذير أو سرقة أموال الدولة و المتهمين بمصادرة الفرص المريحة أو المربحة و الاستحواذات بأنواعها...، أما بينهم من يُدان بأمر؟ أكلهم مؤتمنون منزهون تماماً؟ ونحن الذين نواليهم أو الذين يقبعون في بيوتهم صامتين على أسف، هل كل أولاء الذين يرفضون الفساد هم صفوة أخلاقية، لم يستحوذوا، لم يزيفوا ولم يكذبوا في عملهم وفي بيعهم و شرائهم ولم يطمعوا بما ليس لهم ولا استعداد لهم للمساومة او للتفاهم على جدوى أو نفع مع هذه الفئة أو تلك ولا هم استرضوا وتقربوا لهذا الفاسد أو ذاك؟ 

ليس في الكلام إدانة ولا تقليل من أهمية أو شأن ولكني أريد أن أصل الى حقيقة نعتمدها في السلوك وفي التفكير وفي العمل. فأعود وأسأل : 

ألم تحصل مفاسد مستورة في المكاتب ومنظمات المجتمع المدني و الجمعيات والنقابات والأحزاب؟ ألم يقتنص العاملون أو المهيمنون منهم الفرص ولم يحابوا ليصلوا ولم يتحولوا الى ضفادع وقردة أمام مسؤول فاسد، رئيس حزب أو وزير أو رئيس وزراء أو حتى حامل حقيبة مهما كان قد ينفع؟ ونحن في السوق ألا نشكو من غش بضاعة أو تطفيف موازين ؟ أولا يخدعوننا في النوع والأسعار؟ بائع الخضار والفاكهة يعرض جيداً ويخفي وراءه فاسداً. العامل يغش صاحب عمله وهذا يغش زبائنه. ثم ألا نجد مفاسد وعيوباً في المدرسة والاكاديمية وهل نحن راضون عن هذا المعلم وذاك الاكاديمي، وكلنا نعرف ما يجري، من الامتحانات حتى أعداد الأطاريح...؟ ومن لا يستاء من جباة الضرائب وسماسرة العقار وحتى من ورش التصليح؟ ومن منا لم يشكُ من عامل الخدمة في الدائرة ومن الموظف فيها ورأس إدارتها؟ 

لا تخلو منطقة من عيب، من الرشوة الى التزوير الى العرقلة بسبب جهل ولا جدارة أو بسبب رداءة خلُق. وماذا عن مافيات الدواء ودور بعض الاطباء والصيادلة و المذاخر؟ ألم نسمع بتزوير الليبلات و التواريخ؟ ثم ألا يوجد غش تجاري؟ ألا يوجد غش دوائي؟ ثم ألم يقل لك موظفو الأمانة أنجزنا وأنجزنا ويذكرون ما لا يستحق الذكر فهي واجبات يومية، بينما لا إعلان ولا كلام عن اساسيات المدينة وخرابها المدني وهزال الخدمات المركزية والضرورية؟ هذه تظل رهن الوعود و "المقاولات" . وهل ينال كل الطلبة استحقاقاتهم، لا زيادة ولا نقصان ولم يحل أحد محل أحد في القبول أو في الدرجات؟ 

حسناً، إذا كان الفساد ، صغيراً أو كبيراً بهذا الاتساع ويشغل كل هذه المرافق في المجتمع والدولة، ومن العامل البسيط الى زعيم هذه الكتلة وذاك الحزب، كم مؤكدة إذاً سلامة مطالبنا وكم ممكنة هي؟ ألا نحتاج الى بيئة تنفيذية تستقبل الإصلاح؟ هذا سؤال يحتاج الى إجابة واضحة، عاقلة وحقيقية و مقنعة. 

اوضحنا إن الفساد يطال مساحة واسعة من "ادوات التنفيذ" ومن البيئة المستقبلة كلها. فمن يضمن سلامة التنفيذ؟ هذه المسألة يجب التفكير فيها كقاعدة عمل. أن تغيير وزير أو مدير عام، يعني وضع آخرين من البيئة الفاسدة نفسها ومن "شروط العيش نفسها" وهي شروط تعتمد الفساد والاسترضاء والرشى وأنواع الإرضاء.. وهي بيئة تالفة متخلفة اقتصاداً، مدنيةً وثقافة مجتمعية. بيئة ورثت جوعاً ومهانة وقنانة إقطاع وإذلالاً طبقياً و "مناطقياً" وأقلياتياً واسقاطاً نفسياً في العيش والعمل.

وحتى الاتهامات المتوالية والتي لا تنقطع بالعمالة وخدمة هذه الجهة او تلك، فاعتقد ان نسبة الاستعداد لهذا، ولدى من يتهمون وسواهم، كبيرة. وأن كثيرين سيقومون بذلك إذا اتيحت لهم الفرصة! 

إن تغيير بعض الفاسدين سيأتي ببعض آخر من النسيج الرث نفسه ليدخلوا القوالب نفسها وماكنة الفساد والرداءة نفسها. فليس المدانون الكبار المشار إليهم إلا خطوط شديدة السواد في بيئة سوداء! لولا أن البيئة فاسدة ما استطاع الفساد يمر ولا أن يستمر ولا أن يكبر ويتسع!

حسناً أن نبدأ الرفض، وأن يعلن الاخيار استياءهم مما حولهم وفوقهم، حسناً أن نخرج احتجاجاً وطلباً لحياة محترمة، لكن ألا تتبرع لنا جهة مدانة بثمن اللافتات، بل أن نجمعها من أثمان قوتنا اليومي. كل هذا جيد ومحترم، بل مطلوب بإلحاح، ولكني لا أريدكم تخيبون! لا أريدكم تنتظرون ما لا يأتي وكما يرسم الخيال أو كما تظنون ونظن. 

أريد أن أقول لكم كلمة واضحة : 

الكثيرون راضون بهذا الفساد وهم يعيشون جيداً ويفيدون منه،

والمحنة فقط محنة الشرفاء!

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top