علــي حســـين
إن على الشاعر أن يبحث عن الجديد ، وأن يرتاد المجهول ،إننا نريد ، ما دامت هذه النار تلهب الدماغ أن تنغمس في لجة الهاوية أكانت جحيماً أم سماءً ، في لجة المجهول من أجل اكتشاف الجديد .
آرثر رامبو
قبل مئة وثمانية وعشرين عاماً توفي شاب لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره في إحدى مستشفيات مارسيليا مصاباً بـ " الغنغرينا " ، وقد بُترت إحدى ساقيه وكان الأطباء على وشك أن يبتروا ساقه الثانية ، قال لشقيقته التي ترافقه في المستشفى :" إذا اضطررت ذات مرة الى أن تُقطعي أجزاء ومزقاً، فلا تسمحي للأطباء بذلك . إذ لو فعلت ذلك لاضطررت الى التمرّن على أعمال بهلوانية طوال النهار في سبيل أن تكوني شبه موجودة " ..
كانت هذه الرسالة قد أرسلت في الثامن من تشرين الثاني عام 1891 ، وبعد يومين ستعلن إدارة المستشفى وفاة جين نيقولا آرثر رامبو ..وقد اختلفت التقارير حول سبب إصابته بالغرغرينا ، فالبعض يعزوه الى سقطة من حصان تسببت بجروح عميقة بركبته ، إلا أن البعض أكد أنه أصيب بمرض الزهري .
قبل وفاته بستة أيام كانت شقيقته قد كتبت في دفتر يومياتها :" دخلت الى غرفة آرثر في الساعة السابعة صباحاً . كان ينام مفتوح العينين ، وتنفسه متقطع ، وكان يبدو نحيلاً جداً ، وشاحباً بعينيه الغامضتين في محجريهما والمحاطتين بدوائر من السواد . كنت أنظر إليه نائماً وأنا أقول لنفسي بأنه يستحيل عليه العيش على هذه الصورة وقتاً طويلاً ، يبدو مريضاً جداً ، استيقظ بعد خمس دقائق شاكياً على عادته ، لأنه لم يعرف النوم ، ولأنه تألم كثيراً ، وهو يتألم عند الاستيقاظ ..ثم يستغرق في نوع من أنواع السبات الذي لا يشله النوم أبداً .. عند الاستيقاظ ينظر من خلال النافذة الى الشمس اللامعة أبداً في سماء بلا غيوم ، ويشرع بالبكاء قائلاً إنه لن يرى الشمس في الخارج أبداً ، سأمضي تحت الأرض يقول ، وأنتِ تمشين تحت الشمس " .. ونجده قبل وفاته بيوم واحد يملي على شقيقته هذه الرسالة التي يوجهها إلى مديرالنقليات البحرية الذي كان يعمل معه :" أوجه رسالتي لك لمعرفة إذا كنت أبقيت شيئاً في حسابي عندكم ، أرغب في الانتقال بالوقت الحاضر من هذه الرحلة التي لا أعرف اسمها ، وليكن ذلك الى سفينة افيتار في سائر الرحلات ، الرحلات موجودة هنا في كل مكان ، وأنا كسيح بائس لا أستطيع إيجاد شيء وأي كلب في الشارع يؤكد لك ذلك " .
ولد جين نيقولا آرثر رامبو في العشرين من تشرين الأول عام 1854 ، حيث تبدأ أسطورة الطفل التي قالت أمه إنه ولد وعينيه مفتوحتان على الدنيا كان الأب ضابطاً في الجيش ، لايعرف الاستقرار ، ، كان نقيباً في الجيش وحارب في الجزائر ، أما الأمّ فقد كانت إبنة مزارع شديدة التديّن ، ، قال رامبو إنه لم يرَ أمه تبتسم في يوم من الأيام ، كان الأب كثير الترحال ، لم يزر بيته سوى مرّات متعددة ، انجبت الأمّ أربعة أطفال ، أصبحت مسؤولة عنهم بعد أن قرر الأب أن يغادر المنزل بلا رجعة حين كان آرثر في السادسة من العمر ، تنعكس علاقة رامبو الصعبة مع والدته الاستبدادية في العديد من قصائده المبكرة ، حيث نجده يتمرد على فكرة المعتقد الديني التقليدي ، في الثامنة من عمره ترسله أمّه الى مدرسة " روسا " المعروفة بنزعتها العلمانية ، وفي هذه المدرسة سيتعلم اللاتينية وسيكتب بها بعض القصائد القصيرة ، ويخبر أمّه أن لا فائدة من تعلم التاريخ والجغرافية ، فالمستقبل للشعر . ورغم هذا فإنه يتفوق في دراسته ، في عام 1865 يدخل المدرسة الثانوية ، وبعد عام يقرر الأساتذة نقله الى الصف الرابع مباشرة ، وتتحول الدراسة عنده الى تعويض عن الجو الأسري الخانق وحالة السكون التي فرضتها الأمّ على البيت .. أولى القصائد التي كتبها لم تكن بالفرنسية فقط ، بل اللاتينية واليونانية أيضاً، مهداة ومرسلة إلى ابن نابليون الثالث..في المدرسة يتفرغ للقراءة فيتعرف على أشعار تيول جوفوتيه وبول فيرلين ويعكف على دراسة أشعار فكتور هيجو وورابليه ، في تموز عام
1869 ، شارك في المسابقة الأكاديمية ، حيث فاز بسهولة بالجائزة الأولى .، وسيقول عنه مدير المدرسة : "ستكون في هذه الرأس ، ستكون عبقرية الشر أو الخير.
في 24 أيار 1870 ، كتب آرثر رامبو ، الذي كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً ، رسالة إلى الشاعر ، ثيودور دي بانفيل. في هذه الرسالة ، يخبره بأنه سيصبح مثله إما "شاعراً أو لا شيء "، وكان رامبو قد أعلن وهو في الـ16 عن نيّته كتابة نمط جديد من الشعر، وعندما أصبح في الـ17، اندلعت أحداث كومونة باريس فيقرر الهرب إلى باريس على نفقة الشاعر بول فيرلين، من هناك يعلن إنه قادرعلى تغيير العالم، ونجده يؤيد الثورة التي حدثت ضد نابليون الثالث وسوف يهتف قائلاً :" الثورة منتصرة ..دُحِر النظام " .. لكنه بعد ذلك يعترف أن الكومونة ستكون ثورة فاشلة ، يقول لفرلين إن :" الشاعر الحق لا يسلم رؤيته لمنطق الشعارات والإملاء السياسي " ونجده يكتب في يومياته :" عدمٌ وسديمٌ جميع الثورات الممكنة وحتى الحتمية " .. في قصيدته " ديمقراطية " المنشورة في كتابه إشراقات – ترجمه الى العربية كاظم جهاد وهناك ترجمة لخليل الخوري وأخرى لقيس خضور وآخر الترجمات ضمن الأعمال الكاملة التي ترجمها الى العربية رفعت سلام - يكتب :" في البلاد الغنية بالبهار والمطر ، سوف نخدم أبشع أنواع الاستغلال الصناعي والعسكري .. " تكتب سوزان برنار في مقدمة كتاب إشراقات :" نرى هنا الأفكار التحررية والأخويّة قد تم التعبير عنها بقوة باستخدام الجمل الهجائية ، تلك الأفكار التي بقيت على الدوام أفكار رامبو ، كما نرى أيضاً الكراهية التي تولّدها في نفسه الديمقراطية الغربية ، وترى سوزان برنار أن رامبو استبق الجميع في التحذير من أسطورة الديمقراطية القادمة بقوة السلاح ، المنحرفة عن وظيفتها الحقيقية لتتحول الى دعامة من دعامات الأداء الدكتاتوري .. كان رامبو في باريس اتخذ قراره حول موقفه من البرجوازية والدين والكنيسة والامبراطورية والنظام والعادات والتقاليد والمجتمع والثورة والأسرة .. إنه التمرد على واقع يُسلب الإنسان حريته واستقلاليته ، وسينال رامبو الشهرة بسرعة حتى أصبح يطلق عليه الشاعر الثوري الذي يتحدى عادات المجتمع والأخلاق، عبر قصائد تفيض بالسحر والعذوبة ، وأيضاً عبر أسلوب حياته الذي اتسم بالتمرد والعبث . وانتشرت قصائده حتى تمكن من أن يفوز بجائزة نيويورك .وفي باريس توطدت علاقته بالشعراء وخاصة بول فيرلين الذي كان معجباً به قبل أعوام، ونشأت علاقة خاصة بينهما. وتلك العلاقة العاصفة الطويلة، أنتجت شعراً من نوع خاص، انتشر في أوروبا كافة. وأحاطت الأقاويل برامبو وغدا موضوعاً مفضلاً للكتاب حول علاقته بفيرلين .
********
نعم ..نهاية العالم ...تقدم ، تقدم دائماً ...آلان تبدأ المغامرة الكبرى
هنري ميللر
العام 1927 وكان قد أتم الواحدة الثلاثين من عمره يعيش في قبو بارد في مدينة بروكلين ، في بيت متهالك سيسمع للمرة الأولى باسم آرثر رامبو .. كان هناك كتاب ممزق غلافه بعنوان " فصل في الجحيم ، والكتاب يعود لصاحبة المنزل التي يكرهها بشدة .. ..في ذلك الوقت كان يعيش مع زوجته أسوأ أزمة مالية مرّ بها ، لايتعشون سوى الخبز والبطاطس ، يجلس في الليل ليكتب على ضوء الشمع مسرحية يأمل أن يحصل من خلالها على بعض المال ..كانت الحياة التي يعيشها تذكّره بقصة دستويفيسكي "في قبوي " ..
يتحدّث كتاب “زمن القتلة” لهنري ميللر عن رامبو، وعن تجربته الشخصية في قراءة هذا الشاعر، إذ يحاول ميللر أن يقاطع سيرته الشخصية وتنقله بين نيويورك وفرنسا مع سيرة اللعين رامبو، ورحلته من فرنسا نحو الشرق، مروراً بالحبشة واليمن وصولاً إلى الهند..وذات يوم يقرر هنري ميللر ان يطلب من زوجته أن تستعير له من صاحبة المنزل كتاب رامبو الملعون هذا الذي يتردد اسمه في أجواء البيت :" قرأت فصل في الجحيم " لقد استحوذ علي ، وعقد لساني . وبدا لي إنني لم اقرأ حياة ملعونة كحياة رامبو .. نسيت عذاباتي التي تفوق عذاباته كثيراً . نسيت الإحباطات والمهانات التي عانيتها ، وأعماق اليأس والعجز التي غرقت فيها . غدوت لا أستطيع التحدّث إلا عن رامبو . وكان على كل من يزورني أن يصغي الى أغنية رامبو "
يقررهنري ميللر أن يكتب عن رامبو وجحيمه ، فهو يتذكر تشرّده في شوارع نيويورك، ومعاناته في البحث عن عمل، وحالة اللاجدوى التي وصل إليها، وتحوّله إلى شخصية مرفوضة ذات الكثير من الأخطاء والعيوب، إلا أنه مازال محبوباً، وكأن الناس تغفر لأولئك الكتّاب أصحاب الخطايا..وهذه الحياة التي تشبه حياة رامبو الذي كان غارقاً في المشاكل والآثام ، مارس جميع المهن ، لكنه لم يتخلَ عن مهنته الحقيقة " شاعر " ، وفي النهاية مثلما وجد هنري ميللر نفسه يعيش في قبو بارد ، كانت نهاية رامبو في المستشفى ينتظر الموت
قبل هذا التأريخ يتذكر هنري ميللر أنه عاش حياة متشرد في شوارع باريس ، عاطلاً عن العمل : " كنت أسير في الشوارع أبحث عن كسرة خبز أو عمل أو عن ركن حيث أهوي بجسدي ، لقد قطعت آلاف الأميال ببطن فارغ مثل متسول ، أعرف كل المطاعم ليس لأنني أكلت بها ، بل لأنني تفرست في وجوه الزبائن الآخذين في ملء بطونهم .. أحياناً كنت أفكر إنني ولد جائع " . قال ذات يوم لصديقه بيكاسو : " قررت أن أكتب عن نفسي وأصدقائي وتجاربي ومما عرفته وشاهدته " ، ثم أضاف :" هل تدري أشعر بنفسي أحياناً مثل مانعة صواعق تمتص الصعقة ثم تحوّلها لتيار يسري في نهر الحياة " . يكتب في مقدمة مدار السرطان : " ليس هذا كتاباً بالمعنى العادي لهذه الكلمة . لا . إنه إهانة متصلة وبصقة كبيرة في وجه الفن والإنسان والزمن والحب والجمال " .
وجد هنري ميللر آنذاك في القراءة توازنه النفسي ، كان يرغب في تحسين مستواه الثقافي ، فخطط لسرقة الكتب من المكتبات العامة ، ، ومن بين مسروقاته التي يعتبرها ثمينة ، رواية الفرنسي فرديناد سيلين " رحلّة الى نهاية الليل " التي سحرته منذ اللحظات الأولى ، ووجد في أسلوبها التجريبي وقفزاتها وصورها الخيالية ، ولغتها الحافلة بالتعبيرات المجافية للذوق التقليدي ، والمشحونة برغبة واضحة وعمدية لخدش الحياء العام ، ضالته ، وقد قرر ميللر أن يكتب رواية شبيهة برواية سيلين تتسم بالقتامة والحدّة والمرارة ، رواية تعبر عن الصورة المتشائمة التي يتبدى عبرها العالم وكأنه سلسلة من الكوابيس والمغامرات التي تلاحق الإنسان الأعزل ، إضافة الى رواية سيلين ، كان هنري ميللر قد ارتبط بصداقة مع أندريه بريتون السيريالي الشهير الذي أعلن عام 1924 تأسيس حركة أدبية جديدة هدفها :" الوصول إلى وعي بالحياة أكثر وضوحاً من قبل ، إلى وعي بها أعنف عاطفة وأشدّ شعوراً " ويذهب بيان بريتون الى أن السيريالية وسيلة تحرر شامل للفكر ولكل ما يشبهه ، وإنهم عازمون على القيام بثورة ، وإنهم أصحاب اختصاص في التمرد ، وإنهم سيحطمون كل القيود بعنف " ويعلنون في مكان آخر إن الثورة السيريالية تهدف إلى خلق حركة في الأذهان وتهدف قبل كل شيء إلى خلق تصوّف من نوع جديد ..كان بريتون يسخر من الرواية الكلاسيكية ويصف أبطالها بأنهم " دمى مُسبقة التصميم والتركيز يستخدمون العقل ويهملون كنز الحلم " .يتذكر ميللر أن صداقته مع بريتون جعلت حياته بريئة من أية أسرار دفينة ، وفكره خالياً من أي ألغاز .
، وسيكتب هنري ميللر فيما بعد وهو يخصص كتاباً خاصاً عن الشاعر الفرنسي آرثر رامبو إن :" المتمرد لديه طبيعة خائنة، تميّزه عن القطيع، إنه يخون وينتهك دائماً، إن لم يكن بالكلمات، فبالروح، إنه خائن في أعماقه، لأنه يخشى أن توحده الإنسانية التي في داخله، بابن جنسه، وهو مُحطم تماثيل، لأنه من فرط تبجيله الصورة، يغدو خائفاً منها، ما يريده، قبل كل شيء، هو إنسانيته المشتركة، قدراته على التقديس والتبجيل، إنه مريض من الوقوف وحيداً، فهو لا يريد أن يظل إلى الأبد، سمكة خارج الماء، وهو لا يستطيع العيش مع مُثُله إلا إذا حظيت هذه المثل بالمشاركة. لكن، كيف يستطيع أن يوصّل أفكاره ومُثله إن كان لا يتحدث باللغة نفسها التي يتحدث بها ابن جنسه؟، كيف يستطيع أن يكسبهم، إن كان لا يعرف الحب؟، كيف يستطيع إقناعهم بالبناء، إن كان يقضي حياته كلها بالهدم؟".
ولد هنري ميللر في مدينة نيويورك في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1891 ، كان والده خياطاً ، يعاني الإفلاس الدائم ، والدته من أصول ألمانية أصرّت أن تعلّم ابنها لغة بلدها وخلال السبعة عشر عاماً الأولى من حياته كان متشنجاً بقسوة جراء تأثير والدته عليه ، في سن التاسعة عشرة قرر أن يترك الجامعة ليعيش ضائعاً متشرداً ، بعدها ينصرف للعمل في مهن غريبة كان آخرها موظف خدمة في شركة للهواتف ، عاشر ميللر نساء كثيرات ، لكنه تزوج بأربعة منهن :" أنا أحب النساء القويّات ، فأنا ضعيف إلى حد ما ، لذا انجذب إلى النساء ذوات القوة والشخصية ، معركتي معهن معركة ذكاء ، كما إنني أجد نفسي مأسوراً بنساء يراوغن ، ويكذبن ، ويلعبن عليّ ، ويغششنني بحيث يبقينني طيلة الوقت على السياج ، ويبدو إنني أتمتع بذلك " ، حاول منذ أن كان في المدرسة الثانوية أن يكتب ، لكن لم يتمكن من نشر كتاباته بسبب فضائحيتها ، سافر الى باريس عام 1928 ، لكي يلتحق بزوجته الثانية وقد حاول هناك أن يحصل على وظيفة لكنه فشل.. في باريس استطاع نشر مدار السرطان أولى رواياته ، بعد هذه الرواية توطدت شهرة هنري ميللر
*******
في الرابعة عشرة من عمره بدأ رامبو يتمرد على تزمّت أمّه وطريقتها في الحياة ، إذ رفض أن يحلق شعره ، وكان يقضي أوقاته في المقاهي يروي لأصدقائه قصصاً خليعة ، أو حكايات يهاجم فيها الكنيسة ، وفجعت الأمّ بهذا التغيير الذي طرأ على ابنها ، لكنه ما زال يقضي وقتاً طويلاً في القراءة ، ويفوز بالجوائز الأدبية .. يكتب في أحدى قصائده:
وتشردت ثمانية أيام ، وامتلأ حذائي بالثقوب على الطرقات الوعرة.
في تلك الفترة شغف بقصائد بودلير وبحياته ، وكان يعتقد أن بودلير استسلم الى بيت من بيوت الخطيئة ليجعل من نفسه شاعراً عظيماً ، يكتب كولن ولسون في كتابه " سقوط الحضارة " إن :" رامبو الحقيقي ولد في تلك الأيام التي كان يمثل فيها دور الفتى العابث في شوارع شارلفيل ..كان يواجه عدو اسمه السأم واللاإنجاز ، أما الدافع فقد كان كامناً في فكرة أنه لا بد من وجود طريقة أخرى ليعيش هذه الحياة القصيرة بصورة كاملة " ، لقد وجد رامبو الحل لدى بودلير ، الشاعر الكبير ، الحشاش ، المعذب دائماً ، وقد رأى فيه رامبو برجاً عالياً من الخطايا والتمرد ، وقد بدأ يفكر في الطريقة التي يمكن أن تُعاش بها الحياة بصورة كاملة ، بعيداً عن سلطة أمّه المتزمتة.. فهو يشعر إنه سجين جدران من الورق يستطيع أن يمزّقها ببساطة إذا ما توفرت له الشجاعة الكافية ، واعتقد أن الأمر الوحيد الذي يمنعه من أن يكون عبقرياً ، هو سيطرة أمه وكسله تجاه الأحداث ، وقد كتب في إحدى رسائله :" سينتهي بي الأمر الى قناعة تافهة ، ولن أحقق شيئاً ، لأن الآخرين لايردون لي أن أحقق شيئاً " . وسيكتب الى أحد أصدقائه :" إن الشاعر هو الذي يستشف بكل حواسه وكيانه ما وراء الأشياء " في تلك الأيام كان رامبو يؤمن مثل بودلير أن الإنسان يستطيع أن يمرّن نفسه على رؤية الرؤى يكتب :" الشاعر يستطيع أن يرى الرؤى بتدمير الحواس تدميراً طويلاً منظّماً هائلاً " تكتب أمه الى أحد أساتذته ايزامبارد :" هل من الممكن أن نفهم هذا الصبي ، وهو الهادئ الرزين ، كيف جاءت الى رأسه هذه الفكرة الجنونية " . .. في السابعة عشرة من عمره سيكتب واحدة من أشهر قصائده " المركب السكران " وهي قصيدة طويلة تحتوي على أربعة وعشرين مقطعاً ، والتي تعد اليوم أجمل ما نشر في الشعر العالمي ، ولم تنشر القصيدة إلا عام 1883، إذ كان عليها أن تنتظر صديقاً اسمه بول فرلين سيفتح الأبواب أمام رامبو ، كان فرلين عندما تعرف على رامبو في السابعة والعشرين من عمره ، وكان قد نشر العديد من القصائد ، وانتخب عضواً في جمعية تتألف من شعراء كانوا يسمون انفسهم شعراء البرناسيين – نسبة الى جبل برناس الذي كان رمز الشعر في اليونان القديمة - .. وكانت لفرلين مكانة كبيرة رغم إنه كان مدمناً ومصاباً بالشذوذ الجنسي ، وكان قد فصل من وظيفته بسبب ميوله الثورية .. وعندما التقى رامبو بفرلين وجد لأول مرّة في حياته روحاً شقيقة لروحه ، لقد وجد شاعراً حقيقياً .. وكان ذلك بالنسبة لرامبو يعني إنه وضع قدمه في أول طريق التمرد .. وإن عليه أن يدخل معركته الجديدة مع الحياة .. إلا أن علاقتهم امتازت بنوع من أنواع السادية فبرغم الحب الذي ربط بينهما إلا أن فرلين كان يشعر أن رامبو شيطان دخل حياته .. وقد عاش فرلين حياة صاخبة انتهت بأن مات بعد رحيل رامبو بخمسة أعوام في إحدى المستشفيات بعد أن حقق لنفسه ولصديقه شهرة واسعة في جميع أنحاء أوروبا
كانت قصائد رامبو أشبه بصدمة في عالم الشعر ، ذلك أنها كشفت ان رامبو لم يكن يوما على وفاق مع مجتمعه، وأنه يشعر بالمرارة، وكان عليه ان يتمرد على كل شيء في ذلك المجتمع، وايضا على المنظومة الثقافية باكملها ، من خلال قصائد جميلة، لكنها قاسية وحادة وموحشة ، وهي نفسها القصائد التي اشعلت في داخله روح التمرد لتدفعه الى ان يترك الشعر ويهيم بين البلدان ، مرة يعمل بحارا ، ومرات يمتهن التجارة ، وفي كل ذلك كانت روح التمرد تدفعه الى ان ينهي حياته مبكرا ، مثلما انهى مسيرته الشعرية بعمر مبكر جدا .
اترك تعليقك