د. نادية هناوي
أمتلك كثير من الباحثين المعاصرين وعياً قصدياً يرى أن التاريخ وبخاصة التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط ما هو إلا مجموعة من التفاسير والتأويلات
التي تتيح الوقوف على كثير من التناقضات والتضادات التي تحويها النصوص التاريخية الرسمية، ومن ثم يصبح ارتكاب الخطأ ممكناً من ناحيتي الرواية والتأويل. وهذا ما تؤكده نظرية المحاكاة كواحدة من النظريات التي بها يستطيع الباحث التاريخي تفكيك مرويات التاريخ الرسمي التي تريد أن تخبرنا بأن هذا هو ما حصل فعلا، وأن المؤرخ وهو يدون وقائع الماضي في تاريخ يكتبه من وجهة نظره ما كان ليقول إلا الصدق!.
وليس غريباً أن تفند نظرية المحاكاة تلك الصدقية التاريخية بناءً على الفهم الأرسطي الذي يرى أن الحادثة لا تنقل حرفياً وإنما تجسد تخييلياً بالتنقيح والتحوير وبحسب ما يتمتع به المؤرخ من مخيلة إبداعية، وهذه النظرية تبناها الباحث الامريكي بواز شوشان أستاذ التاريخ العام والدراسات الشرق أوسطية متفحصاً البنية النصية للتاريخ الاسلامي مهتما بالاشكالية التاريخية من بعدين :
الأول/ البعد الوقائعي الذي يرى التاريخ مؤرشفا في وثائق هي خزائن من المعلومات الموثقة والصحيحة.
الثاني / البعد التخييلي الذي فيه التاريخ مادة أدبية يتم التعامل معها كمشروع بحث أدبي ولغوي وتحليل نقدي.
وإذا كانت انطلاقة بواز شوشان في كتابه ( شعرية التاريخ الإسلامي تفكيك تاريخ الطبري ) بحثية تدور في إطار النظرية التاريخية ما بعد الحداثية بالدرجة الأساس ثم النظرية السردية بالدرجة الثانية؛ فإن اهتمامه أنصب على الماضي بوصفه نصا سرديا يصلح للتحليل والتفكيك وإعادة البناء.
أما لماذا اهتم شوشان بالتاريخ الاسلامي في القرون الوسطى ؟ فلأن هذا التاريخ يلبي متطلبات البحث التفكيكي بغية الزحزحة للثوابت كشفاً عن الحقائق ورغبة في خلخلة المعتاد من أجل الظفر باللامعتاد. ولعل في مقدمة ما يبتغيه هذا الباحث هو معرفة الفرق بين ماض يحاكي وقائع معاصرة وماض يحاكي وقائع تأريخية، والكيفية التي بها يمكن لوسائل النقد الأدبي أن تسهم في دراسة هذا التاريخ.
وقد توصلت منهجية شوشان التفكيكية إلى عد كتب التاريخ من طراز تاريخ الطبري مجرد تلفيقات وأن الحوارات والحكايات في المدونات التاريخية هي إلى حد كبير مخترعة حتى لا يمكن انكار وجود مكونات خيالية فيها.
ولئن كان هم المؤرخ اقناع القارئ فإن هذا سيتطلب منه مراعاة الأسباب كي تكون النتائج منطقية ليصبح المروي سرديا او بالاحرى مبنى حكائيا. ولو افترضنا أن المؤرخ راعى الصدق لما كانت مدونته التاريخية مقنعة لأنها ستفقد عامل التوصيل بحسب نظرية هايدن وايت التي ترى التاريخ موصوفا بأنه سرد. وهذا ما ينطبق على مختلف المرويات التي نقلها لنا الطبري في تاريخه خذ مثلا لا حصراً حادثة السقيفة وكيف أن الحاجة جعلت المؤرخ يؤكد استسلام سعد بن عبادة في مبايعته لأبي بكر لتبدو الحكاية وكأنها الخلاصة الرسمية لمؤسس الأمة، أو حادثة قتل الخليفة عثمان وتوبة الأمة من بعد مقتله أو حادثة يهود خيبر في تسميم النبي أو حادثة استشهاد الإمام الحسين في كربلاء.
وهذه الحادثة الأخيرة التي تعد من أهم التراجيديات في التاريخ البشري هي التي سلط بواز شوشان الضوء عليها مخصصاً لها الفصل الثامن وعنوانه(استشهاد الحسين قصة تراجيدية) محاولاً تفكيك طبيعة الرواية التاريخية المتعلقة بملابسات الاستشهاد وغموض الإحالات النصية التي تعمد الطبري ايرادها مستنداً على روايات كثيرة في مقدمتها رواية أبي مخنف. ويرى شوشان أن في تاريخ الطبري لب الحكاية التراجيدية التي عليها تعتمد مشاهد التعزية في عاشوراء (التشابيه ) وقد أوصله تتبعه للاستباقات الزمنية في سرد الطبري للحادثة الى أنها حققت عنصر المفارقة كنوع من الايذان المبكر بوقوع الاحداث من خلال وضع مشهدين متعارضين ومتباعدين زمانيا ليكونا جنبا الى جنب من ذلك مثلا ما تنبأ به عبد الله بن عمرو بن العاص للشاعر الفرزدق حول رحلة الإمام الحسين الى الكوفة.
وإلى جانب تحقيق المفارقات الفنية فإن الخروج الزمني عن الرواية والتحوير الاخباري للقصة سيحقق غاية فكرية أخرى مهمة وهي مسألة الربط بين النهاية ومقولة إن( القضاء بيد الله) وبالشكل الذي يجعل مفهوم القضاء مفهوماً تعبيراً ملموساً خاصاً، يضحي بالتشويق في مقابل إشاعة جو من الرهبة فضلاً عن توكيد فكرة أن الإمام كان مجبراً على تنفيذ قضاء الله.
ووجد شوشان أن ما يجعل قصة استشهاد الامام الحسين تراجيدية هو أنها تنقل من وجهتي نظر مختلفتين تعملان بالتضاد وهذا ما عمّق الاثر التراجيدي وجعل القصة أكثر تعقيدا متجهة صوب توكيد جبرية الحادثة والتنبؤ بحتمية وقوعها، من خلال جعل الفرزدق يكشف عن النهاية التراجيدية في مرحلة مبكرة من الرواية.
وهذه الجبرية سبب من الأسباب التي أدت إلى اختلاف كتب التاريخ في نقل حادثة كربلاء بروايات متعددة، ولقد اعتمد الطبري على روايات أبي مخنف وأبي جعفر الباقر وابن الكلبي، وهذا ما أدى الى أن تتفرع عن الحكاية الأصل حكايات تراجيدية منها حكاية عبد الله بن خازم وسلامة بن مرثد وقضية التحاقهما بالتوابين بعدما سمعا الصيحة( يا لثارات الحسين) علما أن هذا التفرع لم يكن مقتصراً على الذاكرة الموثقة تدوينياً في التاريخ الرسمي وإنما تجاوزها إلى الذاكرة الجماعية للأمة الاسلامية.
وتساءل شوشان عن سبب عدم استمرار الطبري في سرد رواية أبي مخنف وانتقاله المفاجئ منها إلى رواية أبي جعفر الباقر، واجدا أن السبب يكمن في محاولة إضعاف خلاصة رواية أبي مخنف مصورا الإمام وكأنه مجبر على مواصلة مشروعه تحت الضغط، وأنه منذ منتصف الطريق كان مدركاً حتمية موته الوشيك لذلك ينقل عنه أنه تمثل بالبيت الآتي متنبئا بموته:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى
اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
وبهذا تتوكد حتمية الهلاك القادم كما تتأكد مسألة الجبرية والخضوع للقدر وبشكل يسميه شوشان ب( التاريخية الميكانيكية ) التي بها يتم التركيز على المظاهر الخارجية لأحداث كربلاء بينما يتم التغافل عن التاريخ الداخلي والصراع المؤلم في ذهن الإمام الحسين، مقدما لنا صورة المغامر الذي جاء يحاول الاستحواذ على السلطة السياسية، متجاهلا بشكل تام الاهداف الحقيقية والمقدمات المنطقية، وكأن لا قصة دينية أمامنا تنطوي على تراجيدية دامية وانما هناك تنبؤات بالهلاك تزداد احتمالاتها حين يتعاهد أصحاب الإمام على أن يموتوا قبله من خلال مشاهد درامية مؤلمة كمشهد القاسم بن الحسن ومشهد الحسين وهو يقف عند رأس الغلام القتيل ومشهد الإمام وهو يمسك بطفله الصغير على ركبته. وفي كل تلك المشاهد تدليل على الفعل التراجيدي الذي تتوفر فيه ملامح مقصودة يتصدى لها المؤرخ محاكيا الكارثة من الناحيتين الظاهرية والداخلية والعلاقة المصيرية بين الانسان والنظام الكوني حيث الابطال التراجيديون واقعون تحت قبضة قوى يعجزون عن السيطرة عليها. وهكذا صور الطبري في مروياته التراجيديا بمفهومها الكلاسيكي وهو ينقل لنا حادثة كربلاء وفيها يبدو الإمام الحسين بطلاً يواجه قدراً لا مرد له وهو يعرف بهذا مسبقاً.
إن ما فعله شوشان في كتابه أعلاه تمحور حول تمحيص تاريخية هذا الحدث من خلال تتبع القصة التراجيدية لاستشهاد الامام الحسين على وفق مفهوم المحاكاة الأرسطية وطرائق تمثيلها، ليصل إلى حقيقة أن الطبري في تاريخه كان قاصاً، يسرد لنا أحداثاً تتم على وفق قانون الاحتمال الأرسطي بمعنى أن المحتمل خير من الممكن غير المحتمل.
اترك تعليقك