أحمد فاضل
إذا كنا نعتبر أنفسنا على دراية جيدة بالأدب المعاصر دون قراءة القصص القصيرة ، فهي كمن يزور باريس دون أن يُعّرج لرؤية برج إيفل ، ومع أننا نختلف في قراءاتنا رواية ، قصة ،
فإن البعض منا يرى في القصص القصيرة ضالته التي ترضي شغفه وتأخذه بعيداً في سياحة لم يكن يتوقعها ، وهو ما حصل فعلاً حين جمعتني برحمة الله غرفة واحدة في فندق مناوي باشا في البصرة لدى دعوتنا لمربدها الشعري في آذار من هذا العام ، والذي أهداني حينها إثنان من كتبه بقيا ينتظران قراءتي لهما ، حتى جاء الوقت الذي تناولت فيه " واسألهم عن القرية " مجموعته القصصية الصادرة عن دار نشر سطور في بغداد عام 2016 ، لأجد رحمة الله قاص ذا طاقة هائلة على المطاولة السردية القصيرة ، مستفيداً من شكلها الذي منحها غرابة في تأسيس وتأثيث أحداثها وأدوارها المتخيلة ، وأن بعض هذه القصص أصبحت أكثر إثارة للاهتمام كأمثلة على النمط الذي يبدو أن رحمة الله يتطور بعيداً عنه ، مثل قصة " المعلم " التي وجدتها رائعة على مستوى الجملة والحدث ، حينما يروي قصته مع تلك القرية المنسية التي جاءها معلماً ليكتشف حجم المأساة التي تعيشها :
" ذهل حين اكتشف أن القرية المنسية لم تطرز سجادتها بحديقة ، ولم يزين وجهها شارع نظيف ، أو بناية ذات هيبة ، أو مكان للترويح ، غير مقهى يقبع في آخر الدرب الترابي الوحيد الذي صلبت على جانبيه دور وأبنية شامخة ، وأحزنه أن تلاميذه المتناثرين كالدُمّل على وجه الشارع ، يحدقون في سحنته من دون أن يبادلوه السلام والتحية ، مكتفين بنظرات جامدة ، النسوة المتلفعات بالبؤس والعباءات الرثة يتغامزن هامسات ( هذا هو المعلم الجديد ) ، الرجال يطلقون العنان لأنظارهم صوبه وكلها رجاء ، في أن يقذف الحياة في عقول أبنائهم ويُبعث فيهم ( نبي ) ، ينتشلهم من بئر أحزانهم وبؤسهم " ، ومع أن أحداثها تبدو أكثر دراماتيكية حينما يذهب " المعلم " لمساعدة والد أحد طلابه الذي فر حماره منه تاركاً عربة الحمل التي يقودها بسبب قسوته عليه ، ليتطوع في أن يكون بديلاً عنه لمساعدته في تحصيل رزقه وهنا ، تكمن تلك الكوميديا السوداء التي أراد رحمة لله من ورائها أن يعقد مقارنة بين البشر أيهما أكثر نفعاً ، فتنتهي القصة بعزم " المعلم " على الفرار مثل حمار الحوذي إلى الغابة التي ستكون أرحم منه مع كل الوحوش الموجودة فيها .
وعلى الرغم من أن القصص تختلف في تفاصيلها ، إلا أن الاتجاه دائماً هو نفسه حيث تشعر الشخصية بأنها الضحية الفردية للظرف ، ولكنها تنتهي في إدراك مدى ملامستها لحياة الآخرين ، أو على الأقل بالنسبة للقارئ كلها مقنعة حتى النهاية مع كل خيبات الأمل المصاحبة لها ، ولأن رحمة الله حاول أن يكون أكثر إيجابية وهو يقدم شخصياته المفتوحة والسماح لعيوبها ، ضعفها ، عماها ، نرجسيتها ، غرورها في تحفيز سرديتها ، فقد تمكن بشكل متزايد من فعل ذلك دون أن يبقيها بعيدة عن تصوراتنا ، في هذه النقطة بالذات كان مثيراً وغالباً ما شعر تجاهها وهو يقدمها لنا بسردية غير تقليدية ، مثالاً على ذلك في قصة الرسام ، عودة الحكاء ، العازف ، أما حماسته التي وضعها في فوضى الحياة شبه الحقيقية لأبطال قصصه فهي واحدة في فكرتها العرضية ودوافعها ، أتاح لها مساحة كافية لاحتواء جموعها ولتفاعلاتها وعشوائية العالم الذي تعيشه وسط تعقيدات أحكامها الأخلاقية ، ولحسن الحظ سمحت قصص " واسألهم عن القرية " القصيرة أن تكون بأوضاع أكثر من واقعية ، وقد استفاد رحمة الله من هذه الخيارات بشكل مثير للدهشة خاصة في قصصه القصيرة جداً وهي برأيي من أصعب خيارات كاتب القصة حينما يلج هذا الجنس منها ، باعتراف همنغواي حينما أتعبته قصته القصيرة جداً والوحيدة التي لم يغامر بعدها بالكتابة ثانية : " للبيع : أحذية أطفال ، لا تلبس أبداً " .
أجدني حيال ذلك أقف عند منظورها وكلي دهشة لتثير بي استجابات أقوى لقرائتها ، وجدت رحمة الله عندها قاصاً مغامراً لا يعرف الخسارة وهو يضع بين أيدينا حزمة منها تتألف من 26 قصة قصيرة جداً ، احتلت القسم الثاني من مجموعته ، وعلى الرغم من تميزها بالتصوير البلاغي الذي بدا طاغياً على السرد المباشر ، فقد لاحظت اهتمام كاتبها بالحركة الداخلية التي تؤسس العلاقات النفسيّة والانفعاليّة لها ، كقصة " تفاهم " :
" على أريكة انتظار الحافلة ، جلس رجلان بالصدفة ، قال الذي على اليمين للجالس على اليسار : ( الحياة مقرفة ) ، فلم ينبس الآخر بكلمة ! فكرر المحاولة : ( الحياة مع كل بشارات التطور ، تحولت إلى شيء ماسخ ... ؟ ) استمر الجالس على اليسار ساكتاً ، ناظراً باستغراب للجالس بجواره ، أقبلت الحافلة ، فانتصب الرجل الجالس على اليسار واقفاً ، سائراً بحذر شيخ ليركب الحافلة التي غادرت المكان مخلفة كمية من الدخان ، وكان مكتوباً على جانبيها عبارة ( معهد الأمل للصم والبكم ) ، في تلك الأثناء وقف الرجل الجالس على اليمين ، بعد أن شعر بمغادرة الرجل الجالس قربه ، مرتدياً نظارة سوداء واسعة ، ثم غادر المكان وهو يجس الأرض بعصاه " .
للقاص والروائي الكبير محمد خضير كلمة قالها بحق هذه المجموعة القصصية أنها : " تمتاز بحدثها المدهش والجديد ، ما يقربها من أجود المجموعات القصصية العربية والعالمية ( مجموعة ساروت : انفعالات ، مثلاً ) لما أدركته من حافات المخيلة البيضاء والسوداء بالتناوب والجدل الخيالي الخصب بالبراهين والنهايات الذكية والمؤثرة " .
اترك تعليقك