سلاماً لعراقٍ ينبض بالانتفاض

سلاماً لعراقٍ ينبض بالانتفاض

د. نادية هناوي

على طول التاريخ وجسد العراق عنيد لا يبيت على الضيم، وكلما طالت عليه السنون ومضت العقود والحقب يظل في هذا الجسد المضام عرق ينبض بالحياة ناظراً للأمام أملاً وتفاؤلاً.

وبالرغم من نوازل الدهر فان هذا الجسد يبقى مقاوماً الألم والقهر بإرادة قوية رافضا الموت والاستسلام كالقلعة العنيدة التي لا تنحني أمام الكوارث والمحن. وآخر النوازل التي ضربت جسد العراق بشتى الأوبئة والطفيليات نازلة الإرهاب الداعشي التي تعدت بشرورها أية نازلة أخرى حتى لم تبق على عضو من أعضائه سالماً إلا وأرادت أن تنال منه.

ومع ذلك فإن الجسد العراقي صامد دوماً يتحمل الخسائر والويلات كاظماً على جراحه باليقين، ومتحملاً وزر الطائفية بالإيمان فلم تهزه الدسائس والمآسي من جسر الأئمة إلى سبايكر ومن جرف الصخر إلى نينوى كما لم تثنه الخيبات والانتكاسات التي سببتها المحاصصة السياسية المقيتة والانتخابات الزائفة والديمقراطية الهشة التي هي أُس الوجع وعنوانه. 

ولم يكن انتظار الفرج معجزة تأتي بها العاديات بل هو اطمئنان صميم بأن في هذا الجسد بعض عرق سليم ينبض، لم تسممه رياح الطائفية البغضاء ولا عقد الانتقام والحقد والثارات الصفراء والهوجاء. فظل ذلك العرق ينمو ويترعرع مبرأ من كل سوء، ناهضاً بالعنفوان ومحملاً بالأوج. وطبيعي لمثل هكذا عرق أصيل أن ينتفض عن بكرة أبيه واقفاً بشموخ معلناً انتفاضته على كل ما هو سيئ وفاسد وشرير.

هذا العرق هو شبيبة التحرير البواسل الذي لبوا نداء الجسد العراقي الجريح ليعيدوا له العافية وقد صحا صحوة ما بعدها غفلة، مؤكدين أن في العراق حياة تتدفق كالينابيع تريد الخير للجميع مقتصة من الفاسد غير آبهة لعديد شروره وغير متراجعة أمام جوره. 

بهذا العرق سيصحو العراق من كبوته متعافياً ليتدارك ما خسره في ظل سنوات عجاف مرّت عليه وهو يئن تحت ويلات الإرهاب وليتمكن من استرداد ثروات تبددت في جيوب أعداء الحياة. وعنوان هذه الصحوة العراقية ساحة التحرير ونصبها العتيد الحرية، وما بين التحرير والحرية حياة حرة تبغيها جموع نابضة بالرفض وهاتفة بالويل ومتسلحة باليقين تنادي العالم بعلو صوتها إن الشباب ثائرون على شرور الفاسدين المنتفعين الذين اعتاشوا على دماء العراقيين فصاروا متخمين بالمليارات، حتى فتتوا الوطن وتركوه جسداً جريحاً بعد أن أنعم عليهم بالخيرات فقابلوه بالجحود والنكران مستنزفين خيراته ظانين أنه لن ينهض؛ لكن هيهات لجسد العراق أن يموت وفيه عرق سيطيح بهم وبمن خطط لهم وساندهم وساهم معهم في الذهاب بالعراق إلى الذواء .

وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون وسيكون الزمن القادم ملك العراقيين وقد تعافى وطنهم عتيداً بأهله وعريقاً بتاريخه ومتدفقاً بشرايينه أنهاراً تمد بالعطاء والبذل والفداء ململماً مفاصله التي تبعثرت وخيراته التي نهبت ليعود حراً وقوياً تنبض عروقه انتفاضاً بوتيرة أولئك الأجداد الذين ما ساوموا على حق ولا هادنوا باطلاً ولا نكصوا أمام ملمة.

ومن أول تشرين الأول ونحن نشهد علامات التعافي تغمر هذا الجسد بدءاً من ساحة التحرير وانتهاء بآخر ساحة من ساحات العز العراقي. وها هو الجسد الفقير يتعافى كي يقض مضجع المتجبرين معلناً أن أوان استرداد الحقوق السليبة قد حان وأن الدوائر ستدور على كل من بغى فلم يرع في العراق إلا ولا ذمة، وكل من تكبر فأذاق الشعب المرارة خيانة وعمالة.

عراق اليوم لم يعد عراق الأمس فلا دجل سينطلي عليه ولا أكاذيب ستخمد غضبه ولا ادعاءات بالنزاهة والوطنية ستمر عليه. إنه الآن يعي بوعي صميم أن الذين ساسوه قد استباحوه ومن نابوا عنه قد خانوه. وها هو العراق يستيقظ من غفوة أرادها له المتاجرون بالدماء أن تدوم ولكن هيهات وفيه عروق تنبض فتوة وشباباً لم توهنها العاديات ولم تفتّ في عضدها النوائب والأزمات. بهذه العروق سينهض عراق القرن الحادي والعشرين متعافياً صاحياً وقد مسك بمستقبله أبناؤه الحقيقيون. 

والمأمول لهذه العروق المنتفضة أن تظل تمد الجسد العراقي بالقوة مستمرة ومديمة له العافية فلا تتوانى بل تظل صلبة ثابتة على الحق مواجهة الشر بإباء وشموخ، وإلا ستضيع فرصة التعافي سدى لا سمح الله فيهلك الجسد من جديد فنعود إلى المربع الأول الذي منه صودرت ثرواتنا باسم الحفاظ عليها وتفرقت وحدتنا بحجة معادلة ديمقراطيتها، فاستبيحت حرماتنا وتراجعت حياتنا. 

ما نريده للعرق التشريني المنتفض هو أن يظل نسغه حياً متيقظاً للغد الذي ينتظره متأهباً لكل مارق دجال، مصراً على الحياة فلقد بانت مخططات ذوي الوجوه الكالحة المنتفعين المزيفين بالنسك والمدعين الورع. 

عليك أيها العرق العراقي النجيب أن تصبر حتى تنتصر لسنواتك التي أخذها منك من لم يستحقها. وانتفاضتك مشروعة لا هي متحزبة ولا موالية. إنها منك واليك فلتكن حريصاً عليها صابراً على أمدها من خلال نبضك الدفاق بالخير وبنسغك العالي الذي يعانق السماء فلا يرهبه الوعيد ولا ينال منه الونى، وأن يستمر مسيرك التحرري مسالماً وسلمياً حتى تتحقق أهداف شعبنا الذي سيكون هو الحاكم ولا حاكم غيره.

هكذا باستمرار العزم الجماعي الموحد وبالصمود الذي ليس فيه تنازل أو رضوخ ستنجلي المحنة وسيندحر الدجالون وتطميناتهم الكاذبة والمتآمرة. فالانتفاضة ولدت لكي تعيش وتدوم خارجة بالعراق من نفقه المسدود الذي وضعه فيه مدّعو السياسة وتجار الحروب حتى شيعوه بالهزيمة والخيبة. وما هو أكيد اليوم أن العراق سيغادر هذا النفق بعروقه الطليعية التي ستنفض عنه تراكمات عقود مضت كان أمره فيها مصادراً وفمه مكمماً وإنسانيته مستباحة، وسيكون عراقنا على طريق جديد هو طريق الحرية والنماء.

وما نتطلع إليه هو أن نستمر وقد اثبتت العروق التشرينية أنها الطليعة الفتية القادرة على التغيير بعقيدة واحدة لا مساومة عليها ولا تنازل عن أهدافها وبطاقة جبارة ستهشم ما أسسه الغادرون وتفتته. وجل ما نخشاه أن ينتهز المنتهزون نتائجها ويصادروا تضحيات المجموع لمنفعة الأفراد. فلقد أنفنا الخداع والمكيدة بعد أن ركلنا التعصب والطائفية والمحاصصة والمحسوبية وكرهنا التحزب والوصولية والولاءات النفعية، طالبين الحياة الحرة الكريمة التي فيها جماع قيم الحياة أخلاقاً وجمالاً وثقافة وعلماً واقتصاداً وسياسة. 

بالعروق النابضة سنكون الأبناء البررة الذين طفح بهم الكيل وبان لهم الزيف مشمرين عن سواعد تحمل العراق في الأعناق وهي تشرئب مرفوعة هادرة أن لا كرامة إلا بولادة عراق جديد متعاف للأبد من الدنس والألم.

ومن مسرات هذه الأيام الخوالد التي نعيشها أننا نجد في عراقنا كل يوم عرقاً يافعاً يتفتح كالبراعم الزاهية معلناً عن عهد جديد يدوي بصوت واحد: سلاماً أيها العراق، فأنت الانتفاض. 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top