زهير الجزائري
أمس كان يوم الشهداء، وهو اليوم العاشر من المظاهرات في ساحة التحرير. صفوف من شموع زرعت في أرض الساحة على شكل مستطيلات حولها شبان صامتون.
واحد منهم يبكي دون صوت“ فقدت صديقي …“ الرقص ممنوع. التحريم لم يكن دينياً ولا باسم الشريعة، إنما احتراماً للشهداء. لقد تغيرت المقاييس في الساحة، ومعها تغير المقدس، صار يرتبط بالشهداء. الجو الثوري المبعثر في الساحة فرض نفسه على الطقس، فحكاية الإمام الحسين التي قدمها الطقس الشيعي التقليدي كحكاية للتفجع والبكاء، قدمت بميكرفون الساحة بعد صلاة سريعة كحكاية ثورة على الظلم والظالمين.
تعاون
روح التعاون في الساحة في أعلى تجلياتها. كل واحد يريد أن يقوم بعمل ما. البطالة الطويلة والطاقة المحبوسة تريد أن تفعل وسط مهرجان من الأفعال. أمشي على الأرض التي يمشي عليها الكل، أقلص جسدي ليشغل أصغر حيز كي أمُر وسط الحشد. هناك من يرشدني لطريق أقصر بحيث أدخل ثلاثة (تكاتك) لأعبر للجهة الأخرى. رفعت رأسي فرأيت برجاً من شباب يصعد من الساحة حتى الطابق الأخير من المطعم التركي. شبان لم أتعرف عليهم، كنت أتحاشاهم، وأخطأت بحقهم، يحاذونني في مسيري أو يقطعون طريقي، شبان وقفوا فوقي ينظرون لهذا الكهل المتعثر الخطوات الحائر وسط دنياهم: ماذا يفعل هنا؟ للحظة واحدة رفعت رأسي وفكرت بأن أكون شاباً مثلهم، للحظة فقط، فوجدت ثلاثة أيدي ممدودة لي. قدمت يدي فتلاقفوني بينما كانت يدان ترفعاني من تحت. خلال هذه اللحظة حصلت على ثلاثة ألقاب (حجي وعمي وأستاذ).
أفعال
هدأ الغضب في اليوم العاشر وبدأ الفعل. كل واحد يريد أن يقوم بفعل ما. شابة تكنس من بين أقدامنا. كانت غاضية من إهمالنا، تقلد أمها حين تكنس البيت. أمامها رجل وابنه جمعا الأزبال وحملاهها خارج الساحة. يتراجع الشبان ليفتحوا طريقاً كي يمروا مع حمل من أكياس سود. كل فعل له قدسيته هنا ومنها الصلاة. لمة من المعممين جلسوا في مربع حجز لهم تحت سماء تخطها الألعاب النارية. تحتي داخل النفق شاب لا يلتفت للمستغربين حوله. يصبغ جوف النفق الجهم باللون الأبيض: يالطولة باله ! كم من الأيام والساعات سيقضيها حتى يصل النهاية الأخرى من النفق. عمل لم تفكر به الحكومات ولم يخطر ببالها. خلفه شبان أكثر جدية يضعون الفرشاة : لمسة على الجدار وخطوتين للخلف.. يكتبون يومياتهم لوحات داخل النفق. أردت أن أقول لهم: ليس هذا مكان للفرجة! ثم تأكدت أنهم لن يبالوا بنصيحتي. هذه ساحتهم .. هنا الوردة، فلنلعب هنا!
الحكاية والصورة
في شبابي كنت أمر في هذه الساحة أتياً من بارات (أبي نواس). في هذه النقطة بالتحديد يقفز أمامي دائماً مصور الساحة فيشتعل الفلاش بوجهي مثل فضيحة. أختفى ذلك المصور. هنا كل يصور نفسه أو يصور صديقاً يريد أن يوثق وجوده في هذه اللحظات التاريخية: كنت هناك!الصورة ستعطي حكايته مصداقية الشاهد. ابن أخي الذي امتهن الساحة يجرني من مكاني ليريني حكاية أخرى قبل أن تكتمل الحكاية الحالية. في جوف الخيمة التي دخلناها أم وأولادها كوّنوا فريقاً يطبخ ويوزع "السندويشات" على الحشد بصبر عجيب.
أكثر من موقع للإسعاف والطبابة.أردت أن أسأل عن الحالات التي استقبلوها. الطبيب الخفر مشغول بعلاج شاب متعب من ثلاثة أيام سهر متتاليةـ تقدم أحد مساعديه ( إبراهيم ) ليخبرني: لم تكن لدينا حالة تسمم اليوم والبارحة، لكن أول البارحة كان يوماً عصيباً…
تقاليد المواكب
تدوخ وأنت وسط الساحة من كثرة الأفعال حولك، مع ذاك لا تتقاطع كأن منظماً سماوياً يدير أفعال هذا الحشد ببراعة من يعرف نية كل واحد منهم. العراقيون الذين يشكو الحاكمون من أنهم الأكثر عصياناً للنظام أثبتوا في هذه الساحة أنهم الآكثر تنظيماً لأن النظام جاء من رغبتهم الخاصة. تقاليد المواكب الحسينية انتقلت للساحة بنصب الخيم وتنظيم أماكن النوم وتوفير وجبات طعام مجانية وأوقات توزيع الشاي وأماكن الحلاقة ومكتبة مفروشة على الأرض لمحبي القراءة. كل واحد سيجد المتعة والثواب في خدمة الآخر.
خفة الدم
لم أجد الـ(أمة البكائين)، عكس ما كتبه صديقي الروائي (علي بدر)، بل رأيت المرح وخفة الدم في مشهد الساحة. عوائل بكاملها خرجت مع أفرشتها للساحة كأنها تحضر مهرجاناً للمتعة. مشهدية متنوعة ومتقاطعة. ترفع رأسك للأعلى فترى مهرجاناً من الألعاب النارية وخطوط لليزر تتقاطع .
اترك تعليقك