توجهت إلى الرواية بروح الشاعر الذي بداخلي.. برهان شاوي: المنفى منحني الحرية والاستقرار وأفق الأسئلة

توجهت إلى الرواية بروح الشاعر الذي بداخلي.. برهان شاوي: المنفى منحني الحرية والاستقرار وأفق الأسئلة

حاوره : عامر القيسي

ابتدأ بالشعر بأناشيد " التجربة السومرية " وحط جناحيه على شجرة " المتاهات التسع الروائية من "آدم" الى "العدم العظيم" وهي أطول رواية عربية ،

فهو يقول أنا روائي بروح شاعر، متوغلاً عبر دروب المسرح والسينما والإعلام والسياسة أيضاً. برهان شاوي العائش بعزلته التي منحته الحرية الاستقرار والاسئلة كما يقول ، قدم للوسط الأدبي روايات أثارت الكثير من الجدل باقتحامها أسوار التابوهات العربية في الجنس والمقدس والسياسة في متاهات قال عنها ، هي مشروعي ومرحلة تحولي الاكبر .

تفوح من رواياته رائحة السينما التي اختص بها فاخرج وكتب السيناريو ودرّس فن كتابته، وعوالم المسرح ومشهدياته فقد خاض في عالم برتولد برخت وشكسبير قبل عالم الرواية . 

استقر به المقام في ألمانيا كمنفى أخير في عزلة لاتشبه "ليس لدى الجنرال من يكاتبه" لماركيز ، من هناك ربما ستنطلق سلسلة متاهات جديدة تحت عنوان " فندق باب السماء " وحتى ذلك الحين خضنا معه في عوالم الرواية والأدب والسياسة والفكر . متشائم من الحاضر والمستقبل لكنه مع ذلك يبحث عن فندقه في السماء . 

 بدأت رحلتك مع عالم الإبداع بالشعر والسينما والإعلام والمسرح والترجمة والنشاط الاكاديمي ، ثم استقر مركبك على شاطىء الرواية الذي قدمت فيه أعمالاً مهمة ومثيرة للجدل ..هذا التحول هو للبحث عن مساحة أفضل للقول أم وجدتُ في عالم الرواية عالماً ديناميكياً وجدلياً للتعبير الأدبي الإبداعي أم قناعتك بأن الزمن هو زمن الرواية كما يقول الكثير من النقاد ؟

- نعم..كنت مكرساً كشاعر بعد إصدار سبع مجموعات شعرية وترجمة أربع مجموعات عن اللغة الروسية. قضيت في كتابة الشعر أكثر من أربعين عاماً، ثم توجهت إلى الرواية بعد الخمسين من العمر، لكني توجهت إليها بروح الشاعر الذي في داخلي. والحقيقة أنا لا أتفق مع من يرى إن الشاعر الذي يتوجه للرواية هو شاعر فاشل يغطي على فشله الشعري بالكتابة الروائية، فهذا جهل كبير بتأريخ الرواية وبتاريخ الشعر أيضاً. وقد كتبتُ مقالًاً توضيحياً عن ذلك قبل سنوات..لكن لقرّاء هذا الحوار أقول: "بوشكين" ، المؤسس الأعظم للشعر الروسي هو مؤسس الرواية الروسية أيضاً، وكذا "ليرمنتوف" الذي شعره يصدر في مجلدات عديدة هو صاحب الرواية الخالدة " بطل زماننا" التي يُعرف بها أكثر من شعره..! وكذا "فيكتور هيغو" صاحب روايات: البؤساء، أحدب نوتردام، وعمال البحر، هو أحد أعمدة الشعر الفرنسي، ومعاصرونا أمثال "كونديرا" التي كان قبل توجهه للرواية قد أصدر ثلاث مجموعات شعرية تعتبر تجريبية ومجددة في الشعر التشيكي. والأمر يسري على بول أوستر الذي نال أعلى الجوائز كشاعر قبل أن يكون روائياً، وقبلهما لورنس الرائع الآن تصدر قصائده في مجلدات تأخذ مكانتها كما رواياته. وأستطيع أن أحصر لك عشرات الأمثلة في كل آداب العالم وبكل اللغات عن توجه الشعراء للرواية، سواء في الرواية اليابانية أو الايطالية أو الفرنسية، بل وحتى العربية. لكن عودة على السؤال: أنا أجد الرواية خطاباً حضارياً تاريخياً فلسفياً أرحب من القصيدة..وأنا أختلف مع مقولة النفري العظيم: " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، فأنا أرى إنه كلما اتسعت الرؤية تفجرت اللغة وفاض الكلام.

 أصدرت تسع متاهات ابتدأت بمتاهة آدم وانتهت بمتاهة العدم العظيم ، هل هي رواية واحدة تبحث في قضايا المتاهات الوجودية الانسانية؟..ولماذا التوقف عند المتاهة التاسعة ؟..هل للرقم مدلولات في إطار العمل اجمالاً ، خصوصاً وانك حددت نهاية السلسلة بالرقم تسعة قبل انجاز متاهة العدم العظيم؟

- نعم سؤال دقيق.."المتاهات" هي رواية واحدة متسلسلة، وأظن أنها أطول رواية كُتبت بالعربية إلى الآن، حتى أطول من "ألف ليلة وليلة". ومنذ المتاهة الخامسة " متاهة إبليس" اتضح لي مشروعي الروائي، وكنت حينها جالساً في مقهى بفلورنسا قرب بيت دانتي أليغيري. "المتاهات" هو تناص معكوس مع "الجحيم" لدانتي أليغيري ذي الطبقات التسع، فهو على خلاف الأديان كلها " جحيمه " يتألف من تسع طبقات، وفي قاع الجحيم نرى لوتسوفيري، وهو أحد تجليات إبليس، بينما لديّ التناص معكوس فأنا أصعد من آدم وصولًا إلى العدم العظيم الذي هو استعارة القدير في الأديان. المتاهات مشروعي الروائي. وربما سأدخل مشاريع أخرى. لا أعرف.

 متاهات بُرهان شاوي اقتحمت أسوار تابوهات المجتمعات العربية وأنظمتها ، الجنس السياسة الدين ،وأثارت جدلاً في الأوساط الادبية وغيرها ، في إطار الفلسفة والأساطير وعلم النفس راصدة تاريخ العنف السياسي والاجتماعي والجنسي في العراق منذ بداية السبعينيات ، لماذا لجأت الى التاريخ في اقتحامك هذا ؟ 

- الرواية هي تاريخ حضاري، خطاب تاريخي، اجتماعي، نفسي، فكري، للحظة التاريخية المحددة في الزمان والمكان الذي انتجت فيها. ولأني من جيل السبعينيات إبداعياً، لذا ذاكرتي مكتظة بأحداث الحياة في السبعينيات وما تلاها، وهي بداية دخولي معترك السياسة والكتابة. ناهيك إنني حاولت أن أكتب عن المسكوت عنه، من خلال الأفراد، وليس من خلال تاريخ الجموع. من خلال رؤيتي الوجودية والمابعد فرودية.

 كان واضحاً تأثير ثقافتك السينمائية في نصوص المتاهات ، هل كان هذا متعمداً أم جاء استجابة لامكانات تعبيرية مزاوجاً بين السرد الروائي ومشهده السينمائي ؟

- أنا أعلنت لأكثر من مرة عن اعتمادي على جماليات اللغة السينمائية في رواياتي، أولا لأنني درست السينما أكاديمياً ولدي شهادة عليا فيها، وثانياً لأنني لا أميل إلى الروايات التي تميل للشطح الشعري والاستطراد اللغوي والسردي ولا تتابع الحدث الروائي. 

اللغة السينمائية محددة ودقيقة، وهي تجعل السرد الروائي صورياً مرئياً، بحيث إننا نرى الرواية كفيلم ولا ننجر وراء شطحها اللغوي. السينما تمنح الروائي قدرات هائلة في تنويع السرد، خذ مثلاً ماركيز ، فولكنر، تشاينبك، فيتزجرالد، بول أوستر بازوليني دوس باسوس وغيرهم، كلهم عملوا في السينما من خلال كتابة السيناريو وبرز ذلك جلياً في رواياتهم.

 قلت "رواياتي لا تقتصر على الهم العراقي فقط" على الرغم من أن كل معالجاتها عراقية ، هل هذا ينطبق على مقولة المحلي هو عالمي بشكل ما ، ام تقصد أن المشكلات الإنسانية وأزماتها ووجوديتها واحدة باختلاف الزمكان ؟

- نعم..المشاكل الوجودية البشرية واحدة. أنا أنطلق من العراق لكني أتوه في الآفاق والجغرافيا كما هو قدر العراقيين. في المتاهات تتنوع الجغرافيا. بغداد، دمشق، بيروت، الأردن، ألمانيا، بريطانيا، النمسا، فرنسا، إيطاليا، المغرب، الجزائر، لذا فأن الشخصيات ليست عراقية فقط، فهناك شخصيات عربية وأوروبية. إلى جانب رؤيتي بأن المشاكل الوجودية هي واحدة في كل زمان ومكان، منذ ظهور البشر على هذا الكوكب.

 في متاهاتك أكثر 304 شخصيات، من 119 حواء و185 آدم تتداخل اسماءهم وسردياتهم على مدار السلسة ، وهذا خوض في نوع جديد من السرد الروائي ، ما مدلولات تكرار الحواءات والأوادم ؟

- صحيح..التركيز على تسمية " آدم" و" حواء" وتكرارها هو ما يميز"المتاهات" كتجربة سردية روائية خاصة، فوراء اسم "آدم" و"حواء" تعميم للتجربة البشرية، وتجاوز للجغرافيا والتاريخ والقوميات والطوائف. "آدم"هو تجسيد للرجال منذ فجر الخليقة و"حواء" كذلك، وطبعا إذا كانت أوربية فنجد اسم "إيفا" وهو الاسم التوراتي لحواء. 

هذا الحشد من الاسماء المتشابهة ينسجم مع مفهوم ودلالة " المتاهة"، فالقارئ يحس نفسه في "متاهة الاسماء" أيضاً.

 اشتغلت في رواياتك على تفكيك ميكانزم في فترة حكم البعث، ثم الاحتلال الأميركي وما تبعه من صراع طائفي، أو سياسي اتخذ طابعاً طائفياً . هل رصدت وفككت ذلك وأنت من داخل الدائرة ، أقصد كنت في داخل العراق أم في المنفى خصوصاً وانك غادرت العراق عام 1978 على ما اعتقد؟

- كنت في عمق المعمعة. لقد تناولت تاريخ العراق خلال الأربعين سنة الأخيرة، منذ السبيعنيات وحتى ما بعد الاحتلال الأميركي لغاية 2011 تقريبا. السبعينيات أعرفها جيداً جداً لأنها انتهت باعتقالي وتعذيبي وخروجي من العراق مشياً على الأقدام إلى سوريا ومنها إلى بيروت، وأوروبا.

تناولت فترة السبعينيات والثمانينيات والحصار، والاحتلال، والحرب الأهلية الطائفية. لقد غادرت العراق العام 1978 وعدت إليه أواخر العام ، فعملت في مؤسساته الإعلامية،2005 وغادرته 2011. حاولت في رواياتي تفكيك دوافع العنف، لكن من خلال رؤيتي التاريخية وما بعد الفرويدية. اعتدمت على تجاربي وتجارب عشرات الشخصيات، وأيضاً مما تراكم لدي من خلال عملي في مرافق الإعلام خلال سنوات تواجدي في العراق، فهي ليست فنتازيا رجل يعيش في المنفى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top