الإحتجاجات العراقية.. حركة إجتماعية جديدة تتحدّى السلطة الطائفية

الإحتجاجات العراقية.. حركة إجتماعية جديدة تتحدّى السلطة الطائفية

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

تعكس الحركة الشعبية مواجهة متنامية بين لغة "الطوائف" القديمة وبين لغة جديدة مؤسّسة على المواطنة والعدالة الإجتماعية

كُتِب - وسيُكتب - الكثير عن المشهديات الدرامية المتفجّرة التي زخرت بها الإنتفاضة العراقية الراهنة - تلك الإنتفاضة التي أعادت إحياء قيم المواطنة العراقية فضلاً عن الخصال العراقية الحضارية الراقية التي أصابها بعض الإندثار بسبب العمل المشيطن الخبيث الذي عملت عليه الأحزاب السياسية الطائفية الحاكمة منذ 2003 وبخاصة الأحزاب الإسلاموية التي سعت بطريقة شديدة المكر والخبث إلى إزاحة المواطنة العراقية واستبدالها بقيم (الرثاثة السياسية) الهجينة التي تتماهى مع أبجديات الأسلمة السياسية المعروفة المؤسّسة على الطائفية المذهبية المسيّسة والتي يُراد لها أن تكون عابرة للقيم الوطنية باتباع مزيج من أساليب القسر السياسي والتمكين المالي وبخاصة بعد أن تمكّن أقطاب هذا التوجّه من الإمساك بعنق الدولة العراقية والتحكّم بسياسة التوظيف وتوجيه الموارد المالية الضخمة للبلد.

أظنّ، ونحن في هذا الطور المتقدّم من الإنتفاضة العراقية التي أضحت بمثابة القيامة العراقية المنتظرة، أنّ قراءة أكاديمية هادئة لجوانب محدّدة من الحدث العراقي باتت ضرورة مستوجبة، وأرى أنّ إطلاع القارئ العراقي والعربي على ترجمات منتخبة للدكتور (حارث حسن) يمثل مساهمة ممتازة في هذا المسعى.

يعمل الدكتور (حارث حسن) في الوقت الحاضر زميلاً أقدم غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط CARNEGIE MIDDLE EAST CENTER ، وتتركز بحوثه في ميادين: العراق ، الطائفية، سياسات الهوية، الفاعلون الدينيون، وعلاقات الدولة/ المجتمع . 

المقالة أعلاه منشورة في الدورية الصادرة عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط بتأريخ 4 نوفمبر (تشرين ثاني) 2019 . 

المترجمة

تتمركز الموجة الراهنة من الإحتجاجات العراقية جغرافياً في المناطق الشيعية ، ولم تمتدّ أية صورة مؤثرة لها حتى اليوم إلى المناطق السنّية أو الكردية ؛ غير أنّ هذه الحقيقة لاتعني أنّ هذه الإحتجاجات هي ثورة شيعية فحسب ، وكلّ محاولة لفرض تأطير طائفي عليها سينتهي إلى الفشل في فهم المحرّكات الدافعة لها . لم تشغل الرموز الشيعية مكانة مركزية بين شعارات المحتجين ، كما أنّ شخوص القادة الدينيين الشيعة كانت إما غائبة عن المشهد أو تمّ تهميشها في تشكيل ماستؤول إليه الإحتجاجات . 

إذا كانت لهذه الإحتجاجات ثمة مأثرة فهي أنها مثّلت تحدّياً لصيغة الحكم الطائفية - تلك الصيغة التي اختزلت العراقيين إلى هوياتهم الإثنية والدينية ، وعمل الفرقاء السياسيون من جانبهم على تغذية تلك الهويات ومدّها بأسباب التمكين والقدرة بجعلها تتموضع عميقاً في صُلْب سياساتهم المعلنة .

المطالب الإجتماعية - الاقتصادية

تغذّى الحراك الجماهيري في بغداد أول الأمر بدفعٍ من المطالب الإجتماعية - الإقتصادية ؛ إذ أنّ التظاهرات المبكرة ضمّت حشوداً من العاطلين عن العمل أو العاملين بصيغة عمالة جزئية أو ناقصة من الفتية اليافعين الذين يقطنون أطراف بغداد الشرقية التي يُعرفُ عنها إكتظاظها بالسكّان الشيعة . تسبّبت المطاولة التي أبدتها تلك الحركة الجماهيرية من جهة ، والعنف الهائل وغير المسوّغ الذي جوبهت به من جهة أخرى في جذب قطاعات إجتماعية أخرى إليها - بمن فيهم الطلبة وجماعات المجتمع المدني - الذين إنضمّوا إلى الموجة الثانية من الأحتجاجات التي إنطلقت أواخر الشهر الماضي ( تشرين أول " أكتوبر " ) . تنامت الحركة الإحتجاجية بعد أن إلتحقت بها جموعٌ جديدة من الناس الذين كان بينهم الكثير من ذوي الخلفيات المنتمية للطبقة الوسطى ، وقد سعى هؤلاء جميعاً لخلق مايمثّلُ نوعاً من الإجماع الإجتماعي على رفض طبقة النخبة السياسية الحاكمة وطلب تغيير راديكالي منهجي شامل ( في كامل المنظومة السياسية ) . غدا هذا الحراك الشعبي هو الحركة الإحتجاجية الأعظم في تأريخ العراق الحديث ، وقد أنتج هذا الحراك رموزاً جديدة غير طائفية ، وشهداء جدُداً ، ولغة إحتجاجية جديدة .

لم تواجه الفصائل الشيعية المهيمنة مثل هذا التحدّي منذ أن جاءت إلى السلطة بعد عام 2003 ، وعلى خلاف الإحتجاجات السنّية التي إمتدّت عامَيْ 2012 - 2013 والتي كان يمكن بسهولة فائقة توصيفها بصبغة معارضة طائفية ، فإنّ هذه الموجة الإحتجاجية الجديدة تنبثق من قلب المجتمع الشيعي الذي تدّعي هذه الفصائل أنها الممثّلة الأمينة له .

إستهدفت الحملة الحكومية المناوئة للإحتجاجات التي إنطلقت مطلع أكتوبر الماضي المنطقة المحاذية لشرق القناة ( وهي مجموعة من المحلات القائمة في الطرف الشرقي الأقصى من بغداد العاصمة ) ، فضلاً عن مدينة الصدر التي إنهمر منها طوفان بشري من المحتجّين . يشبه الأمر كثيراً مع ماحصل من قبلُ مع الجهاز الأمني لحكومة صدام حسين - ذلك الجهاز الذي هيمن عليه السُنّة العرب والذي وجّه فعالياته المضادة للشغب في العاصمة بغداد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وقد ظلّت مدينة الصدر (التي يقطنها خليط متعاظم من سكّانٍ أغلبُهُم من الشباب مدقعي الفاقة) ولعقود عديدة ، مصدراً للحراك المناوئ للحكومة .

تحدّي " الشيعية " السياسية 

غدت الشيعية Shiism السياسية خلال الفترة الموصوفة أعلاه ، وبخاصة بعد إنكفاء الحزب الشيوعي العراقي ، هي الآيديولوجيا الأساسية التي عبّرت هذه المناطق من خلالها عن إحتجاجها على التهميش واسع النطاق ، وقد تمثلت هذه الشيعية السياسية في حركة ( محمّد صادق الصدر ) في تسعينيات القرن الماضي . صارت هذه المناطق ذاتها في أيامنا هذه ، ولمرة أخرى ، معقلاً للحراك المناهض للحكومة ، وراح المحتجّون يتحدّون إدّعاء الفصائل الشيعية " الإسلاموية " الحاكمة بأنها الممثلة الحقيقية للجماعات السكانية الشيعية .

يعيد هذا الحراك الشعبي في واقع الحال تشكيل الحدود داخل الجماعة الشيعية - تلك الحدود المُعرّفة بواسطة الهويات الإجتماعية - الإقتصادية والطبقية ، وقد كان في مقدور هذا الحراك أن يتجاوز التقسيمات الطائفية ويطوّر أنماطاً من أشكال التضامن المجتمعي العابر للحدود الطائفية ، وهو إذ يفعل هذا فقد وضع صيغة المحاصصة الطائفية التي هيمنت على النظام السياسي بعد عام 2003 موضع المساءلة الصارمة . ولّد هذا الحراك الشعبي لغة إحتجاجية جديدة موجّهة بالضد من الفصائل المهيمنة وآيديولوجيتها الحاكمة : الشيعية السياسية . 

ساهمت نهاية التهديد الذي مثّلته الدولة الإسلامية في تعجيل إزاحة السياسة الطائفية نحو نمطٍ من السياسة تشكّله التفاوتات الإجتماعية - الإقتصادية والمطالب المتعاظمة لحوكمةٍ* أفضل ، ونالت هذه السياسة الجديدة جرعة من التحفيز بفعل تناقص أسعار النفط الذي قلّل - وإلى حد كبير - العوائد الناجمة عن المداخيل النفطية والتي يعوّلُ عليها في تقليل حجم البطالة المتفشية . 

يزداد الحجم السكاني العراقي بما يقرب من المليون نسمة كلّ عام ، وثمة مايقربُ من نصف مليون من السكان يدخلون سوق العمل سنوياً . يعمل الفساد المتفشّي للحكومة إلى جانب السلوك المالي المتغوّل للفصائل الحاكمة ( التي حوّلت المؤسسات الحكومية إلى إقطاعيات لشبكة محاسيبهم ) على كبح توزيع أكثر عدالة للريع النفطي الذي يمثل المدخول المالي الأوحد للعراق لكونه يشكّل 93% من مجمل الميزانية الحكومية .

تحدّيات منهجية

الفساد في العراق ليس - ببساطة - محض موضوعة تختصّ بالجشع الفردي والتردّي الأخلاقي ؛ بل قد إستحال جزءاً متكاملاً في المنظومة السياسية العراقية ؛ لذا عندما يحتجّ الناس بالضد من الفساد والفقر وفقدان العدالة فإنّهم إنما يناهضون - بالضرورة - المنظومة ذاتها التي عمّقت هذه المعضلات وزادتها إستفحالاً في المجتمع العراقي . لكن برغم ذلك فإنّ هذه المواجهة الحالية تشي بأنّ أي تغيير جدّي وحقيقي سيكون أمراً تكتنفه مشقة عظمى ، ومَرَدّ هذه المشقة يعود - جزئياً - إلى أنّ الجموع الشعبية قد فقدت أيمانها بالوعود الحكومية ، ويرجع الأمر أيضاً إلى كون السلطة في العراق ليست ممركزة في موضع واحد بذاته فحسب بل تتوزّع على مراكز عدّة ؛ الأمر الذي يعجز الحكومة ويجعلها غير قادرة على التصرّف بطريقة متماسكة وموجّهة باتجاه أهداف محددة . إنّ هذه الحقيقة هي بعض مخرجات كلّ من صيغة الحكم الإثنية - الطائفية التي وزّعت السلطة والموارد بين ثلّة من الفاعلين السياسيين من جهة ، وضعف المؤسسات الحكومية التي مكّنت هؤلاء الفاعلين السياسيين ( على شاكلة الميليشيات والجماعات العسكرية غير الخاضعة لسيطرة الدولة ) من مناكفة سلطة الدولة على مستويات عدّة من غير أي إكتراث أو مساءلة قانونية من جهة أخرى ، وبالطبع فإنّ أهمّ التحدّيات التي تواجهها الدولة في هذا المشهد هو تحدّي حقيقة كونها المحتكر القانوني الوحيد لوسائل إستخدام العنف المحكوم بقانون . 

على هذا الأساس ، وبالإستناد إلى الحقائق التي تقدّم ذكرها ، سيكون أمراً بالغ المشقّة إذا ماشُرِع في البدء بأية إصلاحات جدية من شأنها أن تمثّل تهديداً لواحد أو أكثر من مراكز القوى السلطوية : الميليشيات المدعومة من إيران ، أو الحكومة الكردية ، أو جماعة مقتدى الصدر ، وإذا ماوضعنا في حسباننا أنّ سلطة هذه الجماعات متجذّرة عميقاً في المنظومة السياسية التي يدعو المحتجون إلى مناوأتها والإطاحة بها فسيكون واضحاً لنا بأنّ هذه الجماعات لن تكون قادرة على فعل شيء باستثناء القبول ببعض التغييرات " التجميلية " في النظام مثل سلسلة حُزَم الإصلاحات الإقتصادية التي دعا إليها رئيس الوزراء ( عادل عبد المهدي ) في المقام الأول وقبل كل شيء آخر سواها ( وبما لايمسّ طبيعة المنظومة السياسية الحاكمة ) .

إحساسٌ جديد بالإنتماء

يدركُ معظم المحتجين أنّ الاوليغاركية** المهيمنة متعدّدة الطوائف ، التي توزّع المغانم بين قادتها الرئيسيين ، هي ، في الحقيقة ، الطرف " الآخر " الذي يناهض كلّ المطالب الشعبية ، وقد عمل هذا الإدراك على تعزيز الهوية غير الطائفية للحركة الإحتجاجية ، ويمكن لهذا الإدراك الجديد أن يطوّر أشكالاً مستحدثة من أنماط التضامن بين القطاعات الشعبية التي لم تتلوث بأدران الطائفية السائدة .

حتى لو خسرت هذه التظاهرات الإحتجاجية زخمها في الأيام القادمة فإنّ المعضلات البنيوية التي أنتجت هذه التظاهرات ستظلّ باقية لاتحيد ، وثمة كتلة متنامية من الناس الناقمين الذين تغذيهم مرارة الإدراك بالتهميش ، وفي الوقت ذاته يشدّ عزائمهم إحساس جديد بالإنتماء ، وسيمضي المنتمون لهذه الكتلة المتنامية في تحدّي الأوليغاركية الحاكمة حتى لو تطلّب الأمر - ربما - اللجوء إلى طرق أكثر تطرّفاً . 

ليس ثمة أمام المنظومة السياسية الحاكمة بعد عام 2003 من وسيلة للبقاء سوى وسيلة وحيدة فحسب على المدى البعيد ، وهذه الوسيلة هي التعديل الجوهري لطبيعة المنظومة السياسية ، والقبول بنهاية صيغة الحكم الإثنية - الطائفية ، وتغيير قواعد اللعبة الحاكمة . ليس مُقدّراً لهذه التغييرات أن تحصل من غير تعاظم زخم الحركة الإحتجاجية ؛ إذ أنّ إحساساً طاغياً بالخطر المتفاقم هو وحده مايمكن أن يدفع الأوليغاركية الحاكمة إلى الرضوخ للإقدام على تنازلات حقيقية . 

إنّ هذه الحركة الإحتجاجية الشعبية هي - بطريقة ما - مواجهة وتفاوض بين لغة " الطوائف " القديمة ولغة جديدة مؤسّسة على المواطنة والعدالة الإجتماعية . 

____________

* الحوكمة Governance : أحد أكثر المفردات شيوعاً في أدبيات التنمية السياسية والإقتصادية العالمية . تعني الحوكمة مجموعة من القواعد والقوانين والمعايير والإجراءات التي تجري بموجبها إدارة المؤسسات ، والرقابة الفاعلة عليها ، ويقع على عاتقها مسؤولية تنظيم العلاقة بين الأطراف الفاعلة في المؤسسة وبين أصحاب المصالح. (المترجمة)

** الأوليغاركية Oligarchy ( حكم الأقلية ) : شكل من أشكال الحكم تكون فيه السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تحتكر المال أو النسب أو السلطة العسكرية . غالباً ما تكون الأنظمة والدول الأوليغاركية مسيطراً عليها من قبل عائلات نافذة معدودة تورث النفوذ والسلطة من جيل لآخر. (المترجمة)

HARITH 

• NOVEMBER 04, 2019

• MIDDLE EAST EYEIs Challenging Sectarian Power

HARITH HASAN

• NOVEMBER 04, 2019

• MIDDLE EAST EYE

كتابة : حارث حسن

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top