موج يوسف
طالما شكلّت قضية الإلحاد سجالات كثيرة في مؤلفات الفلاسفة العظماء ، وظلت هذه القضية مطروحة على منصات الفكر والفلسفة ولم تحسم بعد إلى أن جاء كتاب (الثقافة وموت الإله )
للمفكر تيري ايغلتن الصادر عن دار المدى ـــ بغداد ترجمة أسامة منزلجي ليأخذنا في رحلة مليئة بالمعارك الفكرية في أوروبا منذ طلوع التنوير إلى وصول الحداثة وما بعدها ،
ايغلتن في هذه الدراسة قد اختلف عن باقي دراساته كونه جاء بحجج قوية ضد الآراء القائلة بإعلان موت الإله وحلّ محلّه مسميات مختلفة كالفن والثقافة والروح كذلك لم يطرح الآراء السابقة لا لأهميتها بقدر التقليل من شأن أصحابها ولاسيما في محاضرات القاها سليمان رشدي . ما يهمنا حسم تلك القضايا السجالية حيث انطلق من المفاهيم المهمة هي ( الدين والإلحاد) التي طرحها في شكل متسلسل يحمل أسلوب القص إذ بدأ من التنوير الذي انجب المثاليّة وهذه الفلسفة انجبت الرومانسية في حين أن الأخيرة قد انجبت الحداثة وما بعدها . الدراسة جاءت بستة فصول ، فالأول حمل عنوان (حدود التنوير) إذ رأى المفكر أن كلمة الإلحاد لم تدخل في قواميس اللغات الأوروبية إلا عد القرن السادس عشر ويعرض ما ذكره الفلاسفة بهذا الشأن أمثال أرنست كاسيرر ومالكولم بول في تعبيره الساخر عن الإلحاد( الذي كان يلقى الاستنكار في كل مكان فإن وجوده كان يُعتبر مستحيلاً) ص15 . ولم يظهر الإلحاد في أرووبا بشكل علني الا بعد نشوء الكلمة بقرن من الزمان لتصبح شائعة الاستعمال في القرن الثامن عشر ؛ ليرفع الغبار عن الفكر السائد ويبدي الفلاسفة آرائهم أمثال غودوين ، هولباخ ، هيفيتيوس ، ديرور، لاميتري ، هيوم الذين لم يكونوا شديدي الاقتناع بفكرة الإيمان حيث تعددت آراؤهم فيه بين أنه هوس أو وباء معدٍ أو أنه ضرورة حضارية وبهذا لا بد من اختفاء الإله تحت مسمى الأخلاق حسب رأي نتيشه ، لكنَّ المثاليّن جاءت رؤاهم مختلفة في الفصل الثاني والتي تمثلت في فلسفة ألان باديو الذي اعتنق فكرة موت الله ورفض الاستسلام لفكرتي الأبدية والفراغ في حين نجد أن بيتر هولوارد يعلق على آراء باديو قائلاً ( إنَّ موت الله يعني ضمناً التوكيد الصارم على أبديتنا الخاصة)ص 62 وهذا يعني أن الإله يعاود الإضمار تحت مسمى (الثقافة ) بهد أن حكم الفلاسفة على الأبدية لهم ، وهذه الأخيرة تكون مثمرة بمعنى عدد من الأيقونات الأثيرة والآراء الثاقبة في الحياة وسوف يتخذ الشاعر أو الفيلسوف هيئة كائن علمانيّ يتحول الفن والمثيلولوجيا إلى مجموعة طقوس شبه مقدسة ، المثاليّة وفكرها أنجبت الرومانسية والتي حملت عنوان الفصل الثالث في الكتاب ، والتي تعني الروح ويصبح الأمر متعلقاً بالدين أكثر من اللاهوت وبالإيمان أكثر من المعرفة ، والروح نقيض العقل أي أفكار الرومانسيين تعارض أفكار التنويريين لكنَّ الرومانسية أشد قتامة واضطراباً من المثاليّة وقد رأى فلاسفة الرومانسية أن الطبيعة هي حبّ الله نفسه والتحكم في العالمين الإنساني والطبيعي ليضمر الإله نفسه عند الرومانسيين في الفن والطبيعة والأخيلة وهذا يعني أن الرومانسية تناقض نفسها لأن هذه المحددات الثلاث كلها موارد نفسية للتجديد الاجتماعي ، ويشير المفكر ايغلتن أن الرومانسية تركت بصمتها على العصر الحديث فمن الفن إلى الجنس ومن علم البيئة إلى المذهب الذاتي في حين أنها حققت نجاحاً خاصاً كبديل مؤقت عن الدين متحوّلة من الكاهن إلى الشاعر ومن القربان المقدس إلى الرمز ممهدة الطريق إلى الحداثة التي جاءت لتعلن إن عصر التنوير قد فشل في إزاحة الدين وهذا ما يبينه الفكر في الفصل الرابع الذي حمل عنوان ( أزمة الثقافة) ويطرح ايغلتن مسألة لفت إليها النظر الناقد والشاعر إليوت كيف أنَّ الدين يمكن أن يعني اللاهوت بالنسبة إلى النخبة والمثيولوجيا بالنسبة إلى الجماهير؟ ليقوم ايغلتن بتوضيح دور الثقافة مع الدين إذ تكمن مهمتها بنزع النواة الأخلاقية للدين عن قشرته العقائدية من أجل تحديد الدين كشكل من السلطة الايديولوجية ويجب أن تحافظ على الهالة المنيرة وعلى نبرة الإيمان الديني البليغة . وبهذا يعلن ايغلتن في الفصل الأخير (موت الله ) قد ( رفعَ اللهُ الحانق رأسه من أخرى متلهفاً لإبداء احتجاجه على أن ورقة نعيه قد صدرت قبل الأوان . بيد أن العلي القدير لم يكن مُثبتاً جيداً بتابوته أصلاً) ص 226 لا شك أن موت الإله أعلنه فلاسفة عصر التنوير والمذهب الرومانسي ليأتي نيتشه بادعائه أنه أوّل الملحدين ليواجه العواقب المرعبة لموت الله الذي حلّ محلّه ( العقل ، الفن ، أو الثقافة، أو الروح) لكن إيغلتن أطلق رؤاه ذات صدى انفجاري ليختم الدراسة بفصل عنوانه( الحداثة وما بعدها) لتنهل جديته بعد السجالات الساخرة في فصوله السابقة والتي ترى اي ـــ الجدية ـــ إنّ الحداثة تختبر موت الله على شكل صدمة أو تحدٍّ او كمصدر للألم في حين أن ما بعد الحداثة لا تختبره على الإطلاق فلا وجود لثقب على هيئة الله في مركز كونه ، ليقرّ أن ما بعد الحداثة هي ما بعد لاهوتية ، ايغلتن في هذه الدراسة قد وضع حدّ لمعارك فكرية دامت لقرون متعددة.