الشمّاخ وأعمق صورة للخوف

الشمّاخ وأعمق صورة للخوف

صلاح نيازي

المفترض أنّ هذه المقالة، مكرّسة إلى أعمق صورة للخوف في المأثورات العربية، كما صوّرها الشمّاخ بن ضرار، إلاّ أنه و"بقدرة قادر"،

ما أنْ يدور الحديث عن الخوف، حتى تدوّم أمام عينيك ، لوحة "الصرخة" )The Screamعام 1893) للرسام النرويجي، أدوارد مونش Edward Munch . قيل "إنها أيقونة الفن المعاصر، وهي الأشهر في تأريخ الفنون التشكيلية". وردتْ كلمة تدوّم عن عمد. لأن الحركة الدردورية فيها لا تتوقف، عكس كل القوانين الفيزيائية المتعلقة بالحركة . لا بدّ أن تنتهي إلى سكون. إنها زوبعة من ألوان متموّجة مشتعلة، تلتفّ على نفسها ولكنّها تتفجّر من باطن الإنسان. أزمة وجودية Existential crisis . صورة روحية Soul Painting . ربّما هي أوّل لوحة تصوّر النزعات الداخلية للإنسان، فمهّدت بالتالي إلى الفن الحديث. ملامح الوجه طُفاحة ملتهبة متمعجة. بالأحرى بقايا ملامح مشبوحة.

اللوحة قطعاً، تؤرخ لتجربة شخصية مرّ بها أدوارد مونش، إلا أنّ الشخصية الرئيسة Protagonist في اللوحة لا يشبهه البتّة.

ملامحه الممرودة لا تنمّ عن جنسه. هل هو رجل؟ هل هو آمرأة؟ Sexlessness.

يخبرنا أدوارد مونش عن اللوحة: "بينما كنت أسير على رصيف الميناء وقت غروب الشمس، انقلبت السماء فجأة حمراء كالدم. وقفت واستندت على الحاجز، وقد شعرت بتعب يتعذر وصفه. مضى صديقاي يسيران أمامي، بينما أنا تأخرت وراءهما مرتعشاً جرّاء الخوف، ثمّ سمعت صرخة الطبيعة الضخمة".

تلك لوحة مصنوعة من صراخ . صراخ أحمر يتلوّى. صراخ أبيض يتفتّت، صراخ أزرق يتموّج. لوحة تُسمع ألوانها وتُرى في وقت واحد.

على نسقٍ مخالف، لوحة الشمّاخ الشعرية، مصنوعة من صمت ملجم في القصبات الهوائية. الشهيق والزفير "بحسبان"، وللقفص الصدري زحير. النأمة من أيّ نوع ،انفجار. العين مترصدة لأدنى حركة. مفتوحة عن آخرها وحذارِ حذارِ أن ترمش. يومان مرّا والعطش لهاّب سفّاع. الماء أمامها. والظبية مسكونة بالخوف. ذبحها العطش. من هنا وحش كاسر. من هنا صيّاد ساهر. بين أمرّين. ولكن لا بدّ من نغبة ماء.

راوية القصيدة، وحيد كذلك، وفي ظلام متجحفل لا تُعرف من أيّة جهة ستنشب أخطاره .

يقول الشمّاخ أن حبيبته أدلجت في آخر الليل، وهذا الليل:"كلون الساج أسود مظلم/ قليل الوغى..." (الوغى الصوت، يعني أنّ الساري فيه لا يتكلّم لشدّة خوفه- شرح الشنقيطي).

وقال في قصيدة أخرى:"وأصبح بالفلاة يديرطرفاً/ على حذرٍ توجسه كثيرُ". (التوجّس : التسمّع إلى الصوت الخفيّ).

بمثابة متسقة فإنّ أخطر ما صوّره الشماّخ من خوف هو ذاك المقترن بالعطش والموت. لنأخذْ مقطعاً من القصيدة الزائية ويبدأ بـ: "إذا أنبض الرامون عنها ترنّمت/ ترنّم ثكلى أوجعتهاالجنائز"، فقد نجد بعضاً من مهارات الشمّاخ في صناعة الشعر. أوّلاً لم يكتفِ راوية القصيدة بتشبيه صوت السهم، بصوت الثكلى، وإنماعمّق الرؤيا ، بصورة بصرية موجعة، هي رؤية الجنائز. وكأن حزن هذه الثكلى كان بصورةٍ ما منطفئاً أو كاد، وعلى حين غرّة ألهبته الجنازة ثانية.

خلاف ذلك ظنّ صلاح الدين الهادي مؤلف كتاب :"الشمّاخ بن ضرار الذبياني" أن "تلك القوس هي الثكلى التي تبكي وتنتحب" (ص 201).

التشبيه لدى الشمّاخ لا يكتفي بمقارنة شئ بشئ، كما جرتْ عليه العادة، أي أنّ المشبّه كالمشبّه به. يتخذ المشبّه به لدى الشمّاخ صيغة صورة فنية تنمو وتتكامل تدريجيا، وبهذه الخاصية ينفرد هذا الشاعر عن عصبة الشعراء. بكلمات أخرى، يُعنى الشمّاخ بتربية الفكرة أو الصورة الشعرية، ويتركها تنمو، وكأنْ على سجيّتها، وتتفرّع .

من تشابيهه المتكاملة مثلا، أنه شبه يد فتاة بالدرّة. أي نقية عارية بيضاء، ولكنّ الشاعر لم يكتف بذلك بل أكمل التشبيه، فنما ليصبح هو نفسه لوحة فنّية:

"كأنّ حصاناً فضّها القين غدوة

لدى حيث يلقى بالفناء حصيرُها"

(الحصان: الدرة، والقين: الحدّاد، وحصيرها: غشاؤها)

(يقول الشاعر إن يدها مثل درّة نزع الحدّاد عنها غشاءها عند الصباح، وألقاه خارج الدار).

غيره من الشعراء، يكتفي بتشبيه نقاء اليد بنقاء الدرّة، إلاّ أن الشماخ أتى بحدّاد خبير، فأزال عنها الغشاء. (الصدف)، ربما كما يُزال البرقع عن وجه العروس. ثمّ تابع الغشاء فإذا هو مرمى خارج البيت. أكثر من ذلك أنه زاد نور الدرّة الذاتي بنور الطبيعة فجاء بتوقيتٍ دقيقٍ هو الصباح. ثمّ لماذا قال راوية القصيدة :"الحدّاد" ؟هل ليدلّل على نفاسة الدرّة!

ينمّ هذا التأني في خلق التشبيه، على أن الشمّاخ شاعر متأمل، يتعايش معً الحدث، وله قابلية عجيبة في تقمّص المخاوقات بشراً وحيواناً وطيراً وحتى نباتاً. بهذا التقمص ينفرد الشماخ في قائمة الشعراء.

وفي قصيدة أخرى، يقول راوية القصيدة واصفاً القوس بأنها صفراء، و بأنها إذا "جُذِبَ وترها ترنّ، وتصوّت. كانت هذه القوس تُغطّى بالثياب الناعمة النفيسة، إذا ما تندّى الجوّ خوفاً على أوتارها من الفساد.

بهذا التفصيل الحريص للقوس، إنّما كان راوية القصيدة يُمهّد لحالة الأتن وقد أضرّ بهنّ العطش . 

ها هنّ قد جاشت نفوسهنّ من الفزع. نفد الصبر. لا بدّ من ماء. لم يبق من حيلة سوى المخاطرة بحياتهنّ. لا بدّ من إطفاء العطش السافع. عيونهنّ من فرط الارتعاب، تنظر عن جوانبها مستوفزة لدرجة أصبحت معها حولاء(قُبْل). فرمين بصدورهن في الماء وليكنْ ما يكون. كل شئ هيّن ولو كان موتاً.

قال شارح القصيدة، "إنها ترتعد فرائصها خوفاً وقت شربها، وأنهنّ كُنّ ينهلن بسرعة..."

لا ريب، إن الثقل النوعي للصورة المأساوية في المقطع أعلاه، تتجسد بتعبير:"العين الحولاء" .يقرر القاموس أنّ الحَوَل:"اختلاف محور العينين"، ولكنّ الحول في المقطع أعلاه ليس خلقة، وإنما حالة فرضها التوجّس، ومن هنا مأساتها وفرادتها في المأثورات العربية. كانت عملية شرب الماء متقطعة ومنغّصة ومحفوفة بالخطر. شَفَتُها بالكاد تلمس الماء، وعينها معلقة في الزاوية العليا في محجرها، فباتت حولاء.

صراع غريب شاقّ بين الفم والعين، في الوجه الواحد. فم يستجير. يتلظّى، وعين تستطير. تتشظّى.

ولكنْ لماذا قال راوية القصيدة:" ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز"؟ الثكالى في قصائد الشمّاخ باب خاص، بحاجة إلى وقفة أطول.

ويقول في قصيدة أخرى:

كأنّ أنينهنّ بكل سهبٍ

إذا ارتحلت تجاوب نائحات"

يتخذ النواح في هذا البيت، صيغتيْن هما : الصوت والصدى في آن واحد. بذا تضاعف النواح وكأنه كورس بمصطلحنا الحديث.

وفي قصيدته العينية، نقرأ البيت التالي ويصف به راوية القصيدة الصوت:

"كأنّ سحيله في كلّ فجّ

تغرّد شاربٍ ناءٍ فجوع"

(السحيل: الصوت، والفجوع بمعنى المفجوع).

من الواضح أنه لولا صفة المفجوع، لكان البيت عاديّاً سرديّاً. ففي تعبير :"في كلّ فجّ" توسّع حجم الصوت وكأنه يتصادى. من ناحية ثانية شبّه راوية القصيدة ذلك الصوت بـ"تغرّد شارب"، أي أن الخمرة ضخمت الحدث. ولكن البيت لم يأخذْ خطورته إلا بكلمة المفجوع لأنها أضفت على مفعول الخمرة، مفعولاً آخر هو الفقدان. أما كلمة :"ناءٍ، فأعطت البيت غموضاً شفّافاً مؤثراً وكأن التغرّد بحدّ ذاته، لم يكن مفهوماً. وما همّ، ما دام صادقاً يخرج من حبّة القلب.

يمكن القول إن الحزن لدى الشمّاخ ، كثيراً ما يترافق مع الصوت. وهذا الأسلوب بحدّ ذاته تقنية بارعة في تضخيم الحزن. لا عجب أنْ سمعنا حتى للعطش صوتاً، وهو من أفجع الأصوات. استعمل راوية القصيدة كلمة :"صليل" (وهو يبس الأمعاء من العطش حتى يُسمع لها صوت).

يقول الشمّاخ في القصيدة اللامية:

"حتى آستغاثت بجون فوقه حبك

تدعو هديلاً به الورق المثاكيلُ"

(الهديل : ذكر الحمام الوحشيّ،والورق جمع ورقاء، أيْ الحمامة، والمثاكيل التي فقدتْ أولادها)

يذكر الشنقيطي أنّ (الهديل فرخ تزعم العرب أنّه مات عطشاً، أو ضاع، أو صاده جارح، وكان ذلك في عهد نوح... فما من حمامة إلاّ وهي تبكي عليه).( يا كوكتي، وين أختي)

كان الشمّاخ ،كما يبدو يُعنى بالدرجة الأولى بأنوثة العالم The Femininity of the world.. فإذا صحّ هذا الافتراض، نكون قد عثرنا على ظاهرة فريدة في الشعر العربي، تكون بمصاف الشعر العالمي. لقد حبت الطبيعة بعض الفنانين، بالإضافة إلى جبلّتهم الفطرية الإبداعية، جبلّة أخرى، فيها من عين المرأة حنوّها ودمعها، ومن قلبها رحمتها وخفقانها، ومن فمها أرقّ التهويدات. بهذه الجبلّة أيْ النظرة الأنوثية، ظهرت أعمال جليلة هي الجمّار في الشعر والموسيقى والرواية. منها قصيدة لوكريس، وشخصية أوفيليا في مسرحية هاملت لشيكبير، وفيدليو في اوبرا بيتهوفن، ومدام بترفلاي في أوبرا بوتشيني، وتسTessفي رواية توماس هاردي، وسونيا أو سونياتا في رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي وقصيدة الأرملة المرضعة للرصافي:"لقيتها ليتني ما كنت ألقاها/ تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها"

بمناسبة ذكر رواية تس Tess، فإن فيها نظرة عميقة لأنوثة العالم بحيث يمكن اعتبارها مع رواية كبرياء وهوى لجين اوستن من أهم الأسس التي قامت عليها أخلاقيات المجتمع الإنكليزي. كتب مثلاً الناقد الإنكليزي ريتشارد واتلي مقالاً جادّاً عن أعمال جين أوستن بعد وفاتها بفترة وجيزة، فقارنها بأعمال هوميروس وشيكسبير،...وأصرّ على أنّ الأدب الخيالي(وخاصة الأدب الروائي) أكثر قيمة من التأريخ والسيّر الذاتيّة".

على أية حال، ما يهمّنا في صورة الخوف تلك هي العين، لأنها العدسة اللاقطة، ومن خلالها ينفذ الخوف إلى القلب فسائر الجسد. كذا آستولى الخوف أوّل ما آستولى على العين في سورة الأحزاب (آية19)، :"أشحةً عليكم، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت...".

مع ذلك، فليس في السور القرآنية، كما يبدو، من تصوير لمراحل الخوف كما هو واقع لحظة لحظة.

إنما هو وعد ووعيد. زبدة القول إن الخوف في القرآن الكريم عقاب مؤجل. ففي سورة الحاقّة، مثلاً تتبيّن"حواقّ الأمورمن الحساب والثواب والعقاب"(الزمخشري). أما في القارعة فقرع للناس" بالأفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق، والجبال بالدكّ والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار" وفي سورة النازعات"يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة". يقول القرطبي :"قلوب مرتكضة غير ساكنة".

بكلمات أخرى إن الخوف لم يقع بعد، ولكنه سيقع. بيد أنّ هذه المقالة معنية بالخوف وسيرورته الآنية فقط.

مسكينة هي تلك المخلوقات التي لا تمتلك من أجهزة للدفاع عن نفسها، سوى ما في سيقانها من سرعة للهرب، وما في أجنحتها من فرار ومناورة. الهرب منجاها الوحيد.

قال الأستاذ االجواهري في قصيدة "الفرات الطاغي":

"وراعت الطائر الظمآن هيبته

فمرّ وهو جبان فوقه حذر...".

بيت طريف لا ريب، وتقنيته عالية، تعاظم الخوف فيه من تعاظم الفرات وتلاطمه. بات حجم الخوف بحجم الفرات المنفلت. ثانياً لنأخذْ الأمر معكوساً، إذْ يمكن أن نستدلّ على طغيان الفرات، من سرعة جناحي الطائر وحذره من الهروب من الماء رغم الظمأ. المرعب في الصورة أنك تنظر إلى الطائر المنذعر في السماء وتقرأ فيه ما يجري على الأرض.

لكن رويداً. ما يستوقف النظر في البيت ، هو مصطلح "هيبته". يبدو أنها قلقة، واختيارها محيّر. ربّما لأن راوية القصيدة لم يتقمّص ذلك الطائر، تقمّصاً حقيقيا. كان الفرات بالنسبة للطائرخطراً، وأيّ خطر. انغمرت من جرّائه "الأرض والأشجار:"

طغى فضوعف منه الحسن والخطر

وفاض فالأرض والأشجار تنغمر"

ترك طغيان الفرات، ذلك الطائر الظمآن بلا برّ ليلقط الحب، وحطّم أعشاشه ومساكنه، فأين الهيبة من التدمير؟ ربما كان راوية القصيدة يعكس بيئة متخلفة ضيّقة تمجد العضلة حتى لو كانت بطشاً.

يتكرر مصطلح الهيبة في بيت آخر ملغز:"ملء القلوب خشوع من مهابته" . أضاف راوية القصيدة هذه المرّة،الخشوع إلى المهابة، فأصبحت صورة لاهوتية، لا يملكها إلاّ الأرباب السومريون أو الإغريق، وأضرابهما. يُعبدون رغم سادّيتهم.

مهما دار الأمر، رسم الشماخ فنّياً صورة جارحة خالدة للعطش والموت، ولكنْ هل الفن أكبر تأثيراً من الواقع؟

يمر بالبال في هذا الباب كتاب "الشرارة والرماد" للأديب الأكاديمي المرموق قاسم البريسم. الكتاب من أهم الوثائق الدامغة عن العهد السابق، وفي ثناياه يصف المؤلف كيف اقتيد مع عدد غفير آخرين من البصرة إلى سجن الرضوانية ببغداد. كانت الحافلة التي تقلّهم أشبه بتابوت متحرّك. الموت المسلح بالهراوات في استقبالهم. الماء. الماء. الماء. نشفت الأفواه. التصق اللسان في اللهاة. ها يا لله دخل صنبور الماء. قال المؤلف:"أعلن الحرس قواعد شرب الماء، وهي أن تُفتح الأفواه ويجب أن تبقى مفتوحة حتى يصل الحارس ويقطّر من الماء ما يشاء في فم السجين..."

يروي المؤلف بعد ذلك ما حدث لشاب "كان مريضاً، وورث آلاماً ونزيفاً في كليتيه من جرّاء التعذيب. يبدو أن العطش كان أكبر من الموت، فأمسك الشاب المريض بصنبور الماء، مخالفاً قواعد شرب الماء في سجن الرضوانية". 

شهد المؤلف :"كيف آنهالت الهراوات بسرعة البرق على رأسه. سقط الشاب. أسبل يديه (قام الحرس فوضعوا صنبور الماء في فمه فامتلأ جوفه حتى بدأ يفيض من فمه وأنفه).يقول المؤلف :(كان الحرس يضحكون من مشهده، وظلت جثته ممدّدة بين الموقوفين طيلة الليل، وفي الصباح سُحل إلى سيّارة النفايات) (الشرارة والرماد ص320- 322).

ولله في خلقه شؤون.

افترضنا أعلاه، أن الشمّاخ كان يُعنى بالجانب الأنثوي للعالم. تمظهرت هذه الخاصية، بعدة وجوه، منها أنه شاعر يتابع بتروّ نموّ الصورة الشعرية مرحلة مرحلة، وكأنه يربيها.أي إنه يهتم بالبذرة ، بينما الشعراء الآخرون يتغنون بالحصاد. هو يتابع البرعم كيف يتفتح وتنضج ألوانه، وهؤلاء يتغنون بالوردة بالتعميم.

الشمّاخ إنما يكتب عن تجربة، لنقلْ مختبرية تجوّزاً، بينما لداته من الشعراء يكتبون من وحي أفكار تجريدية ، وخلاصات ثقافية نظرية. ولكن لماذا لم يدخل الشمّاخ في كوكبة الفحول من الشعراء؟

من المحتمل، أن المعيار الذي قاس به القدامى فحولة الشعراء، هي مساحة الميادين التي يصول ويجول فيها الشاعر. وعلى هذا لم يحسبوا ذا الرمة من الفحول لقلة موضوعاته. ربما أيضاً، هذا ما لحق بالشمّاخ من حيف، فلم يلتفتوا إلى الثراء، أو التنوّع في الإثمار والألوان والأشكال في شعره. صحيح إن مساحة الشمّاخ الشعرية صغيرة بالمقارنة ولكنّها تعوّض عن الحجم بالعمق. الشمّاخ من أثرى الشعراء. شعره مأهول بأنماط مختلفة من البشر لا سيّما الإناث، بتغاريد منوعة من الأصوات، وبدرجات لونية مختلفة حتى في اللون الواحد.

لنأخذْ مثلاً اللون الأسود، وهو من أنشط الألوان في منظومات الشمّاخ. نرى هناك: الأسود اليحمومي، والنجيع من الدم وهو دم الجوف، واللون الأسود الغربيب(أي الحالك)، ولون الساج، والجون الأسود المشرّب بالحمرة، واللون الكميت وهو لون بين السواد والحمرة، واللون الأخضر الأسود، واللون الأسود الضارب إلى الغبرة...بالإضافة إلى ما جاء من اللون الأسود بصيغة صفات، مثل:المقلة الكحلاء، واللثة السوداء، وجنح الليل، واللثة اللعساء(اسودّ باطنها)، والظبية السفعاء، أي المشرّب بالحمرة...

يقول الشمّاخ:

"ولا عيب في مكروهها غير أنّه

تبدّل جوناً بعدما كان أكدرا"

المعنى إن لونها صار شديد السواد من تعبها بعد أن كان أكدر أيْ ينحو نحو السواد.

ولكنْ خلافاً لهذا الرأي، يرى محمد علي ذياب، مؤلف كتاب:"الصورة الشعرية أنّ الشمّاخ":"كرر في أكثر من قصيدة صفة اللون الأبيض". ويرى ان الشاعر أحبّ من النساء البيضاء،"على الرغم من أنّ هذا اللون نادر في الجزيرة العربية ذات الصيف الطويل المحرق..." (ص 36).

***

على أية حال، بمَ يختلف الخوف الذي صوّره الشمّاخ، ولِمَ؟

لنأخذْ مثليْن لخوفين من الأدب الإنكليزي للمقارنة. الأوّل الذي جسّده شكسبير في مسرحية "الملك جون"حيث كان فيلب يخبر الملك جون بما آلتْ إليه أوضاع الناس، فقال:"الكلّ خائفون ولا يعرفون ممَّ يخافون". لا ريب إنه خوف عظيم، وكأن الناس سيرتطمون بعضهم ببعض من شدّة الآنشداه.

أمّا الخوف الثاني فصوّره توماس هاردي في روايته الأمثولة تسْ Tess . بطلة الرواية تسْ آغتُصبت عنوة. حبلت وأنجبت طفلا لا ينقطع عن البكاء، ثمّ مات. رفض القسّ دفنه في المقبرة بحجة أنه طفل غير شرعي. توسلت تسْ، إلاّ أنّ القسّ لم يرفّ له جفن. قالت له تسْ إن الطفل نفسه برئ لم يرتكب ذنباً. أصر القس على موقف الكنيسة. انفجرت تسْ بوجه القس: أكرهك، أكره كنيستك، أكره ربّك. ثمّ دفنت الطفل في الحديقة، وثبّتتْ فوقه الصليب، وكأنها وجدت لنفسها دينها الخاص. كانت تسْ تشكو لأمها من خوفها لا من الغد القريب الكبير بل من الإغداد (جمع غد) الصغيرة التي وراءه.

الخوفان مرعبان لا شكّ، ولكنّهما مع ذلك، مرهونان بالظروف. غمّتان مهما بلغتا من القسوة قد تنفرجان. أمّا الخوف الذي صوّره الشمّاخ لا انفراج فيه. أوّلاً لإنه على وشك الوقوع في أية لحظة، في النوم أو الصحو، في الحركة أو السكون. خوف قائم ليل نهار، مادام العطش قائماً وما دامت الوحوش قائمة تتضور، وما دام القُناص على أهبة الآستعداد. إنه قدر مكتوب لا محيد عنه.

*** 

بمناسبة أو من دونها، قد تكون اللوحة الشعرية التالية أفضل ختام لهذه المقالة.

يقول الشمّاخ:

"وخرق قد جعلتُ بهِ وسادي 

انسجام

(الخرق: الفلاة الواسعة. والوجناء: الناقة العظيمة، ومجفرة: واسعة الضلوع)

هذه لوحة لا خدْنَ لها. أهنأ نومة ، في تأريخ الأدب كما يبدو. ها هو راوية القصيدة ينام باطمئنان على ذراعي ناقته. انسجام كلّي أقرب ما يكون إلى الانسجام الروحي بين الإنسان والحيوان. وحدهما بفلاة واسعة. نبضات قلبين متألفيْن. إغفاءتان عميقتان تسريان في عموم الجسد بخدر عميق.

وحين ذكر الراوية ،مجفرة أي واسعة الأضلاع كأنما كان يشيرباللاوعي إلى ما بينهما من انسجام

في تنفسهما. الأضلاع تشير أيضاً إلى خاصية يتميز بها الشمّاخ أنه كثيراً ما يضمّن صوره الشعرية إحدى الجوارح، فيجعلها قريبة وملموسة وحميميّة.

قصارى القول، لم أقرأْ، عن نوم هانئ وثير، أو أعمق آنسجاماً، يقرب من الآنسجام الروحي، كراوية 

قصيدة الشمّاخ، وهو ينام متوسّداً يديْ ناقته ليلاً:

تعليقات الزوار

  • فاطمة جميل نيازي

    دائما تبهرنا سلمت اناملك

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top