حيدر نزار السيد سلمان
في دراسة الشخصيات العامة في الحقول المتنوعة والذين برزوا تاريخياً بمواقع تقدَّموا فيها متنفذين وفاعلين، يتحتم على الباحث دراسة نشأتهم وجذورهم الثقافية والفكرية ومقاربتهم مع نظرائهم.
لو أخضعنا السياسيين العراقيين الذين يديرون دفة الحكم لِشروط الدراسات التاريخية والاجتماعية بوصفهم شخصيات عامة وفر لها القدرُ مواقعَ هامة في صناعة التاريخ وإصدار القرارات وإنفاذ القانون وبناء الدولة ومؤسساتها بعد تفكيكها، ونقارنهم بالنخبة التي بنت الدولةَ بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام ١٩١٧ يمكن لنا حينها بلوغ مستويات عالية من الحقائق والأسباب التي أفضت إلى نجاح نخبة الاحتلال الأول ولو نسبياً، وفشل نخبة الاحتلال الثاني في بناء الدولة رغم أن مهمة الآخرين تُعد أسهل لكونهم لم يُنشؤوا ما أخذوه على عاتقهم على فراغ.
بينما كانت نخبة العهد الأول تتكون في أغلبها من شخصيات عسكرية محترفة وتتبوأ مواقع مرموقة مع شخصيات قانونية ومتعلّمة تعليماً حديثاً، وتشرَّبت بمبادئ الحداثة والعصرنة. فإن مايمكن أن نعثر عليه عند دراسة الأغلبية من الشخصيات المكونة للعهد الثاني هو انحدارها من أصول تعليمية تقليدية تغطّيها المسحة التعليمية القديمة المغلقة مع أقليّة متعلّمة تعليماً جيداً.بيدأن الأغلبية هم من ساكني المنافي والمنضوين تحت ألوية عسكرية مليشياوية معارضة لم تسنح لهم فرصةً للترقي والتطور الفكري والثقافي، وظلَّت ثقافتهم التقليدية المستندة إلى التراث والدين والماضوية هي الفاعل الأكبر في تكوينهم الفكري وسلوكياتهم وصياغة أنماطهم التنظيرية ومواقفهم ونشأتهم الايديولوجية. بينما خاض رجال العهد الأول بطائفيتهم غمار عملية بناء الدولة بحِكمة وصبر واندكاكهم بهذا البناء، اذ عدّوه جزءاً من وجودهم ، وماجَنوه من مكاسب وامتيازات مادية ووجاهية لم تمنعهم من التضحية في سبيل تشييد دولة بمؤسسات فاعلة وقانون أساس ونظام تعليمي فاخر ومتطور.أما سياسيو العهد الثاني فقد أثبتت سلوكياتهم وما حصل على حياتهم من ترف وازدهار أنهم اتّخذوا السلطةَ وسيلةً للمغانم والمكاسب ولم يندكوا بمشروع البناء اندكاكاً يشي عن إرادة ببناء دولة وكجزء من وجودهم التاريخي. وبمقابل المكاسب والامتيازات أهملوا التشييد والتعمير والتحديث واستغرقوا بالصراع على المنافع والسلطة كوسيلة لهذه المنافع وتقدَّمت مصالحُهم وأحزابُهم على المصالح العليا للبلاد. ومما يبدو واضحاً أن نكران الذات لم يكن فاعلاً في إدارة الدولة، مما يفضح التدني الفكري والثقافة الدنيا التي أشاعوها واتخذوها وسيلةً للهيمنة كتعبير عن جذورٍ ثقافية رخوة وضعيفة. فقد كان هاجس الانتقام والخوف من الماضي يلاحقهم، وبدا صريحاً على سلوكياتهم ومواقفهم، وانشغلوا باجترار الماضي ومآسيه دون أن يعملوا على تكوين هوية وطنية وجامعة وانشاء نظام حكم رشيد يستند إلى مبدأ العدالة والتعامل حسب فلسفة المواطنة . وربما هذه من القواسم المشتركة مع رجال العهد الأول بنزعتهم الطائفية. بيد أنهم كانوا حريصين على بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية وكانت وسيلتهم الأساس التعليم والجيش، فقد بذل ساطع الحصري بدعمٍ من النخبة السلطوية جهوداً كبيرة في البناء الاجتماعي عن طريق التعليم ومركزيّته وتوحيد مناهجه. وبموازاة ذلك أخذ آباء المؤسسة العسكرية ببناء جيش محترف حام للبلاد والدستور ممثلاً لهيبة الدولة والأمة وكمؤسسة شرعية وحيدة مجسّدة للقوة والقسر والسلاح. أما رجال العهد الثاني فقد أسرفوا في تكريس الهويات الفرعية والتدافع المذهبي وحاولوا تكسير قوائم ماكان موجوداً من نزعة لهوية عراقية جامعة وأبدوا مرونة وتساهلاً عجيباً مع دعاة الصراع المذهبي ومروّجي الفكر الانقسامي على هذا الأساس، والأمر يشمل حتماً الجميع، شيعة وسنة وأكراد؛ وبدل الاعتماد على المدرسة والتعليم كسبيل للاتحاد الوطني وتقوية لحمة الهوية العراقية ونسيجها أبدعوا في نشر التشتت والفرقة عبر الخطابات الفرعية واتخذوا من الأماكن الدينية حصوناً لذلك. وبدلاً عن الجيش الوطني الواحد جعلوا من أحزابهم وأذرعهم المسلحة في تنافس وصراع حادين معه، ومما يمكن قوله أن سياسي العهد الأول كان همّهم الأساس تتويج العراق كرأس وقوّة قائدة متبوعة من قبل العرب وقلب نابض في الإدارة والسيطرة، وهو في تعارض مع فلسفة الإدارة والحكم والاستراتيجيا عند سياسي العهد الثاني الذين أخضعوا بلادهم لإملاءات دولية وإقليمية كبلد تابع يفتقر لشروط التأثير والفعل القوي حتّى بلغ الحال أن حزباً سياسياً من دولة أخرى أن يكون ذا نفوذ وسلطة في التلاعب بمصيره وحكومته.
ليس هناك من أسباب أكثر تأثيراً من الأسباب الثقافية في فرض أنماط السلوك والتصرف على رجال كلا العهدَين، فقد فعلت الجذور الثقافية لكل فريق فعلتها في إدارة الدولة وصناعة استراتيجيتها الداخلية والخارجية. ولأنَّ الدراسات عن العهد الأول غزيرة فإن الدراسة عن الجذور الثقافية والفكرية عن العهد الثاني أمست ضرورة مطلوبة من قبل الباحثين التاريخيين والاجتماعين لإمكانية فهم مشكلة الحُكم ومعالجتها. ومادمنا نعيش في هذه المدّة الراهنة فإن الانغلاق الفكري والماضوية للسلطة الحاكمة وأحزابها وحتى انحداراتها الطبقية ساهمت في فشلها وفسادها، بل التفاخر بما لايمكن التفاخر به؛ مثلما هو إهمالها للجيل الجديد الذي يتغذّى بالفكر الجديد والتطلع لمستقبله ومستقبل بلاده، وهو نمط تفكير يختلف عن طبيعة التفكير عند أغلب رجال السلطة ونخبتها السياسية: هذا الجيل الذي يريد العيش في العالم المعاصر بدولة عدالة قوية ذات سيادة وتأثير في محيطها وبعقلية تنفتح يومياً مع آليات وتداعيات العولمة وفعلها الهاديء والصاخب؛لايمكن له الخضوع لتجريدات وأوهام يسوقها ساسةٌ هدفهم فرض السيطرة بخطابٍ عتيق يتوارى خلف دعاوى عقائدية أحياناً وسلوكيات غريبة أحياناًأخرى. ولم يعد هذا الجيل قانعاً بالوعود السرمدية مقابل السكوت عن بؤس أحواله وتمادي الفاسدين باستغفاله. ولعلَّه تفوَّق ثقافياً وفكرياً على مَن يحكمه، سواءاً بروحه الوطنية أو بطموحاته ومواقفه. ولو كان رجال السلطة يتمتعون بثقافة علوية وفكر حديث منفتح لسلكوا سلوكاً مختلفاً لم تبلغ معه الأوضاع إلى ماوصلت إليه.
اترك تعليقك