قناطر: الجسد مطوقاً .. أو في رثاء الجمال

طالب عبد العزيز 2020/10/13 07:04:52 م

قناطر: الجسد مطوقاً .. أو في رثاء الجمال

 طالب عبد العزيز

كثيراً ما يبعث لنا أصدقاؤنا من فردوسهم اللاتيني البعيد صوراً لشوارع وحدائق وغابات جميلة، أو مقاطع فيديوية لحفلات موسيقية راقصة، يتخللها لهو بريء. رجال ونساء من مختلف اللغات والجنسيات والألوان، تجمعهم طاولات الأطعمة والأشربة،

ويفاخرون بعضهم في حسن هذه وتلك، ولا نظنهم يزيّفون حياتهم هناك، فقد نقلت السينما وأجهزة التلفزيون جوانب مشرقة أكثر، وبطبيعة الحال فأن هذا لا يعني أن الحياة هناك خالية من الكدر والمنغصات، فالحياة هي هي في كل مكان وزمان، فيها السعد والسرور مثلما فيها الغم والكدر، لكنها تتباين وتختلف من مكان الى آخر.

لن أسأل السؤال التقليدي الذي يقول: ترى لماذا نحن بهذا التجهم والكمد والحزن؟ فالإجابة هنا ستذهب الى الميثلوجيا الرافيدينة والحزن العاشورائي، واستثمار السياسة في الدين والتركيبة الاجتماعية القبلية القبيحة، والى ما شاء الله من الأسباب. لكنني، سأذهب الى الحقيقة المطلقة في النفس الإنسانية، المتعلقة بحب الحياة، والبحث عن أسباب وجودنا فيها، فالقاعدة في ذلك تقول بأنَّ الانسان حرٌّ في وجوده، ويريد من مسعاه في الحياة أن يكون سعيداً، آمناً، مطمئناً، فرحاً .. الخ ترى، لماذا لا يعمل على تحقيق ذلك، وهو متاح بحكم درايته وفهمه، قبل تدخل الموانع والحجب؟ 

كل مؤشرات الحق تقول بأن العقل أرقى في الخير، وهو أقبح في الشر، وأن الجسد أجمل في الرقص والتناغم، وهو أقبح في الكسل والخمول، وأن العين في الابتسام أجمل منها في الدمع، والروح ترتقي بأفعال الجمال، لكنها تذبل في البغض والكراهة.. ترى لماذا نستخدم العقل للشر، ونكبل الجسد بالقيود التي نصنعها بأيدينا؟ ونجعل العين دامعة أبداً، ونجعل من الروح وعاء لنبذ وكراهية الآخر؟ لماذا؟ والفرص في صناعة الخير وأسباب الجمال متاحة لنا جميعاً، والحصول عليها سهلٌ ولا يكلف المال والجهد.

ولأنني، حالم وباحث أبدي عن السعادة، فقد قلت ذات يوم بأنَّ شعر المرأة المطلق في الريح يمنحنا ما لا تمنحنا إياه الخرق السود التي تضعها على رأسها، وأن كأس النبيذ، بلونها الخمري، وبفعلها في الروح، أصفى بكثير من كؤوس الذّل والصبر التي نتجرعها بإرادتنا كل يوم، وأن أسيجة المنازل بورودها وألوانها وروائحها أخف على الروح من يافطات الموت التي نطالعها عليها، ولا أستحي من قولي بأنني بحاجة الى الموسيقى المنبعثة من حديقة دار الاوبرا أكثر من حاجتي لصوت مؤذن المسجد ورادود الموكب، لعلمي بأن الطرق التي تؤدي الى الله كثيرة، لاتحد.

أريدُ مدناً لا أقرأ على حيطانها نعياً لقتيل مغدور، ولا يترصدني أحدٌ في شوارعها المظلمة، مدناً لم تتلوث سماواتها بغربان آدميين، فأنا، ومنذ ولدت أكره السير في أزقة لا حدائق في بيوتها، ولا نساء جميلات يطلن من شرفاتها، ولا صبايا مفتونات بأشرطة ملونة يرقصن في باحات مدارسها، وما أجملها من ضواحي، تلك التي يتبادل سكانها القبل علناً في الملاعب والمتاجر والحدائق العامة، ولست متوحشاً بما يكفي لئلا تدمع عيني في حضرة عاشقين متعانقين على جسر، ولا أقرب لنفسي مشهداً من رؤية السواحل المزدحمة بالمستحمات والمستحمين، هناكن حيث يكون الجسد مجرداً من محمولات الوقار والتمنع. التيه في الغابة ليلاً أقرب لروحي من وصولي الآمن الى غرفتي في فندق المدينة. ترى، لماذا تجبر ابنتي على ارتداء قميص لا أزهار فيه، ولماذا أخشى على زوجتي، كلما تأخرت في عيادة الطبيب؟ ولأجل منْ تجري دموع ابني؟ أحدهم ضرب كلب جيراننا، ذا الشعر المنسرح الطويل، صوته المبحوح يجرح قلبه الآن.

هناك من يشوه انسانيتنا باسم الرب والاضرحة والقبائل، وتفزعني مشاهدُ الحِملان المساقة الى المسلخ، ومسكينة تلك الببغاء التي في قفصها، يقولون بانها: داعرة، هناك من علمها الشتائم، ألا ترون معي بانَّ ثياب السهر الشفافة والملونة أجمل بكثير من ثياب المآتم السود، الوقورة، ما ابشعنا في توقيرنا للقبح.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top