د. ماهر سعيد
قبل ما يقارب أربعين عاماً كنت أدرس في مدينة سوفيتية تقطنها عشرات القوميات والأعراق والأديان والمذاهب، ربما لأنها كانت عاصمة سابقة فضلاً عن كونها من أكبر المدن الصناعية والطلابية في الاتحاد السوفيتي، يزورها الطلاب من كافة أنحاء البلاد ويدرس في جامعاتها آلاف الطلاب الأجانب.
وكان من بين أصدقاء الدراسة شاب أذري اسمه (ريِّس) وحبيبته فتاة أرمنية (لارا)، كانا قد تجاوزا العشرين من العمر وبقيا معاً طيلة أعوام الدراسة ولم يفترقا إلا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي لأن حلمهما بالزواج أصبح مستحيلاً بسبب الأحداث المأساوية التي رافقت تفكك الاتحاد السوقيتي وانهياره الشامل، فقد بدأت الصدامات بين الأذريين والأرمن في عام 1988 وتحولت الى حرب واسعة في عام 1991 بعد إعلان أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي وإعلان أقليم (ناغورني كرباخ- مرتفعات قره باغ) ذي الحكم الذاتي استقلاله عن أذربيجان. كانت تلك مرحلة صراع محتدم على السلطة السياسية للدولة السوفيتية المنهارة، وعلى الملكية الهائلة التي خلفتها، والمستودعات والمعدات العسكرية والأسلحة التي تركتها القوات السوفيتية المنسحبة من تلك المناطق، ولم يتورع ممثلو الفئة السياسية الجديدة التي استلمت السلطة في موسكو والقوى "القومية" و"الدينية" المتعصبة في الجمهوريات المستقلة والمناطق القومية المنفصلة عنها عن تأجيج الاضغان ومشاعر التعصب والحقد والعداء العرقي والديني وزرع الفتن بين الشعوب والأعراق والأديان، وتشكيل الميليشيات المسلحة وشن الحروب.
بعد حوالي عامين ونصف من الحرب ونتيجة لعجز الطرفين عن حسمها لصالحه ونشوء حالة توازن عسكري يصعب عليهما تجاوزها جرى التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في بيشكيك في أيار 1994 من قبل ممثلي أرمينيا وأذربيجان وقوات إقليم مرتفعات قره باغ الأرمنية وبوساطة روسية، وأنيطت تسوية النزاع لاحقاً بمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) برئاسة روسيا وفرنسا والولايات المتحدة. خلال ما يقارب ست سنوات (1988-1994) من أعمال العنف والقتل والتصفيات العرقية والحرب التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأرمن والآذريين نزح من أرمينيا جميع الآذريين وغالبية الكرد ومن أذربيجان جميع الأرمن، وبلغ عدد النازحين من كلا البلدين أكثر من مليون شخص. أما على صعيد النتائج على الأرض بعد توقف الحرب فقد بقي تحت سيطرة القوات الأرمنية الجزء الأعظم من إقليم مرتفغات قره باغ (92,5 %) وعدد من المناطق الأذربيجانية المحيطة به (الحزام الأمني).
بقي اتفاق وقف إطلاق النار ساري المفعول حتى الوقت الحاضر، ولم يتم إلغائه من قبل أي طرف من أطراف النزاع، على الرغم من تكرار المواجهات العسكرية بين الطرفين بين الحين والآخر وبالأخص خلال الأعوام الأخيرة، إذ اتهم كل طرف فيها الآخر بخرق الاتفاق، ولكن هذه المواجهات لم تتجاوز حدود الحرب المحدودة في الوقت والمكان والتي سرعان ما توقفت دون تغيير في الخارطة العسكرية للمنطقة، ولم تنقل النزاع خارج حدوده الجيوسياسية، بما في ذلك المواجهات في تموز 2020، فرغم أنها جرت بين قوات البلدين مباشرة على الحدود الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية لأرمينيا إلا أنها لم تخرج عن الحدود التقليدية المعروفة منذ ثلاثين عاماً وبقي النزاع محصوراً في إطار أذربيجان- أرمينيا.
أما الحرب الحالية فقد خرقت هذه القاعدة منذ انطلاقها في صباح السابع والعشرين من أيلول الماضي، وولدت لدى الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية القلق من تطورات جديدة غير متوقعة نتيجة لعوامل عدة رافقت الحرب وأهمها: عدم إخفاء أذربيجان نواياه في الحرب وإعلانه رسمياً عن بدئه عملية عسكرية واسعة ونيته عدم وقف القتال حتى تحرير أراضيه المحتلة، وكذلك المعلومات التي تداولتها المؤسسات والشخصيات الرسمية للدول المعنية بالتسوية (روسيا وفرنسا) ووصفها الرئيس الفرنسي ماكرون بالموثوقة عن وجود مرتزقة يقاتلون الى جانب أذربيجان جرى نقلهم من سوريا وليبيا عبر الأراضي التركية مما يشير بوضوح الى الدور التركي في الحرب والذي عبر عنه صراحة الرئيس النركي أردوغان منذ بدء الحرب بمطالبته أرمينيا بالانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة كشرط أساس لوقفها.
أثارت التداعيات المحتملة لمنحى الحرب الجديد قلقاً معيناً لدى الأوساط الدولية، وفي أجواء الحرب المشتدة والضجيج الإعلامي المبالغ به عن احتمالات المواجهة بسبب التدخل التركي في النزاع بين حلف الناتو وحلف اتفاقية الأمن الجماعي الذي ترعاه روسيا ويضم في عضويته أرمينيا، أصدر رؤساء مجموعة مينسك لتسوية الأزمة (روسيا- فرنسا- الولايات المتحدة) بياناً مشتركاً طالبوا فيه طرفي النزاع بالوقف الفوري للعمليات العسكرية دون أي تحرك على الأرض أو شروط مسبقة والجلوس الى طاولة المفاوضات، كما وعبر كل من مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عن قلقهم حيال العمليات العسكرية على امتداد خط التماس وسقوط قتلى وسط المدنيين في إقليم مرتفعات قره باغ، ودعوا الى وقفها الفوري والجلوس الى طاولة المفاوضات لتسوية الأزمة في إطار مجموعة مينسك، كما وأبدت روسيا استعدادها لإرسال قوات حفظ السلام الى منطقة النزاع حال موافقة الطرفين على ذلك. أما على الصعيد الإقليمي فقد أبدت إيران اهتماماً بالغاً بتطور النزاع، حيث يمكن سماع دوي القصف الصاروخي ورؤية لهيب الانفجارات عند حدودها الشمالية الغربية، ويُعد الآذريون ثاني أكبر قومية فيها ويشكلون الغالبية العظمى من سكان تلك المناطق، فسارعت بتقديم مبادرة لتسوية الأزمة لم تكشف تفاصيلها، وفي الوقت ذاته عززت من تواجدها العسكري والإجراءات الأمنية في المناطق الحدودية وحذّرت طرفي النزاع بأن انتهاك سيادة الأراضي الإيرانية يعد خطاً أحمر حتى وإنْ كان خطأً، مما يعكس مخاوف إيران الجدية من اتساع رقعة النزاع وتداعياته على أوضاعها الداخلية وعلاقاتها الأقليمية، وذلك ما دفعها لإيجاد تسوية سلمية عاجلة تحاول من خلالها الحفاظ على علاقات متوازنة مع طرفي النزاع في إحدى المناطق الحساسة جداً بالنسبة لها، فإيران كما وصف أحد الصحفيين مبادرتها "تسير بين أرمينيا وأذربيجان فوق ألغام التاريخ والمذهب والعرق والمصالح لبناء موقف متوازن ومحايد فتختار الحل السياسي وتطرح مبادرة لذلك"، ولكن من المستبعد أن تفلح في مساعيها الدؤوبة لأن طرفي النزاع يرتبطان باصطفافات أقليمية ودولية لا تتقاطع مع المحور الإيراني. في الوقت ذاته أعلنت جورجيا، وهي الدولة الثالثة في جنوب القوقاز عن استعدادها لاستضافة مجموعة مينسك لتسوية الأزمة. ولكن ما أثار الانتباه وسط هذه التحركات الواسعة والتصريات ما جاء في تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان الأكثر صراحة في انتقاده للموقف التركي واصفاً التصريحات التركية بأنها طائشة وخطرة ومعبراً عن قلق فرنسا وامتعاضها من تلك التصريحات "العدائية التي تطلق العنان لأذربيجان في عملياته" على حد قوله، ومخاطباً الأرمن " أقول بوضوح تام لأرمينيا والشعب الأرمني: فرنسا ستؤدي دورها وسنكون يقظين تجاه احترام حقوق العوائل والشعب ومراعاة السيادة، ولن نقبل أي تصريحات تصعيدية".
تؤكد هذه المواقف الرأي القائل بان تركيا نسقت مع أذربيجان دون علم الأطراف الدولية كافة، في محاولة جديدة لابتزاز الجميع ووضعهم أمام الأمر الواقع بعد تحقيق انتصار خاطف على أرمينيا. وذلك ما أكدته بما لا يقبل الشك تصريحات الرئيس أردوغان التي اتهم فيها الدول التي ترأس مجموعة مينسك بالتهاون لأنها على حد قوله لم تفعل شيئاً لحل القضية ولم تطلب من أرمينيا الانسحاب من الأراضي الأذربيجانية، مؤكداً أن بلاده ستواصل دعم أذربيجان بكل إمكاناتها انطلاقاً من مبدأ "شعب واحد في دولتين"، ورافضاً وقف إطلاق النار إلا بشرط انسحاب أرمينيا. الرئيس الارمني من جانبه علق على الموقف التركي قائلاً بأن أرمينيا وأرمن جنوب القوقاز يمثلون آخر عقبة أمام سعي تركيا للتوسع باتجاه الشمال والشرق والجنوب الشرقي، فضلاً عن تحقيق أحلامها الإمبراطورية، واتهمها بأنها تعتزم "مواصلة الإبادة الجماعية للارمن من أجل تحقيق أهدافها البروغماتية في المنطقة".
لم تسفر الحرب لحد الآن عن نتائج ملموسة على الأرض لصالح أذربيجان باستثناء تقدمه في بعض المحاور في الحزام الأمني، ومن الصعب الحديث عن حجم الخسائر بسبب المعطيات المتناقضة التي يوردها كل طرف عن خسائر الطرف الآخر وتبدو مبالغ فيها للغاية، ولكن طبيعة وحجم العمليات العسكرية والأسلحة المستخدمة فيها، وتجاوز الحرب حدود التماس وتعرض المناطق السكنية في عدد من المدن لقصف مكثف وبالأخص عاصمة الإقليم (ستيباكرت)، وكذلك معطيات الطرفين عن خسائرهما الذاتية تشير الى أن حجم الخسائر بلغ مئات القتلى ومئات الجرحى من كل طرف، فضلاً عن الأعداد المتزايدة للنازحين الأرمن من مناطق الإقليم والحزام الأمني التي شملتها الحرب. أما النتائج السياسية للحرب فأصبحت تتضح حتى قبل أن تحط أوزارها، فقد اكتسب النزاع ملامح جديدة تشير الى احتمال تحوله الى نزاع إقليمي أوسع مما هو عليه الآن، فمن جانب أعلنت اذربيجان صراحة بعدم جدوى المفاوضات وإنه ماض بالخيار العسكري حتى النهاية، واتهم الرئيس الأذربيجاني علييف الرئيس ماكرون بأنه أخرج فرنسا عملياً من مجموعة مينسك المعنية بتسوية النزاع لأنها تدعم أرمينيا، وأكد من جانب آخر بأنه لابد من مشاركة تركيا في تسوية النزاع. من جانبها هدّدت أرمينيا بالاعتراف بـ "جمهورية مرتفعات قره باغ" كدولة مستقلة في حال إصرار أذربيجان على الاستمرار بالحرب، وهو قرار سيكون العدول عنه شبه مستحبل في حال اتخاذه . كما وتجاوزت الحرب الحدود الجغرافية لأقليم مرتفعات قره باغ والحزام الأمني المحيط به، حيث تعرضت مدينة كنجة التي تعد ثان أكبر المدن في أذربيجان وتبعد عن خط التماس أكثر من مئة كم لقصف صاروخي يبدو أن الهدف منه فك الخناق عن الإقليم وتوسيع رقعة الحرب ونقلها الى أراضي أذربيجان لإجباره على الموافقة على وقف إطلاق النار.
هذه التوجهات الجديدة في سياسة البلدين قد تعود بالنزاع الى نقطة الصفر عند توقف الحرب قبل ثلاثين عاماً تقريباً، كما أن نتائجها السلبية أخذت تنعكس في التغير الحاصل في رؤية بعض الأوساط الروسية المعنية بالنزاع، فالرأي القائل بأنه لا حل للنزاع إلا بالطرق السلمية لم يعد سائداً بالمطلق كما كان قبل الحرب الحالية، بل أخذت تتردّد اليوم رؤية جديدة مخالفة ترى بأنه لم تعد هناك أية إمكانية للتسوية السلمية للنزاع مادام البلدان قد عجزا عن تحقيقها على مدى ثلاثة عقود، ولذلك فمن الضروري التوصل الى اتفاق دولي لفرض السلام وإجبار البلدين عليه حتى لو تطَلَّب الأمر استخدام القوات الدولية وذلك تجنباً لتوسٌّع رقعة النزاع وخروجه عن إطاره الحالي وتحوله الى نزاع اقليمي واسع، لاسيما وإن الأجواء الدولية مناسبة لاتخاذ قرار كهذا، إذ تتقارب وجهات نظر الأطراف الدولية المعنية بتسوية النزاع والتي عبر عنها بيان رؤساء مجموعة مينسك، وهي حالة نادرة في العلاقات الروسية الغربية خلال العقدين الماضيين ويجب استثمارها لتسوية النزاع مادامت قائمة وفقاً لهذه الرؤية الجديدة.
رافق الحرب الحالية تصعيد غير مسبوق في نزعات التعصب القومي المتبادل بين الأذريين والأرمن تتحمل مسؤوليته بالدرجة الاولى النخب الحاكمة في أذربيجان وأرمينيا لأن هذه النخب لم تتخذ طيلة عقدين ونصف أية خطوات عملية لتسوية الأزمة وتخفيف حدة العداء المتبادل من خلال تنفيذ مبادئ تسوية النزاع المعتمدة من قبل مجموعة مينسك في عام 2007 في مدريد والمتعلقة بإعادة الأراضي المحيطة بإقليم مرتفعات قرباغ الى أذربيجان، وضمان حق عودة النازحين والمهجرين الى أماكن سكناهم السابقة، وتحديد وضع قانوني مؤقت يضمن الإدارة الذاتية والأمن للإقليم لحين إجراء استفتاء بشأن وضعه القانوني النهائي وغيرها من الإجراءات، وكذلك من خلال حظر الخطاب القومي المتعصب وتعزيز الثقة المتبادلة ومد جسور اللقاء وبناء علاقات طبيعية بين الشعبين الجارين، بل أن تلك النخب انشغلت بترسيخ سلطاتها ومراكزها الاقتصادية واستثمرت هذا النزاع وحالة اللاحرب واللاسلم لحرف أنظار شعوبها عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واشغالها باستمرار "بالمخاطر والاعداء الخارجيين" ، وبالنتيجة وُلدت وترعرعت أجيال جديدة في أجواء من الكراهية والعداء المتبادل الذي جعلها اليوم مستعدة لتصبح وقوداً لإشعال حرب جديدة، فليس من المستغرب أن نجد آلاف الشباب من الاذريين والأرمن يقفون اليوم في طوابر الخدمة الإلزامية أو التطوع للذهاب الى الجبهة والمشاركة في حرب لا معنى لها ولا نتيجة سوى قتل الأخر والدمار للجميع.
خاطرة أخيرة: وسط ضجيج الحرب المتصاعد يوماً بعد آخر أغفلت وسائل الإعلام عبارة واحدة وردت في تصريحات الرئيس التركي أو نقلتها بصيغة تختلف عن التي استخدمها الرئيس نفسه عندما قال: "إخواننا لا يستطيعون العودة الى أرضهـم، وبما أنه لا يوجد تقدم في الموضوع فقد حان الوقت لتحقيقه اليوم، إذ بدأت أذربيجان باتخاذ خطوات لقطع الحبل السري بنفسه"، في إشارة واضحة الى (الحزام الأمني) الذي يربط إقليم مرتفعات قره باغ بأرمينيا ويشكل شريان الحياة بالنسبة للإقليم، وهي مقارنة وإن لم تكن موفقة لأنها تعترف عملياً بعائدية الجنين لأمه لكنها تعكس بوضوح الهدف الرئيس لهذه الحرب، ويبدو منها أن مصير الجنين والتشوهات الخلقية التي قد يسببها فك ارتباطه بأمه بهذه الطريقة الجراحية لا تهم الرئيس التركي بقدر نشوة الانتصار التي تفوح برائحة دماء "الأعداء". ذكرني ذلك بأصدقائي القدامى (ريِّس) الأذري و(لارا) الأرمنية اللذان وإن لم يستطيعا تحقيق حلمهم بالزواج لكنهما لم يلوثا نفسيهما بفايروس التعصب القومي والديني، ولم يسمحا للكراهية أن تشغل مكان الحب في قلبيهما، ولم يفكرا بقطع أواصر الصداقة والمحبة حتى يومنا هذا بعكس زراع الاحقاد وصناع الفتن وقطاع الحبل السري.
اترك تعليقك