كـلاشـنـِكوف.. اِنبثاق أسطورة

كـلاشـنـِكوف.. اِنبثاق أسطورة

علي الياسري

حملتها رمزيتها المتراكمة بفعل النشأة على يد البروليتاريا لتصل الى قدسية علم الدولة حين زينت راية موزمبيق. تاريخها الراديكالي جعلها في عقود عمرها الأولى أنشودة الثائر ببقاع الأرض المختلفة يستمد منها وهي تُزين شعار حركته حُلم كل مستضعف العدل والكرامة. بعدها بزمن صارت قرينة الكثير من فعل الارهاب عندما أنفلت عقال التزمُّت الديكتاتوري والعرقي والديني.

لم تكن مئوية ولادة ميخائيل كلاشنِكوف لتحظى بالاهتمام والاحتفالات التي شهدتها روسيا العام 2019 لولا اختراعه الاي كي 47. كيف لا وهي البندقية التي أضحت سلاحاً لكل واحد من سبعين شخصاً كنسبة للسبعة مليارات عدد سكان هذا الكوكب بواقع 100 مليون قطعة. على هامش كل هذا سعت السينما الروسية لصناعة فيلم يروي سيرة السنوات الست التي كتبت لحظات الولادة المضنية لها بيد جندي دفعته إصابته خلال الحرب دفاعاً عن بلده ضد اجتياح الجيش النازي ومشاهدته الفرق الهائل بنوعية الأسلحة الحديثة لدى المقاتل الألماني وضعفها وتخلفها لدى رفاقه السوفيت الى السعي الدؤوب لمحاولة ابتكار بندقية ألية يدافعون بها عن أنفسهم استوحاها من تلك اللحظات التي تمعن فيها بأعجاب بالبندقية الألمانية اس تي جي 44. كعادة بعض الأفلام الروسية في السنوات الاخيرة أهتم صانعوه بتقديم إابهار تقني يؤطره تصميم إنتاج يلتفت لدقائق الأشياء ويراعى الكثير من المطابقة للوقائع التاريخية بالأزياء والديكورات ومواقع التصوير وتطور السلاح بالاستناد للأرشيف الحربي، مع طيف واسع من التحفيز للعواطف بمسعى لتكريس أنموذج البطل وفق معالجة سينمائية أقرب للنهج الاميركي الهوليوودي من ناحية التكنيك والاستعراض البصري المقصود لجزئيات معينة! المخرج كونستانتين بوسلوف الذي بدأ عمله في عالم السينما كمنتج ثم جرب حظه بالإخراج حاول منذ فيلمه الثالث مقاربة أفلام السيرة فصنع فيلماً عن مصمم المروحيات السوفيتي ميخائيل ميل قبل أن يصل الى الأكثر شهرة ميخائيل تيموفييفيتش كلاشنِكوف. لاشيء مميز في أسلوبه اكثر مما تُعَلِمه الحرفة، لكنه يعرف كيف يحافظ على الإيقاع مثلما تذكره كراسة الدرس. ينوع في طبيعة المشهد البصري باحترافية من غير لمحات لافتة. 

نص الفيلم كُتب كسرد لولادة السلاح أكثر منها سبر أغوار حياة صانعه. يتمعن بالرغبة والإصرار والتفاني ومقاومة المعوقات التي واجهها كلاشنِكوف حتى الوصول للنموذج النهائي. إنها السنوات الست التي قضاها منذ جراحه البليغة العام 1941 حين اكتشف الحاجة الماسة لسلاح حديث سهل وبسيط وفعال يحمله الجندي السوفيتي لمواجهة الآلة الحربية المتطورة للألمان. ورغم أن السيناريو يرتكز على عملية تطوير البندقية وربطها باسترجاعات محدودة لطفولة المصمم توضح شغفه في الابتكار، وهو محور تم تحجيمه كما الحال مع بقية التفاصيل المتعلقة بحياة كلاشنِكوف سواء علاقاته العائلية أو العاطفية لمشاهد معدودة يغلب عليها صوت الراوي بما يشبه إشارات مقننة تترك الكثير من الأمور عائمة على السطح، إلا أن العرض لم يذهب الى صُلب الجزئيات التي شكلت المنهج العلمي والعملي للابتكار ولا حتى قدحات الأفكار التي ألهمت تأسيس النموذج الأول ثم مراحل تطويره لمعالجة نواحي القصور أو إعادة البناء للمنتج ككل. تبدو السرية التي طبعت العهد السوفيتي حاضرة فالمعلومة مبسترة إلا وفق ما يخدم الصورة الكلية المُبتغاة. فلم نعرف لماذا فشل في مسابقات تطوير الأسلحة التي كانت نشطة كثيراً وقتها؟ كيف تحدى إحباطه وما هي الحلول التي ساعدته في تحديث نموذجه؟ حتى الاستعارة من أفكار تصاميم بقية زملائه كانت ضبابية مبهمة مر عليها الفيلم سريعاً من خلال استعراض المساندة والدعم الشخصي، مع أن الأمر كان شائعاً وقتها لعدم وجود حقوق الملكية الفكرية في النظام الشيوعي والتي كانت متاحة للجميع. 

لم تكن عملية ولادة أشهر بندقية هجومية في العالم في ظروف معقدة عسكرياً سوى مغامرة عاطفية انبثقت من اوضاع الخسائر المضاعفة بالأرواح بسبب تخلف السلاح. يتحدى ميخائيل كلاشنِكوف التقييد البيروقراطي والسخرية في إشارة للعبقرية بمواجهة الروتين والبلادة، وهي حرب قاسية بحد ذاتها. يخلق بإصرار الصدف المناسبة. يطور علاقات وإيمان بمشروعه لدى الآخرين يسمح له بالاستمرار والتغلب على الاحباطات حتى بلوغ عتبة النجاح. فنشأتها كسلاح دفاع عن النفس متطور ليست أقل إثارة من تاريخها الحافل الذي سيأتي فيما بعد، هذا ما يريد أن يقوله لنا الفيلم، والذي ربما هو أيضاً تبرير لألم مصممها الروحي في أواخر حياته حيث لفظ أنفاسه متسائلاً بحيرة "هل أنا مسؤول إذا كانت بندقيتي سلبت حياة البشر؟" 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top