التحولات السياسية والثقافية التي حققتها ثورة تشرين

آراء وأفكار 2020/11/25 06:49:32 م

التحولات السياسية والثقافية التي حققتها ثورة تشرين

 فراس ناجي

لقد أثار تفكيك ساحات الاعتصام في الذكرى السنوية الأولى لثورة تشرين الكثير من التساؤلات حول ديمومة الثورة ومستقبل حركة الاحتجاج التشريني وآفاق عملية التغيير السياسي التي بدأتها الثورة خلال عامها الأول. كما تراوحت بعض الردود على هذه التساؤلات بين التشاؤم والتشكيك بإنجازات الثورة الملموسة على الواقع السياسي العراقي، والخيبة من عدم إنجاز التغيير السياسي المنشود أو الشعور بالخذلان من حكومة الكاظمي التي "أنهت" الاعتصامات وحركة الاحتجاج. 

غير أن التحليل الموضوعي لتطور الثورة في المشهد السياسي العراقي يشير بوضوح إلى أنها حالة تجلٍّ لنقلة نوعية للنزعة الوطنية العراقية وفورة لصراع خلال عقد من الزمان بين قوى اللا دولة المتأصلة في نظام ما بعد 2003 وبين شرائح واسعة متزايدة من المجتمع العراقي تسعى نحو إعادة بناء دولة المواطنة السيادية. 

كما إن اعتبار احتجاجات تشرين حدثاً طارئاً -نتيجة تصادف ظروف معينة- يمكن أن ينتهي بمجرد تفكيك ساحات الاعتصام، هو تقييم غير واقعي لمعطيات تطور الأحداث على المشهد السياسي العراقي والذي أدّى الى انفجار ثورة تشرين على النحو الذي شهدناه. فتلك الاحتجاجات يمكن عدّها مشروعاً لثورة أصيلة لها كل مقومات الثبات من عمق احتجاجي وأهداف راسخة ودعم شعبي واسع، يمكن أن تكمل مسيرتها في تغيير الواقع السياسي العراقي إذا تضافرت الجهود الوطنية لتحقيق ذلك.

ثورة ذات أهداف راسخة ولكن بمشروع سياسي قاصر

قد لا يختلف كثيرون حول الجانب السياسي الاحتجاجي لثورة تشرين بإعتبارها نموذجاً مكمّلاً وناضجاً لحركات الاحتجاج التي تزايدت وتيرتها منذ 2011، غير إن الإنجاز الأكبر لإحتجاجات تشرين والتي ميزتها عن سابقاتها هو في تأسيس بنية فكرية اجتماعية جديدة لم تكن وليدة الحدث نفسه بل نتاج التفاعل الثقافي بين الشباب العراقي خاصةً في وسط وجنوبي العراق خلال الفترة السابقة لانطلاق الثورة.

فقد أسس هؤلاء الشباب رؤيتهم الخاصة لواقعهم وتصورهم الذاتي لوطنهم العراق الجديد، والتي تختلف جذرياً عن الثقافة السياسية للنخبة الحاكمة التي اعتبروها السبب في انهيار الدولة أمام داعش وسرقة المال العام والفشل في تقديم الخدمات للشعب العراقي. ويتضح ذلك عبر الإنتاج الثقافي للشعراء الشباب – مثل محمد الطالقاني وسجاد الغريب ومسلم الشكري – إذ هاجموا الطائفية واستغلال الدين، كما ركزوا على سردية التناقض في واقع شعب مسروق معدم يدفع أبهظ الأثمان لبقاء سارقيه من الحاكمين بإسم الدين. 

كذلك عزز الشباب عبر تنظيماتهم الخاصة – مثل فريق "نستطيع" التطوعي في النجف وملتقى الأعظمية الثقافي في بغداد – تصوراتهم ورؤاهم في العديد من المبادرات والفعاليات الاجتماعية والثقافية التي أسسوا عبرها منظومتهم القيمية والأخلاقية البديلة، مثل العمل التطوعي للصالح العام وترسيخ المشاركة الحقيقية للمرأة والخصوصية الفردية.

لقد رفدت هذه الممارسات الثقافية الشبابية الرؤى السياسية لمحتجي ثورة تشرين وانعكست في خطابهم المطلبي العام تحت شعاري "نازل آخذ حقي" و"نريد وطن"، بالإضافة الى مطالب وشعارات فرعية كثيرة يمكن إجمالها بإزالة النخبة الحاكمة، وتغيير النظام السياسي، وتحسين الخدمات والأوضاع المعيشية، وتعزيز سيادة الدولة، ورفض التدخل الخارجي، وتعزيز الهوية الوطنية. 

ولكن في مقابل أهمية وضوح أهداف احتجاجات تشرين الشبابية وصداها الكبير لدى جماهير الثورة الواسعة خاصة في بغداد ومدن جنوبي العراق، غير أنها كانت تفتقر الى المشروع السياسي الذي يمكن أن يعمل على تحقيق إنجاز هذه الأهداف. ففي الوقت الذي كان مشروع ثورة تشرين السياسي هو إنجاز عملية التغيير السياسي بما يتناسب مع أهدافها في ظل مسار التغيير السلمي الدستوري، لم تتوافر رؤية واضحة لكيفية معالجة عدم التوازن في العلاقات مع إيران وأميركا باعتبارهما أكثر الدول تدخلاً ونفوذاً في العراق، أو معالجة الخلل في سيادة الدولة في علاقتها مع إقليم كردستان، أو معالجة الأزمة الاقتصادية المتجذرة والمتمثلة بالاعتماد التام على الاقتصاد الريعي وتضخم القطاع العام مع ضعف القطاع الخاص الوطني، أو حتى تحقيق إصلاح اجتماعي يمكن أن يقلل من سطوة النفوذ الديني أو العشائري أو التسلط العائلي. 

وهذا القصور هو ليس بالضرورة نتيجة خلل بنيوي في ثورة تشرين نفسها لأنه لا يُتوقع من مجاميع الشباب الذين توحدوا آنياً في الحركات الاحتجاجية وجمعتهم أهداف الثورة أن يتوصلوا الى رؤية سياسية لحل المشاكل والأزمات المعقدة التي يمر بها العراق خلال الفترة القصيرة للاحتجاجات، خصوصاً عند الأخذ بالاعتبار أعدادهم الغفيرة وتباين مستوياتهم الثقافية وتوزعهم الجغرافي على 10 محافظات. فعملية بناء الرؤية السياسية لمعالجة الأزمات المركبة التي يمر بها العراق حالياً، تتطلب التفاعل والتلاقح الفكري والثقافي بين مجموعة من النخب والمختصين والناشطين السياسيين لفترة طويلة، بالإضافة الى التداول والترويج مع الجماهير للوصول إلى حالة من التوافق لتبني رؤية سياسية وبرنامج عمل لتنفيذها.

إن المسؤولية الكبرى لهذا القصور في الرؤية السياسية البديلة للواقع العراقي الكارثي، تقع على عاتق الأحزاب الوطنية المشاركة في حركة الاحتجاجات نتيجة قصور النضج السياسي لهذه الأحزاب وضعف تفاعلها والنخب الفكرية الوطنية مع الأفكار الشبابية لبناء رؤية سياسية واقعية يمكن أن ترسم خريطة طريق لتحقيق أهداف الثورة.

إنجازات واقعية لمطالب طموحة

على الرغم من افتقار احتجاجات تشرين لمشروعها السياسي الذي يمكن عبره تحقيق أهداف الثورة، غير إنها تفاعلت بصورة خلاقة مع تطور الأحداث للتوصل الى نوع من التوافق بين مختلف الساحات حول مطالب الثورة عبر آلية "التناغم"، وذلك بتوافق بقية الساحات مع المطالب التي تطرحها ساحة الاعتصام الأولى. فقد تبنى الحراك التشريني مطالب ناضجة سياسياً تتمحور حول حصر السلاح بيد الدولة، ومحاسبة قتلة المتظاهرين، ومحاربة الفساد، مع إجراء انتخابات مبكرة عادلة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة. 

كما استثمرت حركة الشباب الاحتجاجية فرصتها السياسية ونجحت – خاصة في فترتها الأولى – في تحشيد الدعم الجماهيري للثورة من أجل الضغط على بعض الفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي العراقي – مثل مرجعية النجف والتيار الصدري – مما اضطرهم الى إسناد الثورة وتبني بعض مطالبها مثل استقالة حكومة عبد المهدي والانتخابات المبكرة وتغيير قانون الانتخابات والمفوضية وأخيراً الاشراف الأممي على الانتخابات القادمة.

لكن عدم نضج القوى السياسية الوطنية المشاركة في حركة الاحتجاجات، وعدم تبينها الحقيقي لمطالب الثورة، والقصور في التفاعل السياسي والفكري بين هذه القوى والحركة الاحتجاجية الشبابية، أدى إلى عدم الإنجاز الكامل لمطالب الثورة، خاصة مع محاولات أحزاب السلطة التملص من إنجاز هذه المطالب بشتى الوسائل مثل قمع واغتيال المتظاهرين والتسويف والحملات الإعلامية المضادة وأساليب المناورة البرلمانية. فأعضاء مفوضية الانتخابات من القضاة هم غير مستقلين تماماً، إذ لا يزالون في الخدمة وتحت تأثير مجلس القضاء الأعلى، كما إن القانون الانتخابي الجديد قد لا يخدم تحقيق أهداف الحركة الاحتجاجية في المدى القصير. أما حكومة الكاظمي، فأثبتت عجزها البنيوي والإرادي في محاسبة قوى اللا دولة وقصور رؤيتها لضبط المشهد الأمني عبر تبني سياسية "البحث عن مزمار للسيطرة على الثعابين" و"ألف عام من النقاش أفضل من لحظة تبادل إطلاق النار".

لكن على الرغم من هذه النقوصات في إنجازات ثورة تشرين على الواقع السياسي في العراق، تبقى هذه الإنجازات تمثل حدثاً فارقاً بالنسبة لتعقيد هذا الواقع، خاصة عند المقارنة مع الواقع السياسي لدول المنطقة الأخرى التي تعاني أيضاً من الانقسامات المجتمعية والصراعات الخارجية على أرضها مثل لبنان وسوريا واليمن. فيمكن اعتبار إن إنجازات الثورة جاءت ملبية جزئياً لطموح الثورة الواقعي على الرغم من عدم تلبيتها للطموح العاطفي لحركة الاحتجاجات الشبابية أو للجماهير الساندة لها في تحقيق تغيير سياسي جذري لنظام ما بعد 2003 المتهاوي.

لقد نجحت حركة الاحتجاجات الشبابية في عامها الأول في ترسيخ بنية فكرية جديدة في الوعي الوطني للمجتمع العراقي تستند على رفض الطائفية السياسية والتبعية للأجنبي ومحاسبة السياسيين الفاسدين على نتائج حكمهم الكارثية، بينما تعمل على تحقيق دولة السيادة والمواطنة والكرامة عبر التفاني من أجل بناء الوطن والصالح العام. 

كما نجحت في تهيئة المشهد السياسي العراقي للبدء في عملية التغيير السياسي عبر إقرار قانون جديد للانتخابات ومفوضية انتخابات من القضاة وموعد مبكر لإجراء الانتخابات القادمة تحت إشراف الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن مناقشة آفاق ثورة تشرين المستقبلية هي خارج نطاق هذه المقالة ويمكن أن تكون مادة مهمة لمقالة قادمة، إلا أن من الجدير هنا فهم سياق مسيرة الثورة في أنها الآن في حالة تحول نحو مرحلة الاستحقاق الانتخابي القادم والذي يتطلب أولويات وستراتيجيات عمل مختلفة عن المرحلة السابقة. 

فمن غير المتوقع أو الطبيعي ان تستمر حركة الاحتجاج الشبابية في العمل على التحشيد الجماهيري والاعتصام في الساحات على نفس الوتيرة كما في أيامها الأولى، بل عليها الآن العمل على تفعيل الثورة سياسياً للبدء في عملية ترجمة أهداف الثورة الى واقع ملموس. إلا أن هذا ليس أمراً تلقائياً وسهل التحقيق، بل يمكن أن يمثل تحدياً حقيقياً أمام حركة الاحتجاج الشبابية وقاعدتها الشعبية الساندة، خاصة إذا اخذنا بنظر الاعتبار المخاطر الحقيقية المحدقة بالثورة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top