سرديّات  آذر نفيسي .. حينَ تكون الكتابة عن الحرية والحرب

سرديّات آذر نفيسي .. حينَ تكون الكتابة عن الحرية والحرب

د. عبّاس آل مسافر

من يقرأ روايات الكاتبة الإيرانيّة " آذر نفيسي" يرسم في عقله خطين متوازين يسيران معاً، وهما، خط البحث عن الحرية وكشف المسكوت عنه ومحاولة الكتابة أو الخوض فيه.

من هنا يكون الشروع في قراءة كاتب معارض يحمل في جعبته الكثير من الأسرار والأماني والخفايا ليترجمه على شكل رموز وعلامات لغويّة ويحيلها إلى تعابير تتصل مع بعضها بشبكة خفية غير منظورة للقارئ إلّا بعدَ تحليل الخطاب الموجه للقارئ بجميع مستوياته.

نفيسي المولودة في طهران عام 1948 والتي عاشت طفولتها في أسرة ارستقراطيّة و الحائزة على زمالة من جامعة أوكسفورد عملت في البدء أستاذة للأدب الانكليزيّ بجامعة طهران والجامعة الإسلامية المفتوحة وجامعة العلامة الطباطبائي . وبعد أن تمّ فصلها من الجامعة بسبب رفضها ارتداء الحجاب غادرت إيران إلى الولايات المتحدة عام 1997. كتبت الكثير من المقالات في الصحف مثل نيو يورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال ونيويورك ريببلك. وظهرت في الكثير من المقابلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.

ومن خلال الطليعة الروائية النسويّة والتي كانت تتقدمها "نفيسي" فقد مثّلت اتجاهاً ثقافياً جديداً من خلال التوجه إلى اللغات الأجنبية الأخرى مثل الفرنسية والإنكليزية والروسية، والكتابة عن المسكوت عنه وتخصيص الرواية والقصة لتكون قالباً لما يردنَّ تسويقه من أفكار ومبادئ وخِطاب أيديولوجيّ، سواء ما برز منهن في مطلع التسعينيات أم ما ظهر منهن كمعارضات بعدَ قيام الثورة الإسلاميّة، مثل "أطفال جاكراند" لسحر دليجاني و"آزادي" للرواية باكرفان، و"دار غراسيه" لدلفين مينوي، وما كُتبَ باللغة المحلية بقي داخل أسوار البلاد لم تتعدَ حدودَها .

الخط الذي تسير به "نفيسي" هو الكتابة تحدياً للمسكوت عنه، واجتراراً لذكرياتها منذ اندلاع الثورة وما قبلها بسنوات فتسرد الصراع بين الطبقة الحاكمة بعد انتهاء الثورة وبين الطبقة الثقافيّة التي كانت تحلم بدولة مدنية لا دينيّة وكيف تم فرض بعض الأحكام الشرعيّة على النساء مثلاً، أيضاً هي تدين في كتابتها الحرب التي استمرت 8 سنوات من دون البحث عن المعتدي أو المعتدى عليه، بل ركّزت على النتائج التي تمخضت عنها تلك الحرب، مع ذلك هناك إشارات إدانة للسلطات الإيرانيّة في طريقة تعاملها مع ظروف الحرب وطريقة التعاطي معها لاسيما الإعلاميّ والتعتيم على شدّة الهجمات من الجانب العراقيّ وحجم الخسائر التي يتكبدونها، وتسرد أيضاً الحالة النفسيّة كانت تمرُّ بها أثناء تلك الغارات وكيف تمارس طقوسها المعتادة وهي تتحدى الحرب والكبت معًا ، وفي روايتها " أشياء كنتُ ساكتة عنها" والتي تلحقها بـلفظة "ذكريات" من ترجمة علي عبد الأمير صالح أيضاً الأشياء الكثيرة التي كانت لا تستطيع أن تبوحَ بها في بلادها لكن الآن هي في زمن البوح وزمن القول ما لايمكن قوله سابقاً، مع ذلك كانت متحفظةً في تلك السرديّات على أسماء من سترد حكاياتهم داخل الكتاب .

يمثل الهروبُ من البلد الأم والذي تعتقد "نفيسي" بأنّها أصبحت لا تستطيع أن تستمر العيش فيه، كالمستنجد بالرمضاء من النارِ، لأنها على الرغم من الحرية التي كانت تحلم بها، اصدمت بالثقافة الأميركيّة أيضاً ، ونجد ذلكَ واضحاً في ما سطرتهُ من مذكرات وروايات ، وقصص وشعر ودراسات نقدية وفلسفية وثقافية فكرية ، إذ فيها الكثير من تعرية الواقع المعاصر والزائف في الوقت نفسه ، نلمسُ ذلك جيداً حينما نقرأ روايتها " جمهورية الخيال...أميركا في ثلاثة كتب" ترجمة علي عبد الإمير صالح، حيث إنها تكتشف أميركا من الداخل أو عن قرب لاسيما إنها تدشن كتابها بمقطع من قصيدة " لتكن أميركا مرة أخرى أميركا" للشاعر لانسغتون هيوز، والتي يقولُ فيها :

لتكنْ أميركا مرة أخرى أميركا 

لتكن الحلمُ الذي أعتدت أن تكونه 

لتكن الرائدَ في السهلِ

باحثًا عن وطن يكونُ فيه حراً

أ أقولها بصراحة 

أميركا لم تكنْ أبداً بالنسبة لي أميركا، ومع ذلك إنني أُقسمُ ـ أميركا ستعود مجدداً. 

قراءة سيميائية لاختيار هذا النص يوحي لنا بأن هاجس البحث عن الحرية لم ينقطع بمجرد وصول "نفيسي" وبقية زميلاتها من المعارضات الإيرانيات أرضَ الأحلام، إنّما ستبدأ مرحلة أخرى لا تقل تعسفًا عن الأولى، وهي رفض المجتمع الغربيّ للشرقيّ، ثمَّ الجدار الصلد الذي بُني بينَ المواطن الأميركيّ والإيرانيّ لاسيما بعدَ قضية احتجاز الرهائن الأميركان في السفار الأميركيّة بطهران عام 1979 أي مع قيام الثورة الإيرانيّة، لذلك ستنتقل هذه الفئة المثقفة إلى خوض حرب أخرى وهي حرب إثبات حسن النية ومحاولة الاندماج بالمجتمع الأميركيّ والقبول بكل ما يطرحه من ثقافات حتى وإن كانت ضد قيمها أو فطرتها الإنسانيّة، وحين تسرد "نفيسي" قصةً قصيرة داخل روايته الآنفة الذكر من خلال حوارها مع شاب إيراني مغترب في أميركا حول المجتمع الأميركي حين يقول لها عبارة تبقى ملاصقة لذهنها دائماً وهي" هؤلاء القوم لايشبهوننا إنهم لا يكترثون بالكتب وما إلى ذلك" بالإضافة إلى فكرته بأنّ الثقافة تنمو مع الكبت لا مع الديمقراطيات.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top