التشكيلي عبد الرحمن الجابري.. محاولة لوضع تجربته الفنية في مسارها الحقيقي

التشكيلي عبد الرحمن الجابري.. محاولة لوضع تجربته الفنية في مسارها الحقيقي

جمال العتّابي

بسبب من صلته الوثيقة بالحياة، إكتسبت تجربة التشكيلي عبد الرحمن الجابري قدراً من إحياء الأشياء المألوفة في إستعادة حبّات الموروث الضائعة،

وهي تدخل في حدود مملكة التعبير الفني، بقدر ما هو مشحون بها حين يشتاق لنهر دجلة حين يتفرع عند العمارة، أو حين يحتسب أن امرأة تعشقه وحده في واحة صحرائه.

الجابري يمتلك القدرة في إستعادة أشيائه المنسية، لتغدو في النهاية تشكيلات إنسانية مبتدعة فاعلة في الحياة، ولعل خصوصية العمل الفني الذي إختاره عبد الرحمن، أنه يسبغ عليه شيئاً من ذاته ليجعله مقنعاً في الجانب الأبعد من عاطفته، ووجدان مفرداته تحمل ألوناً ورموزاً جديدة، تريد أن تخرج من تلك الأطر الماضية بحساسية مفرطة للّون.

لا يغيب عن ذهن المتابع ان الجابري إختار المنفى منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وإتسع أفق رؤيته الفنية كثيراً بالإطلاع على التجارب الفنية في بلدين أوربيين ( إيطاليا وأسبانيا) يقفان في الصدارة بين دول العالم في التجارب التشكيلية الرائدة والحديثة، فإستيقظت في أعماقه في زحمة الحياة الأوربية تلك الترتيلات الأولى من التأملات البسيطة الطفولية، على ضفاف مدينته (الكميت)، لتأخذ مدارات متعددة، محاولاً أن يدخل هذا العالم من أوسع أبوابه، وأن ينتسب إليه في كل موضوعاته التي تناولها بالرسم، دون أن يحصر همه في الخضوع لظواهر الأشياء، ولا لكلياتها.

لم تكتمل تجربة عبد الرحمن التشكيلية وهو مايزال طالباً في الأكاديمية، أو حتى بعد تخرجه منها، إذ إنصرف إلى التصميم والإخراج الفني في الصحافة، وهو بهذا إنما يقف في صف واحد مع مجموعة من التشكيليين العراقيين الذين لم يحققوا حضورا فنياً لافتاً في الوطن، بعد أن حاصرتهم سكاكين الديكتاتورية، وقبل أن يدخل الغزاة جلودنا، ويحتشدوا على أبوابنا، فإختاروا الإفلات وحياة المنفى، فكانت الأرض كل الأرض أوطاناً لهم.

في منفاه وقع عبد الرحمن في شباك التجريب، والمعابثات الشكلية، وإتجه نحو مدارات من الظلال والخيال، وإجتهد، وأخذ، وأعطى، موزعاً بين مؤثرات وتقنيات عديدة، محاولاً أن يحمّل أعماله أكبر قدر من المجاز التناغمي، والتوازن الإيقاعي، وإتجه نحو أنساق ورموز وتكوينات مثيرة مقلقة، تمثل أسلوبه الذي بدأت تتضح معالمه في سنوات أخيرة من حياته.لقد أدرك هؤلاء الفنانون منذ أول وهلة، انهم يجب أن يبدعوا صوتهم الحقيقي، وهكذا نظروا إلى ما وراء الأفق، وإستعاروا كثيراً من مفردات الاساليب الفنية في أوربا، ورغم ان الاقتباسات متعددة، إلا ان صوت عبد الرحمن يتميز بإنتهائه في ذاته.

لايختفي الموضوع في أغلب أعمال الجابري، ولا يتلاشى في نسيج اللوحة، إلا أن إشارات رمزية لونية تمنح سطح العمل قسطاً كبيراً من الوضوح، مع جماليات تشكيلية لابد منها لإيجاد نوع من التوازن في مواجهة القلق والمعاناة التي رافقت حياة الفنان، والمصير المحزن الذي إنتهت إليه .

شارك عبد الرحمن في العديد من المعارض الفنية في أوربا، كما أقام معارض شخصية له، إستقر في إحدى المدن الألمانية منذ عام 1982،حتى وفاته عام2010.

إن الأشياء التي تبعث على الحزن هي وحدها التي تدعوني أن أتذكرك يا رحمن، بعد غياب لعقود من الزمن عشت فيها وحدك في الغربة، فجأة يبعث لي الصديق الشاعر حميد الخاقاني صورتك، مبتسماً، خجولاً، رشيقاً، أنيقاً، صورتك هي نفسها التي أينعت غصناً في قلبي، لكنها إنطفأت ياحسرتي.

شئت وحدك أن تبني بيتاً مع صغيرتك عشتار، لكنك لم تهنأ حتى بهذه الأمنية، لقد إغتالوها، كلٌ أمسكَ بمعوله يهدم الحلم، وحين سافرت إلى بلاد (الأرصفة) لم تفكر أنك سافرت إلى بلاد الحسناوات، فقتلك حبك للوطن.

هاهي عشتار تفتح عقد ضفائرها، وتمشط شعرها، على أكتافك، وفي (نفنوفها) عطر من العراق، أين هي الآن،؟ ترى هل كبرت، وأصبحت إمرأة؟ كيف تلملم رسوماتك ولوحاتك، وأشياءك، وتخطيطات علقتها في غرفتك، ربما أصنع بالكلمات شيئاً يساوي حزنك المعلق بالجدران

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top