إضاءات شاعر العزلة    قراءة فـي تجربة عمّار علي كاصد

إضاءات شاعر العزلة قراءة فـي تجربة عمّار علي كاصد

عادل مردان

في فضاء البصرة المتبّل ، برائحة الماضي ،حيث حداثة الشعر، مازالت طريّة ، السياب - البريكان - حسين عبداللطيف - عبد الكريم كاصد أسماء حيّة تتواتر ، وصولاً الى المشهد الحالي .

في عزلة عمار علي كاصد . أقرأ بحذر ،وأتنهد ،في خمسة نصوص لها طعمها الخاص حيث الشعر يؤسس عالمه بعيداً عن تقاليد الذائقة نص (إشراق البرزخ ) المُستلّ ، من ( عزلة من زمرد 2005) . تنويع في فضاء الرثاء بعد إرتفاع البرزخ بكثافة غير معهودة ، تتوقف عين الرائي ، ذاهلة لتسأل :

لم أعدْ أراكِ ، أيّتها الأم الأرض، لأنّ المساء يستديم ، في شواغلك المضيئة ، يتمرأ مشهد الجلوس ،عند فناء الدار الكبيرة ، برأس يطرزه الشيب . البياض يتمدّد ، في تجاويف المنزل ،ويملأ الغرف القانطة ،حيث الأصوات تغادر مندهشة من هول البياض الممتد . ياللنزهة الطويلة ، في إحدى مقابر العائلة سؤال الرثاء يتموضع ،( في زحمة السنين أضعتهم ،أين نراكِ ستبحثين عنهم ؟) أيّ خيالٍ يزور الأم ، في كلّ لحظة ، للوراثة عِرْق كَليم . من تلك البئر البعيدة ، تمت سقاية ذلك النسغ ، الأسئلة لاتكف عن التجاور .... محاورة الذات المفجوعة، في فناء الدار الكبيرة ،لا ينتهي . تحت ظلّ الصخرة المشرفة ، يكون التفيء ، لأنّ الرمل كان شاهداً . لا يحتاج الشعر الى مفسر بل الى مشاركة ذهنية ، اذ يأتي الرثاء ، في ختام المشهد بينما تشارك الأم ،العزاء مع أحجار الأرض .

في البيت الأخير لضرورة إيقاعيّة ، حذف الشاعر -الى- التي تُعدّي الفعل ، واضعاً النقاط محلها. (كيف أضعتِ الشاهد وانعكستْ الأمداء في عينيكِ المرمدتين ولما تهتدي) .

النص الثاني ،في حقل الرثاء ، إذ يرسم الشاعر بورتريت للراحل محمود عبد الوهاب وهو مبطن بالسخرية . المرثي جنازته ، مرفوعة بأيدي المشيّعين . فجأة يمشي خلفهم ، وقد عاد الى الحياة ، بكامل عافيته ( شاباً وسيماً ،منتصب القامة ) الراحل يداعب المشيّعين ، بنكاته المعروفة ---- انحراف في جريان النص ، لأنّ أحدهم ،لم يبتسمْ ، تأكيداً لاستمرار ، غياب المرثي . دون جدوى حتى عاد حزيناً صامتاً يجرجر قدميه مثل جواد جريح لقد أيقن أنّ الأيدي المرفوعة ستحمله الى مقبرة الحسن البصري

ثالث النصوص يناور ، تحت ظلال ، لغة شفافة ، محايدة ،في فضاء الرثاء . مزحة أخرى لحياة قادمة ، ثريا النص ، تظهر في الخاتمة ، البورتريت لشاعر مخبول، اخذته أوهام الشهرة ،اذ يستعير حكاية بحار يعشق عوالم البحر، المراكب , البحارة , الحيتان ، ثم يبدأ بإلقائها ،الى سامعيه إنّه لم يركبْ البحر يوماً لم يرفعْ صارياً بوجه الريح يُلحق المستمعون بالموهوم، الذي سرق كيان البحار ، وألصقه لنفسه ، لُقبَ ( شيخ البحر). ما أن تذكر لقبه الجديد ،حتى تساقطت أوراقه ، حيث الخواء يدّب بطيئاً الى جسده. النص هجاء مبطن ، لايخلو من رثاء ، هذا ماتراوغ به ، ثريا النص ، بالعبارة التي يرددها، الشاعر .

في نص (الحرس القديم ) ، تبرز ملامح فن الهجاء واضحة ،لكنْ بمعطيات أخرى ، منها اللغة العالية لرسم بورتريت المهجو في ثريا النص الاضاءة الأولى (الحرس القديم ) ، وهي دالة تُشير ، الى63 شباط الأسود ، والثانية اهداء ، (الى م.م ) . مثقف عاصر الثقافة ،منذ ذلك الحين ، فكان فعالاً ، في أحداث تلك الذكرى .(م م ) تسيّد المشهد ،بعد ثلاثين عاماً ، اذ خلع بدلته الزيتونيّة ومارس كعراب ألمعيّ التبشير بثقافة التحديث ، أيّام الحصار المرعب . عندما يبحث ، عن البدلة اللّعينة تلك ،حين أخرجتها الذكرى ، من قمقم لاوعيه ، يراها زاهية ،إلا ماتبقى من أثر . إلا من أثر قديم بقعة دم على فخذه الأيمن النص الاخير ، نص الرؤيا . الرائي كيان هش ،يتمنى تحطيم المنصة. اما الرؤاة في الفضاء الحر ، فهم يسخرون ، من العاب البهلوان الكبير . المهجو لسانه ذَرب مخضرم قبل السقوط وبعده . ثلاثة أبيات هجاء ، ثم تتم المقارنة ، بالكيان الرائي ،حيث يجوب رامبو الشرق، راحلاً الى الرمال المتوهجة ، كأنّ ( الحياة الأخرى هناك ) ، عند زنجيات هرر ، او عند الساحل ، اذ لقب بإسمه ، في عدن، حتى اكتشف ، بعد ان امتلك الذهب : ماالحياة الا رحلة خاسرة . في نهاية المتن ، تشرق حقيقة ، ما اكتشفه الرائي : أيّ منهاج لرؤية القمامة ، كيف يمكن لشاعر المنصة اكتشاف ذلك؟ الأبديّ كان يروض الخيال كي يضع القمر بين راحتيه ويغسله عن كثير من الألم من فسحة ضيقة كان يرقب الوهن وهو يرتقيه حجراً حجراً لامنهاج لرؤية القمامة والتلذذ بعفونتها .

يُشيّد عمار كاصد ، عمارة نصوصه ، على بناء الفكرة ، بلغة موحية ،بعيداً عن تقعيرات البلاغة . أما أغراضه، فهي تراوح ، مابين رثاء وهجاء ، منحازاً بحسه المرهف الى فضاءات الوجع الإنساني .

 

نصوص مختارة عمار علي كاصد

إشراق البرزخ

بعدَ ما ارتفعَ بيننا

برزخٌ

كثيف..

لم أعدْ اراكِ ..

لقد أضحى مستديماً مساؤكِ

واقماركِ لن تظهر

ذاتَ مساء

توهمتكِ جالسةً

في فناءِ الدار الكبيرة

بسنيكِ العجاف

وبياض شعركِ الفاقع

وقد غمر ذلك البياض

تجاويفَ المنزل

وانفضتْ

من حولكِ الأصوات

ماذا

هل غادروا جميعهم؟

في نزهةٍ تطول

أم أنّكِ في زحمةِ السنين

أضعتهم

وأين تُراكِ ستبحثين عنهم؟

ولم يبقَ في الخيال

مدىً

لم تزوريه ..

أيّ دمٍ اورثتهم؟

ومن أيّ بئرٍ بعيدةٍ

أتيتِ بذلك النسغ؟

وأيّ صخرةٍ اقتعدتِ

تتفيئين ظلّها ؟

هل كان الرملُ شاهدكِ

حين حفرتِ باحجاركِ الأرض

وأودعتِ السّر في المكان البعيد؟

كيف اضعتِ الشاهد؟

وانعكستْ الامداء مرايا

في عينيك المُرمدتين

ولما تهتدي ... الطريق.

مرثية

كان محمود عبد الوهاب

يمشي مع المشيّعين

خلفَ جنازتِه

وقد تعافى تماماً

وبرأ من علتِه

حتى أنّه عادَ

شاباً وسيماً

منتصبَ القامة

كعادته..

راح يداعبُ المشيّعين

بمُزحِهِ

ونكاتِه الرائعة

لكنَّ أحداً من المشيّعين

لم يبتسمْ هذه المرة

وكأنّهم لم يسمعوا

كرر ذلك مراراً

دون جدوى

حتى عاد حزيناً

صامتاً

يجرجر قدميَه

مثل جوادٍ جريح

متيقناً

أنّه لم يعدْ

بينهم

سوى جثةٍ

يحملها المشيّعون

إلى مقبرةِ الحسن البصري.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top