الروائي: فلاح رحيم الواقعة ذاكرة موروثة

الروائي: فلاح رحيم الواقعة ذاكرة موروثة

ناجح المعموري

الرمز محمل بشحنة من المعاني ويتكرر ، لأن لغة سليم شعرية والرمز يختار لوذه فيه. ولان الشعر هو المكون البدئي للغة، فلا يجد اصوله في اللغة النثرية المعروفة بالحياة ،

بل يأخذ من الشعري فيها لكن سليم يغترف من اليومي شعريته ومن الحلم . هو خبير بالتقاط مفرداته ويلضمها بخيط غير مرئي .

حازت ام سليم مركزاً جوهرياً ، لما تمثله في البيت عبر تاريخ طويل، وشعت في كلامها رمزيات غير قصدية ، لكنها تتمتع بمعنى قوي يجعل من المفردة خطاباً مضاداً ، وهنا مكمن البراعة وهذا ما تحدثنا عنه في البداية وهو الملاحق للام وافضى بها للمخزن ، المكان الذي يتخذ صفة العزل وجعل السرد للمخزن مكانا للمعاقبة في الاولى للزوج المدمن « أنس « وفي الثانية لأم سليم نتيجة اسباب عديدة تكمن وراءها تمظهرات السلطة . وكانت ضحية قرد أبو محمود « الله يساعدها ، قردان في يوم واحد « .

ــ من القرد الثاني ؟

ــ شرطي الامن .

ــ اذن ثلاثة قردة .

نظرت اليه تستفهم ، ثم ادركت ما يعنيه فدفعته منزعجة :

ــ اصعد اصعد . انت اغاتهم / ص192//

انزلق رمز القرد نحو التبسيط بسبب الألحاح على تكراره بشكل سريع من أجل إبلاغ رسالة يريدها سليم ضد النظام ، لكنه لم ينتبه الى دور العظيم الذي يحوز عليه الرمز من خلال عمق دلالته والإحتفاظ بها طويلاً ، بينما الاستعجال بالإبلاغ به اضرار قوي بالمستوى الفني الذي يريد السرد تحقيقه .

ولابد من المرور على الرمز لكثرة تكراره مثلما اشارت لذلك مصادره التحليلية للرموز واشارت الى وجود نوعين من الرموز :

الاول مستمد من محتويات اللاوعي التي تجسد تنوعاً واسعاً للغاية من المكونات البدئية للأنماط العليا حسب مقترح يونغ . ولهذا الامتداد متروكات حروفية وصورية . لم تتواصل علاقته بالمرأة العراقية تواصل الالفة والحضور لا التهويم والغياب هدى هي المرأة العراقية في حياته .... كل ما عاش في حبها من مسرات وخيبات ينتمي الى الوهم لا الواقع نغمة او زهرة على غير موعد . لم تكن يوماً مصدر خبرة يستعين بها على معرفة عالم الانوثة الواقعي ، مصدره الوحيد في التعرف على الانوثة كانت بيانكا ، القادمة من بعيد ، لا تتكلم العربية ، ولا تمت بصله الى حقائق التواصل اليومي مع الانوثة العراقي / ص195//

وجود سليم في الانبار موظفاً بشركة بولونية فرصة نادرة جداً ، وكان وجوده معاكساً لما توحي به الأنبار بجغرافية جزيرية . إنفتح الباب واسعاً أمامه والعلاقة بالشركة ممتازة على الرغم مما يوحي المكان القاحل ، والمقبرة بظهر الدار ، لكن سليم قادر على أن يعيش الحياة ومحاولته تعلم اللغة والموسيقى ذات حضور طاغ للغاية . الاشارات للمكان معطلة ، لان بيانكا الملاك الهابط من السماء جعل من الحياة الصعبة مقبولة ، تحركت فيها الكوامن التي تدب بهدوء وكأنه يدغدغ سليم الشرقي الذي انقذته بيانكا من ويلات الحرب التي لم تستغرق المحاورات وقتاً طويلاً حتى تأكد بأن ما حصل هو ذوبانه معها وهي اومأت له . ليس سهلاً على المرأة بث شفرة واحدة تعلن من خلالها رسالة حب لأنسان شرقي . ما زالت قبلتها عالقة بشفتيه عسلاً ، منحته واعطاها طاقة الفحولة الشرقية وشعرت بيانكا بأنها انتصرت على زوجها المنتمي للنظام وحزبه الدموي الذي اغتال والدها .

الحب العميق يفيض بعد الطفح . لكن سليم غادر مكانه وظلت خزانة الذاكرة محتشدة بالجنون والاستعادات جماليات الحكي بالمساءات . ودارت الدنيا ، عودة الى الجبهات ، لكن سليم يحمل بيانكا معه وكأنه وضع في شخصيتها النساء اللاتي تعرف عليهن في القنافذ وفي حبات المطر .... حبات الرمل واعني بها هدى .

هدى في مرايا السرد متكررة ، في محطة القطار ، ابتداء زمن بين الاثنين ، تبدى جسدها وكأنها المتجهة نحو مكان الزواج ، جسدها متوتر ، ممتلئ بالعلامات الايقونية ، كلها تلوح بلحظة التوتر والتشنج ، وخلقت حالة مرتبكة في أعماق سليم وهو متداخل مع يد راهي المحكوم خمس سنوات ، خشيته ان ترى معلقاً بالقيد ويلتبس لديها الامر . ومعروف ان الجسد واقعة حاضرة من المكون الاجتماعي العام ، لكن الجسد محمل بالدوال ، مثال ذلك جسد هدى وجسد صديقتها . كذلك جسد سليم وراهي الذي سيضيع طويلاً . هنا تدخل القراءة فضاء التأويل والكشوف العلاماتية لان الجسد موضوع وله سمة في المكان ، يعني حجم ملحوظ لا يكون به ومن خلاله . وانه علامة وكل الايقونات تقترب من الفحص حتى تكتمل صفتها وتدخل ضمن نسق يمنحها القيمة التي تكمن فيها وتتنوع عبر الفهم وعلى الرغم من كل محاولاتنا للتسلل الى لحظة المحطة التي إختصرت تاريخاً للحرب ، وأخرى لمزاولة متعتها وتنتج دراما ، القانون الزرادشتي الذي هو الموت . والاكثر إثارة للدهشة مجاورة هدى مع بيانكا الاولى إعتصاره للتينة بالحلم وسال عسلها على شفتيه ، مماثلة قبله بيانكا التي ما زالت حلاوتها عالقة بشفتيه ووجود هدى ايضا في بيت علياء وستار واللقاء بينهما ، هذه ليست حلقات للربط بين الوحدات السردية ، بل هي وثيقة التشكل بين الجسدين ، لكن هدى فكت الجنون بينهما . الاغراء الذكوري منزلق ونتائجه خطيرة وما حصل لهدى مماثل للقانون الزرادشتي ، اي المأساة ، لا بل هي مأساة لا تقوى الانثى كهدى احتمال الصدمة وتنوعاتها وتعدد خساراتها ... انه الموت المضاعف حارث اولاً وهدى التي تعطل جسدها ومثل هذه الحالة يعني الموت.

قالت سيمون دي بوفوار: ان غياب الجسد عذاب لا يطاق بالنسبة للمرأة. انه عين ، انه قاضٍ ، انها بائسة ، بعيدة عنه ، ويائسة من نفسها وكذلك من العالم .

هدى صامته . وعلياء متكلمة وضاجة بالكلام، لأن ما لديها كاف عن تغير صورة الحياة وتوفر لها جمالاً وسعادة يتنمل بها جسدها للعراف للرعشة ومحاولة اصطيادها في اللحظات التي لديها شعور بالغبطة، لكن هدى لا تعرف غير اللمسات التي تعني نوعاً من التبادل والاتصال الرمزي كما قال المفكر ليفناس. ان علياء تتكلم وصمتها قليل . اللسان يذهب يسرع نحو درجه الذي تعرفه الذات وتتباهى به الكينونة ويغني احيانا .

عاشت علياء سعادة الام وهي ترى لحظة عبور يعيشها الذكر مرة واحدة في حفل الختان، لأول مرة يسيل دم الذكورة وسط حفل وابتهاج، لكنه بصمت، يركن الى التوقف حتى تحين لحظة النزف والموت. الذكر في الختان مضطر للموافقة على الالغاء ومعاينة البعض المذبوح . طقس ، عيد ، يبث شيئاً من التعويض المقنع للموت الذي طارد كريم ، الذي سيظل حاضراً اسماً ومرويات وسريات الثنائي التشاركي بينه وبين علياء. الجسد الحي لا يغفل نزواته وشهواته، وكلما تمتد السنوات وينمو الطفل المذكر، تصحو ملامح الاب الموروثة وتتحول نصاً اقرب للكمال ، له مروياته غير المنعزلة / يولد الجسد معطى انفعال وغريزي وثقافي عام . ولكن هذا المعطى لا يدرك الا من خلال الاجزاء ندرك ــ تفاوتها في القيمة والموقع والحجم . انها محكومة الاستعمالات: الاستعمالات العملية « النفعية « والاستعمالات الغريزية والاستعمالات الثقافية/ الاسطورية فالجسد باعتباره بؤرة لتجلى العملي الغريزي والوظيفي / والاسطوري / الثقافي يعيش بشكل دائم / سعيد بنكراد // الجسد / اللغة وسلطة الاشكال / المصدر مجهول.

انا اعتقد بأن الختان والموسيقى وهدايا الاسلحة ليست ولادة صدفة او دلالة اعتباطية ، هذا الثالوث الذي توسطته علياء والطفلين والختان والسلاح اللعبة لكنه مشحون بالتوتر ارادت الام حضور الموسيقى للاحتفاء بختان طفليها حتى تعوض بذلك غياب كريم ، معنى ذلك سيظل كريم موسيقاها وكل الانغام لكني اتوقع بأن الاحتفال رسالة سنعرف مدونتها مستقبلا ، وهي واثقة بأن الطفلين سيكون لهما ما لوالدهما من عناصر وخصائص وسمات مميزة لهما ، يذكرها الاصدقاء ويستعيدون صورة الغائب . اما اللعب الاسلحة ، هدايا اتحاد النساء ، اخطر الايقونات التي بثها خطاب المؤسسة الثقافية والعسكرية : المفهوم الثقافي الحديث هو أن اللعبة بمعنى ما تؤلف عالماً افتراضياً يمكن الطفل فيه تعلم ما يمكنهم اولا يمكنهم فعله والدور الذي يؤديه الطفل في هذا العالم لعبة او بروفة يستعد من خلالها للعيش في العالم الواقعي .

وبالإمكان اضافة رؤية سوسيولوجية عن اسلحة الاطفال: مقومات صغيرة حياتية تعبر عن سائد ــ مختلف بالوظائف يساهم ببناء تكوين العقل وتأسيس المجتمع سوسيولوجيا .

وظيفة منظمة اتحاد النساء بتوزيع الاسلحة والمصنعة خصيصاً تمثيل واضح لخطاب يؤهل بوقت مبكر لتدشين الموت رمزياً . لان المؤسسة الكبرى تدرك بوعي بأن الاطفال سيكبرون ومع الحروب ويشاركون بها . فالحروب مستمرة ، ما دام العقل معطل وهكذا هو في لحظة انفلات الافكار وتخلخل قوة العقل وامكاناته الكبرى .

إستيراد الاسلحة وتوزيعها يساهم بخلق الارتياب من وهم الاستهداف ، لذا تتحول رموز الاسلحة الثقافية البدئية الى نماذج حقيقية .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top