المطلوب معجزة اقتصادية عراقية!

آراء وأفكار 2021/12/28 10:51:25 م

المطلوب معجزة اقتصادية عراقية!

 د. ناجح العبيدي

الصراحة ليست من شيم السياسيين عادة، لكن وزير المالية العراقي علي علاوي شذ عن هذه القاعدةعلى الأقل في كلمته أمام (الملتقى الوزاري لآفاق طاقة المستقبل) عندما كشف بوضوح عن التحديات الخطيرة التي تنتظر الاقتصاد العراقي في المجالين النفطي والمالي على المدى المتوسط والبعيد. ربما يئس علاوي من تولي حقيبة وزارية في الحكومة الجديدة المرتقبة، ولكن هذا لا يقلل من أهمية صراحة وجرأة مداخلته أمام مسؤولي قطاع النفط العراقي.

انطلق وزير المالية من توقعات متشائمة لأسعار النفط خلال السنوات العشر القادمة في ضوء قرارات الكثير من الدول الصناعية بالتحول من مصادر الطاقة الأحفورية كالفحم والنفط والغاز نحو مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، وعلى رأسها الشمس والرياح. وهذا ما تأكد مؤخرا في مؤتمر الأمم المتحدة بشأن المناخ في غلاسكو. صحيح أن أسعار النفط سجلت في النصف الثاني من عام 2021 ارتفاعات متتالية بعد الانهيار المريع في 2020 جراء تداعيات جائحة كورونا، إلا أنه لا يمكن الركون إلى استمرار هذا الانتعاش وعدم حصول أزمة جديدة. لذا يستحسن استغلال هذا الوضع الإيجابي لإجراء الإصلاحات الهيكلية التي طال انتظارها في الاقتصاد العراقي تحسبا لانهيار جديد في أسعار الذهب الأسود الذي يبدو أنه سيواصل فقدان بريقه في السنوات القادمة. قد يرد البعض بأن النفط ليس فقط مصدر طاقة مغضوبا عليه حاليا وإنما هو أيضا مادة خام مطلوبة، لا سيما في الصناعات الكيميائية. غير أنه من الواضح أن هذا الطلب لن يعوض إطلاقا تلاشي الطلب على البنزين ابتداءا من عام 2030 حيث قررت كبرى شركات صناعة السيارات التركيز على إنتاج السيارات الكهربائية والتخلي تماما عن السيارات العاملة بمحرك الاحتراق الداخلي والتي هيمنت على الطرق حول العالم خلال قرن ونصف القرن.

حتى لو صحت التوقعات المتفائلة ببقاء أسعار النفط في مستوى يزيد عن 75 دولارا للبرميل، وربما تجاوزها لحاجز المائة او المائتين دولار، فإن ذلك لن يغطي على الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العراقي ولن يمثل سوى مسكن للمضاعفات التي يعاني منها منذ عقود بسبب هيمنة الدولة الريعية وانكشافه على التقلبات الحادة في السوق العالمية للنفط.

لقد كشف علاوي عن بعضها عندما تحدث مثلا عن أن فاتورة المعاشات التقاعدية وحدها تلتهم حاليا 19 ترليون دينار (أكثر من 13 مليار دولار)، مشيراً إلى أنها سترتفع قريبا إلى 25 ترليون دينار مع انضمام متقاعدين جدد إلى قرابة 2,5 مليون متقاعد في العراق. ولا يستبعد أن الرقم أعلى من ذلك بكثير مع تخفيض سن التقاعد إلى 60 عاما واتخاذ قرارات قرقوشية بهذا الشأن، ومنها مثلا شمول عشرات الآلاف مما يسمى بـ”محتجزي رفحاء” بتعويضات تقاعدية تكلف الدولة العراقية أكثر من 100 مليون دولار شهريا. ومن المؤكد أن فاتورة التقاعد الباهظة تقل كثيرا عن فاتورة مرتبات الموظفين الحكوميين التي تستحوذ على حصة الأسد من الميزانية العراقية. ولا يمثل ذلك تبديدا هائلا للمال العام فحسب، وإنما أيضا عنوانا صارخا للظلم وانعدام العدالة الاجتماعية. فكيف يمكن تبرير استحواذ شريحة الموظفين الحكوميين، حتى وإن كانت كبيرة، على معظم الثروة الوطنية، بينما تبقى فئات واسعة، وخاصة في القطاع الخاص، خالية الوفاض، ناهيك عن التراجع الخطير في الاستثمارات الحكومية الضرورية لنمو الاقتصاد الوطني. يرتبط هذا الاختلال بظاهرة أخرى كشف عنها وزير المالية في كلمته، وهي التضخم غير الطبيعي في جيش الموظفين الحكوميين. لقد صرح علاوي بأن عدد الموظفين في وزارة المالية والمرافق والمصارف التابعة لها يبلغ 33 ألفا!!!، بينما لا يزيد العدد في دولة الإمارات التي تتمتع بضعف الناتج المحلي الإجمالي عن 180 فقط بحسب بيانات الوزير العراقي الذي طالب بثورة إدارية.

وكان هذا الظلم والتمييز الواضحين في توزيع المال العام بين القطاعين الحكومي وغير الحكومي، كان ولا يزال سببا رئيسيا لاشتعال صراعات عنيفة، والتي تتجسد بين الحين والآخر في احتجاجات الشباب الغاضب ومطالبتهم المتكررة بفتح “باب التعيين” رغم اقتناع الجميع بوجود عمالة فائضة في القطاع الحكومي.

كما ألقى وزير المالية الضوء على العبء المالي الكبير الذي تتحمله ميزانية الدولة نتيجة أزمة الكهرباء وعدم اعتماد آليات السوق في تسيير هذه القطاع الهام. يبلغ مجموع ما تنفقه الدولة على توليد الكهرباء سنويا 20 ترليون دينار، بينما لا تجبي من المستهلكين سوى ترليونين دينار فقط، أي أن الأفراد والمرسسات الحكومية والشركات والتجار لا يدفعون سوى 10 % فقط من قيمة الكهرباء المتمثلة في تكلفة النفط والغاز المستخدم والرواتب والإهلاكات وغيرها من المضروفات التشغيلية لتوليد التيار الكهرباء. إنها دعوة سافرة للتبذير وعدم الترشيد في الاستهلاك، وفي سرقة المال العام أيضا. صحيح أن فساد النخب السياسية يلعب دورا لا يستهان في هذا الاختلال، ولكن الهوة الشاسعة بين تكلفة الكهرباء وتعرفتها وكذلك ظاهرة التعدي على الشبكة وسرقتها والتخلف عن الدفع تشكل الأرضية الخصبة لاستفحال أزمة الكهرباء الأمر الذي يساهم أيضا في تخويف المستثمرين المحليين والأجانب.

ما كشفه وزير المالية ينبه إلى ضرورة بلورة رأي عام سياسي وشعبي يجمع على ضرورة البدء فورا في إصلاحات اقتصادية جذرية لأن أي إبطاء سيعني تفاقم الأزمة وتضاعف فاتورة حلها. فالدولة الريعية دخلت في مأزق حقيقي، لا سيما في ظل الانفجار الديموغرافي الذي يشهده العراق منذ أكثر من 70 عاما والذي يهدد بخروج الوضع عن السيطرة ويوفر المزيد من الوقود البشري للصراعات الإثتية والمذهبية والمناطقية والعشائرية في العراق.

ما يحتاجه العراق هو باختصار شديد معجزة اقتصادية حقيقية على غرار المعجزة الألمانية أوالصينية أو الكورية- الجنونبية وغيرها. جميع هذه المعجزات تقوم على مبادئ عامة مُجربة وصالحة لكل بلد، وهي تحرير الأسواق وإعادة هيكلة القطاع العام وتحفيز المبادرة الخاصة ومكافحة الفساد والبيروقراطية والتوظيف الذكي لأدوات السياسات المالية والنقدية بدلا من الأوامر الحكومية. بطبيعة الحال يعتمد النجاح في ذلك على تطبيق خطوات مدروسة بعناية وحساب دقيق للتكاليف الاجتماعية والسياسية ومراعاة تداعياتها الاجتماعية على مختلف الفئات الشعبية، ولكننا بالتأكيد لا نحتاج لاختراع العجلة من جديد والتعكز على “الخصائص الوطنية”. منذ عام 2003 لم تزد الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية عن عدد أصابع اليد، وفي مقدمتها استحداث عملة جديدة وترسيخ مبدأ استقلالية البنك المركزي ورفع أسعار الوقود والمحروقات منعا لتهريبها إلى الخارج، ثم أخيرا القرار الهام بتخفيض سعر صرف الدينار العراقي والذي ساهم في تخفيف الأزمة المالية في ظل ظروف قاهرة وصعبة.

كان بإمكان علي علاوي أن يستغل كلمته للإشادة فقط بـ”إنجازته” من خلال الإشارة إلى الانفراج الواضح في الوضع المالي والارتفاع الكبير في احتياطيات النقد الأجنبي مقارنة بالفترة السابقة عندما تسلم فيها حقيبة المالية في أيار/مايو 2020. لقد حالفه الحظ كثيرا لأن أسعار النفط تضاعفت عدة مرات منذ ذلك الحين، ولا يستبعد أن هذا منحه على الأرجح القدرة على المصارحة والمكاشفة بهذه الطريقة. ولكن هذه الحقيقة لن تقلل من أهمية صراحته ودقه لناقوس الخطر.

على الأرجح خلق وزير المالية له أعداء كثيرين في بلد لا يستسيغ الصراحة على المستويين الشعبي والرسمي، وإنما لا يزال يحبذ الشعارات والايديولوجيات “الثورية” والكلام المنمق عن “الفقراء” و”الكادحين” و”المستضعفين”. ولكن يبقى الأمل بأن تساهم تحذيرات علاوي في حدوث هزة إيجابية تُهيأ الأرضية للسير على طريق إصلاح الاقتصاد العراقي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top