تاركوفسكي..الرجل الذي رأى الملاك

تاركوفسكي..الرجل الذي رأى الملاك

موسكو – عبدالله حبه

إفتتح في 14 تموز بموسكو معرض مكرس الى اليوبيل التسعيني للمخرج السينمائي الكبير أندريه تاركوفسكي تحت عنوان «اندريه تاركوفسكي. السينما كصلاة «.

وعنوان المعرض هو تسمية الفيلم الوثائقي الذي أخرجه في عام 2019 نجل المخرج الذي يستعرض فيه المسيرة الإبداعيه لأبيه. ويتألف المعرض من عدة أقسام يكرس كل قسم الى الأعمال من أجل فهم إ بداع تاركوفسكي. وهناك قاعتان لعرض الأفلام وللصور الفوتوغرافية من أرشيف العائلة وتظهر مدى إهتمام المخرج بتصوير المشهد بحيث يبدو وكأنه لوحة فنية.ويقام المعرض بدعم وزارة الثقافة ومعهد تاركوفسكي الدولي.

وفي يوم 22 تموز سيبدأ في مدينة يوريفتس، حيث أمضى تاركوفسكي فترة صباه ويوجد متحف بإسمه، المهرجان السينمائي الدولي «المرآة «في دورته السادسة عشرة. و»المرآة» هي تسمية أحد أفلام تاركوفسكي الذي رفضت السلطات السماح بعرض في حينه بحجة أنه «غير مفهوم «. وسيفتتح المهرجان بحفل موسيقي تعزف فيه مقاطع من الموسيقى التي إستخدمها تار كوفسكي في أفلامه ومنها أعمال باخ وبيتهوفين وسترافينسكي وغيرهم.

وقال قسطنطين نافيكوف مدير المهرجان إن المهرجان الحالي يشكل تحديا للعاملين الذين نجحوا في جذب المشاركين فيه من 28 بلدا وتشكيل هيئة تحكيم من ممثلي مختلف البلدان لكي يجري الإحتفال بيوبيل تاركوفسكي على نطاق واسع.

يعتبر إبداع تاركوفسكي السينمائي ظاهرة بارزة في الثقافة العالمية لأنه لم يعتبر السينما حرفة لكسب الرزق، بل هي فن قبل كل شئ، ولهذا لم يصبو الى كسب المال من عمله. وأفلامه تتحدث عن آلام وآمال إنسان أخذ على عاتقه مهمة تحمل عبء المسئولية الإخلاقية للبشرية جمعاء. وسيرة حياة تاركوفسكي إقترنت بمصاعب ومحن كثيرة وتميزت أحكامه المفاهيمية والفنية بالإصالة والعمق.

وقد فقد تاركوفسكي الصلة بأبيه الشاعر المعروف أرسيني تاركوفسكي منذ طفولته حيث إنفصل الزوجان منذ أن بلغ التاسعة من العمر. وصار يتنقل مع أمه من مكان الى آخر، ودرس الموسيقى ثم الرسم. وفي فترة 1951-1952 درس اللغة العربية في معهد الإستشراق بموسكو لكنه ترك الدراسة بعد إصابته في رأسه في أثناء التمارين الرياضية.

وإلتحق في عام 1953 في بعثة علمية الى سيبيريا ذات الطبيعة العذراء وتركت هذه البعثة آثارها في أفلامه لاحقا. وفي عام 1954 إلتحق بمعهد السينما بموسكو في قسم الإخراج تحت إشراف المخرج المعروف ميخائيل روم. وقرر تاركوفسكي طرق درب «سينما المؤلف» حيث يقوم الفنان بكتابة السيناريو والإخراج وإختيار الموسيقى المونتاج بنفسه. وهذه الفترة تأثر الفنان لحد كبير بأعمال إيزنشتين وجيرمان وكوروساوا وفيلليني. وتخرج من معهد السينما بدرجة إمتياز في عام 1960.

كان فيلم «طفولة إيفان «أول أعماله الذي نال عنه جائزة في مهرجان البندقية. ثم بدأ العمل في إخراج فيلم «أندريه روبليوف» وظهر فيه تأثره بأعمال كوروساوا وبريسون. وبطل الفيلم رسام الإيقونات يبحث عن معنى لوجوده في العالم. وكان الوضع في الإتحاد السوفيتي قد تغير بعد وفاة ستالين وبدء فترة الدفء الخروشوفية. وخففت الرقابة الحزبية ضغوطها على رجال الفن والأدب. وحاز على الجائزة عن هذا الفيلم في مهرجان كان وبدأت شهرته العالمية به.

في عام 1970 أخرج فيلم «سولياريس» المأخوذ عن رواية للكاتب ستانيسلاف ليم ذات الطابع الفلسفي والخيالي. وكشف تاركوفسكي فيه عن نظرته الى الإنسان والجانب الروحي لحياته بعيدا عن الإنتماء القومي والثقافي. وحصل الفيلم على جائزتين في مهرجان كان.

وفي عام 1974 أخرج فيلم «المرآة» الذي أثار جدلا كبيرا لكونه يتسم بنزعة فلسفية – شاعرية ويرفض الشمولية في السلطة. وقررت السلطات إن الفيلم غير مفهوم ولا يصلح للعرض. لكن هذا الفيلم بالذات جذب أكبر عدد من المشاهدين في دار السينما الوحيدة التي عرض فيها بموسكو، وكانت طوابير المشاهدين تقف طوال الليل لشراء تذاكر اليوم التالي. وقال تاركوفسكي للمسئولين في إدارة السينما أن السينما كفن لا يجب أن تكون مفهومة للجميع شأنها شأن الفنون الأخرى.

وعندما وجد أن السلطات لا تسمح له بالعمل في السينما تحول الى المسرح فأخرج مسرحية «هاملت «لشكسبير في مسرح ليننسكي كمسمولتس، وصرح بأنه يرغب في إخراجها للسينما أيضا. لكن سبقه في ذلك المخرج الكبير كوزنتسيف الذي أخرج «هاملت» و«الملك لير» بنجاح باهر.

وفي عام 1979 أخرج فيلم «ستالكر» المأخوذ عن رواية الأخوين ستروجاتسكي ذات الخيال العلمي. وقوبل الفيلم بالفتور من قبل السلطات وسدت الأبواب أمامه.

عندئذ وفي عام 1980 بدأ ت مرحلة الغربة في حياة أندريه تاركوفسكي وإستمرت ستة أعوام. حيث سافر الى إيطاليا آنذاك من أجل إعداد سيناريو فيلم «الحنين» الذي عرض في مهرجان كان في عام 1982 وحاز على جائزة بالرغم من معارضة الوفد السوفيتي في المهرجان. وعندئذ طلب تاركوفسكي من السلطات السوفيتية السماح له بالبقاء في إيطاليا لمدة ثلاثة أعوام والسماح لأفراد عائلته للإلتحاق به. لكن رفض طلبه فبقي في الخارج. وفي عام 1982 أخرج في مسرح كوفنت جاردن بلندن أوبرا الموسيقار الروسي موسرجسكي «بوريس جودونوف». وبعد ذلك أعلن في مؤتمر صحفي أنه لن يعود الى الإتحاد السوفيتي فأسقطت عنه الجنسية السوفيتية. ومنع عرض أفلامه جميعا في البلاد.

وفي عام 1986 أخرج في السويد فيلم «القربان «آخر أفلامه، وشخص الأطباء إصابته بسرطان الرئة. وسمحت السلطات لولده بالإلتحاق به في أوروبا.وتوفي تاركوفسكي في باريس في عام 1986 ودفن في مقبرة جنفييف دي بوا الخاصة بالجالية الروسية بضواحي باريس. وكتب على شاهد قبره «الرجل الذي شاهد الملاك». وفي عام 1990 أعادت السلطات السوفيتية الإعتبار إليه ومنحت الى إسمه جائزة لينين.

ويبقى تاركوفسكي بإعتباره أحد المخرجين العالميين الذي أوجد إتجاها متميزا خاصا به في الفن السينمائي. ومع تطوره الإبداعي كمخرج سينمائي صار يبتعد أكثر فأكثر عن فكرة «الفن الحر «، وبالنسبه له يعتبر الإبداع بمثابة «فعل إضطراري» يمليه واجب ثقيل وحتى مرهق. وكان المخرج يبدي إستغرابه كيف يمكن أن يشعر الفنان بالسعادة خلال عملية الإبداع. وبرأي تاركوفسكي أن الإنسان يحيا ليس من أجل أن يكون سعيدا البتة. فهناك أشياء أكثر أهمية من السعادة. والإبداع يتحول لديه الى ما يشبه الطقوس الدينية في أجواء الإعتزال لدى النساك.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top