مصلحو الساعات

مصلحو الساعات

لم يكن من قبيل المصادفة أن تنتقل رواية «مصلحو الساعات» لبول هاردينغ من رواية تتوالى إشعارات رفض النشر على مؤلفها الى رواية تحظى بجائزة بوليتزر للرواية والقصة وتبادر دار راندوم هاوس الشهيرة إلى التعاقد معه على إصدار روايتيه المقبلتين.

الواقع أننا هنا أمام عمل يرتقي إلى ذروة إبداعية شاهقة، حتى وإن كان يبدو لأول وهلة أنه في حالة خصومة مع العناصر التي يتوقع الخبراء في صناعة النشر والتوزيع العالمية أنها مرادفة للنجاح.تقوم رواية هاردينغ على التدقيق في الحياة والموت، ودقتها تأتي انعكاساً لدقة بطلها وهو يعكف على أداء وظيفته المتمثلة في إصلاح الساعات.وعلى الرغم من أننا إزاء رواية نحيلة، محدودة الصفحات، إلا أنها تحفل بالكثير من التفاصيل المندرجة في نثرها ذي الصياغة المدهشة، فهي تتناول ثلاثة أجيال من عائلة كادحة من عائلات نيو إنجلاند، وذلك فيما لا يزيد على 191 صفحة، وتتمحور حول جورج واشنطن كروسبي، فيما هو يرقد محتضراً على السرير الذي أعد له في غرفة معيشته بداره التي شيدها بيده.  وعلى الرغم من محدودية عدد صفحات الرواية، إلا أنها تعكس الامتداد الرحب لملحمة عائلية ممتدة، مع فارق محدد هو أن الروائي يجلب إليها عيني عالم موقع بالتفاصيل، ترصد العجلات التي تبقي الذكريات دوارة في أذهان الناس وعقولهم.  ووظيفة جورج كمصلح للساعات هي وظيفة دالة، فالساعة ليست إلا تجسيداً للحياة بدقائقها وثوانيها المحددة، وتحت وجه الساعة ثمة أشياء مراوغة تجري وتدور، وفيما جورج يتردد بين الحياة والموت، عندئذ فحسب يمكنه أن يدرك بوضوح معنى لحظات حياته التي مرت.  وتمحيص هاردينغ للحياة والموت، الذي نتابعه عبر الصفحات، هو أبعد ما يكون عن الاضجار، ففي ظل إرشاده الحريص ينفتح أمامنا عالم بأسره حافل بالمعاني.  ووضوح هاردينغ هو وضوح شعري، ويغدو متفجراً في بعض الأحيان، خاصة عندما يصف هوارد، والد جورج، الذي يمضي متجولاً لبيع السلع وإصلاح الساعات، والذي يعاني من نوبات من الصرع. والنثر الذي نلتقيه عبر صفحات «مصلحو الساعات» يبدو مذهلاً في رصده للنوبات وللصدمات وللجمود وللعاطفة المتجمدة، وهكذا فإن حالة صرع خطيرة تتحول إلى اندلاعة شعرية من وصف الأرض الوعرة بين الحياة والموت، ولكنها تظل مرعبة في كل الأحوال، حيث لا نملك إلا الوقوف طويلاً حيال تساؤل هاردينغ: «ما الذي يشبه الامتلاء بانقضاضة البرق؟ ما الذي يشبه الانقسام من الداخل بفعل البرق؟  إن الرواية تحفل بهذه اللحظات الوجيزة والمتوترة من الإنارة والاستبطان، وهي تبرز رعب الحياة ورهبتها معاً وتذكرنا بالدقات التي لا تعرف التواني لزمن المرء. على امتداد الرواية، يراوح السرد بين جورج وهوارد، حيث لكل منهما تجربته المميزة. وهي تبدأ بهذه العبارة شديدة الدلالة: «بدأ جورج واشنطن كروسبي يهلوس قبل ثمانية أيام من موته». وليس سراً أن جورج لن يكون له وجود مع نهاية الكتاب. وفيما هو يرقد محتضراً وحوله عائلته وأصدقاؤه، فإن هاردينغ يواصل النسج دخولاً إلى وعيه وخروجاً منه ليروي قصة ابيه هوارد، وليتحدث بإيجاز عن والد هوارد أيضاً.  وقد كان والد هوارد قساً تداعت قدراته العقلية إلى حد أبلغ معه أبناء أبرشيته بقوله إن الشيطان قد لا يكون على مثل ذلك القدر من السوء. ويتم إبلاغنا بأن هوارد لم يفكر جدياً قط في الحديث مع ابنه حول أبيه، وربما كانت هذه المسافة بين الأجيال الثلاثة هي التي تفضي بجورج إلى إحساسه الغريب بذاته العضوية، حيث نقرأ في الرواية:  «البدن، الأسنان، الأمعاء، بل الأفكار، كانت كلها بشكل أو بآخر ملائمة للظرف الإنساني، وفيما كان أبي يتراجع عن الظرف الإنساني، كذلك كانت تتراجع كل هذه الأشياء المحددة عائدة إلى زبد لا سبيل إلى معرفته، حيث ربما تعاد صياغتها لتغدو نجوماً أو بكلات أحزمة أو غباراً نجمياً أو مسامير للسكك الحديدية. ربما كانت قد أصبحت بالفعل كل هذه الأشياء، وكان تلاشي أبي راجعاً إلى أنه أدرك هذا».  إن هناك إيقاعاً للذكريات التي تبقى للناس، وفي عالم هاردينغ فإنها جميعها جزء من نظام فوضوي ولكنه عقلاني للأشياء، واهتمام جورج الكبير بالساعات يكتسب بعداً إضافياً عندما يصف هاردينغ انفصال أبيه وجده عن نفسيهما العضويتين، لأن الجسم في «مصلحو الساعات» ليس هو ما يهم، ذلك أنه ليس دائماً، وإنما ما يبقى هو الذكرى، وذلك على الرغم من أن تشديد هاردينغ على الذهن باعتباره أسمى من الجسم يطرح أسئلة عن مدى بقاء الذكرى نفسها (في كل من الشخص ونسله) حتى فيما سرده يدلف إلى الطرق التي يمكن بها تمريرها عبر الأجيال.  وعند منعطف في هذه الرواية يحاول جورج القيام بتسجيل صوته، وهو يروي قصته. وفيما هو يصغي لسرده للحقائق الباردة والصلبة في حياته، فإن كلماته تتردد طنانة ومتكلفة، فيبادر إلى إحراق الشريط لأنه يستشعر الحرج إزاء فجاجة التسجيل وعدم جدارته بالإبقاء عليه.  هذه اللحظة تشدد على الحقيقة القائلة إنه على الرغم من أن فراش جورج تحيط به

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top