جمال العتّابي
2-3
لم تحظ شخصية بالقدر الكبير من الالتباس مثل شخصية محسن الشيخ راضي، على الرغم من الجهد الكبير الذي قدّمه في كتابه ( كنت بعثياً) بجزأيه الأول والثاني، وما تضمناه من عناصر جذب وشد لدى القراء من شتى الانتماءات،
ليس على صعيد العراق فحسب بل على الصعيد الخارجي أيضاً، ولعل ذلك يعود إلى أسباب خاصة به، تعود إلى صراحته التي نوّهنا عنها أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع أشار اليها بلا تلميح أو تأويل، أما الأسباب العامة فتتعلق بطبيعة الصراعات والخصومات داخل التنظيمات السياسية التي كان الشيخ راضي أحد أقطابها، أو داخل الحركات السياسية الأخرى واحتراباتها مع قوى مهيمنة أو هامشية.
ولعل ذلك أحد أسباب توجهنا لمعالجة ما دوّنه الشيخ راضي من زاوية نقدية، عبر قراءة ارتجاعية لتجربته السياسية، خصوصاً وان الجيل الجديد يكاد لم يسمع باسمه، ولم يتعرف على دوره السياسي في تاريخنا المعاصر، أو أن صورته اندغمت بما هو سائد من التباس في الموقف، وقد لمست ذلك في العديد من الردود والتعليقات على قراءتنا المنشورة مؤخراً لمذكراته، فعندما يكشف القائد السياسي بنفسه عن أدلة تدين تجربته، وتوثق انتهاكات حقبة في تاريخه ويسمح بنشرها من دون تردد، فتلك حالة غير مألوفة تستدعي التريث وعدم التسرع في اطلاق أحكام تقليدية لتفسير هذا النهج العقلاني الجديد،
للأسف أقول أن بعض الأصدقاء طلب مني التوقف عن نشر بقية الحلقات، وآخر يدعوني للكفّ عن ملاحقة تاريخ الدم والعمالة والترويج لهذا الكتاب، وعلى حد قوله: ( القتلة وباعة الضمير وخونة الوطن لا يجب الترويج لهم)، ومع تقديري واحترامي لكل الآراء، اختلفت أو اتفقت معها،فما أريد الإشارة اليه ان تاريخ البشرية كله وتاريخ الأديان والشعوب والحضارات، زاخر بالحروب وأسباب الموت والقتل والصراعات المدمرة التي ذهب ضحيتها ملايين البشر، فإذا سلمنا بالرأي أعلاه تصبح دراسة التاريخ والبحث فيه ليست ذات جدوى في المعاهد والجامعات، ما من شك أن صفحات مضيئة ومشرقة عديدة في هذا التاريخ تستحق الدراسة والتأمل، والأمثلة في هذا الجانب لا تعدّ ولا تحصى.
أعود للقول من جديد أن الرجل(الكاتب) قدّم مكاشفات وحوارات ومراجعات ونقداً ذاتياً لتجربته الحزبية والسياسية، وما يزال الكثيرون يحتفظون في ذاكرتهم بمعلومات مهمة لم يدلوا بها، ولهم آراء وانطباعات ووجهات نظر ووثائق لو قيلت أو نشرت لكانت صادمة، لكن حين يقدّم محسن الشيخ راضي شهادته المهمة، ينبري البعض في التصدي، يحاول أن يقصيه أو يقمع رأيه، دعونا نستمع إليه، أو نقرأه بهدوء وبلا إنفعال وهو(يعترف) إن جاز لي هذا التعبير، دعوه يتكلم ويكشف المخبوء، ثم حاكموه على ماكتب، وإذا شئنا أن نكون واقعيين بخصوص الكيفية التي تؤسس لفكرة التقويم الشامل او اصدار حكم على مدى صلاحية هذه المذكرات او شرعيتها من عدمها للننطلق اولا من مبدأ جوهري يقتضي بشرط واحد سهل ومتيسرهو(قراءة المذكرات) أولاً، فالحوار والجدل الموضوعي في أبسط معانيه أن يكون المحاور ملمّاً وعارفاً بمحاور النقاش، قبل أن يدلي بدلوه.
ان من يخلص من قراءة المذكرات يتبين على نحو لا يقبل اللبسان الشيخ راضي كان من الفصاحة والوضوح وطول النفس، بحيث يستعصي عليه أن يتحدث بطريقة الهمس والتأويل، وعلام ذلك والشيخ راضي وضع كل مالديه في (السلة)على نحو متقن ومدرك.
بصراحة اقول انه تمرّد على حزبه بالمواجهة والإحتجاج والإختلاف أولاً، ثم بالإنفصال والطلاق الخلعي النهائي، ان عكس ذلك كما هو الشائع غير منصف وغير موضوعي.
ان الوعي في تاريخنا المعاصر هو غير القراءة بالطبع، يقودنا كي نجعل بصرنا وبصيرتنا أكثر بعداً ونفاذاً وعمقاً في رؤيتنا للاحداث، فهو القدرة على الفهم والتحليل، ولابد لهذه المهمة من الارتكاز على نهج علمي في الدراسة، وهنا من يريد أن يغتال الوعي ويقتل الذاكرة، ويسحق إرادة الإنسان في المراجعة ونقد الماضي، ويصرّ على أن يسكت صوته ويقمعه.
أعود مرة أخرى للقول ان الكتاب مزيج من الانطباعات والذكريات والحوارات والقراءات والنقد التاريخي، أردنا من خلاله رسم صورة للواقع السياسي الذي يمثله محسن الشيخ راضي، ولعل ما دعانا إلى متابعة المذكرات، هو حرص خاص على التمييز بين التنديد والتأييد، وبين النقد الموضوعي ، والإنحياز العاطفي، ولعل خشيتي كبيرة من ضياع الحقائق الداخلية وانطماس دورها في خضم الصراعات والخصومات والإدعاءات، وما ينجم عن ذلك من آراء متضاربة تستبد بها النوازع الذاتية والدوافع المصلحية والإنحيازات الضيقة، وتاريخ الأشخاص والحركات مهما كبر وصغر، فقد مضى ولايمكن اعادته، والكلام عنه يبقى مجرد اجتهادات وتقديرات واستنتاجات، وهي التي تبقي التاريخ مفتوحاً وقابلاً للاضافة والحذف، حسب ما تقتضيه الحالة وطبيعة القوى المهيمنة، فالتاريخ مراوغ أو ماكر أحياناً حسب هيغل.
كان يريد أن ينبه الى هذا التضاد وعدم أمكانية استمراره مع مجموعة من قادة انقلاب شباط 63كانت متسترة وغير علنية ومتخفية وراء وسطائها من أصدقاء السفارة البريطانية في بغداد، أو ربما لها اتصال مباشر مع السفارة، بيد اننا وبعد مرور وقت ليس بالطويل اكتشفنا عند نفينا الى مدريد وما تلاها من أحداث ثمة معلومات موثقة بأن عناصر من (البعثيين العفالقة) مدنية وعسكرية، كانت لهم أيادٍ خفية ممتدة نحو الطاولة تصافح البريطانيين والأمريكان(ص68-79)، في هذا الاتّجاه يتذكر وقائع حفل بنادي الطلبة في كلية الزراعة تخللته فقرات ترفيهية، كانت المفاجأة حين تقدم إلى منصة الاحتفال الذي تضمنت احدى فقراته سؤالاً عن أسوء يوم في حياة الطالب، فأجاب بصوت مسموع ( ان اسوء يوم في تاريخ حياتي هو يوم 8 شباط 63 ص 107).
بالطبع لن أزعم أن الكتاب يخلو من الآراء ووجهات النظر الشخصية، كما أن القراءة المتأنية لا تذهب بالقارىء بعيداً في اتهامي بالانحياز للشيخ راضي أو الدفاع عنه، لكنني أبحث عن الحقيقة التي تفضي الى التقييم الموضوعي والمنصف في استقصاء دوره، وأدوار الآخرين انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية،وكأن للحقيقة لسان تقول فيه: بدلاً من أن تلطخني بالوحل، دعني أخرج عارية حتى يراني الجميع.
ان منطق التعصب لـ (الحزب، الطائفة، المذهب، القومية) يفتك بالإنسان فالكل متأله يظن أنه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة وحده لا شريك له، يملك الحلولوعوامل الاصلاح، لا يغادر دائرة التقديس والتبشير واليقينية الإيمانية، بحيث لا يصبح بمقدورنا إلى اين يؤدي بنا الدرب، وإلى أي سبيل سنصل؟
لقد عالجت المذكرات هذا المعطى كمحاولة في الكشف عن الحقيقة بإرادة فعالة وجريئة، وعندما تصطدم هذه المحاولة بجدران الخيبة في أولى خطواتها، يصبح من الصعب أن تستمر بمداها المتفائل، إذا ما واجهت الصدود واللامبالاة في الأوساط السياسية والفكرية.
تعليقات الزوار
ربما هو من القلائل الذين كتبو عن تلك التجربة المريرة والتي لا يزال الوطن يبحر في عواصفها انه يمتلك شجاعة لا تتوفر عند غالبية رفاقه تحياتي له مع الفارق في التوجه السياسي معه تحياتي ومحبتي للجميع سمير فريد ابو مشاعل