TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قيروان "بول كلَيه"

قيروان "بول كلَيه"

نشر في: 9 فبراير, 2014: 09:01 م

هذا أوسع معرض حظيتُ به من الفنان السويسري "بول كلَيه" (1879 ـــــ 1940) في لندن. فلقد أعطى له غاليري "تيْت مودرن" 17 قاعة، موزعة وفق سنوات نشاطه وتطوره.
نشأ "بول كليه" في أول مراحل نشأته في مناخ موسيقي، أنضج موهبته الطبيعية الكامنة فيه: كان أبوه يدرّس الموسيقى في كلية في بيرن، وأمه مغنية. وهو يعزف آلة الكمان منذ مرحلة مبكرة في مدرسته. إن مشروع الفنان في داخله بدأ ينضج بطيئاً وهو في مرحلة الدراسة. على أنه لم يستقر على قرار في أن يكون رساماً أو موسيقياً. وبالرغم من أنه اختار أن يدرس الفن في ميونخ، ظل حتى عام 1906 يمارس عزف الكمان كوسيلة عيش. في عام 1899 كان قد التقى عازفة البيانو ليلي ستامبف، التي ستصبح زوجته عام 1906. ولكن هاجس الرسام اندلع في داخله ولم يُطفأ حتى آخر حياته، وأصبح الولع الموسيقي مُغذياً.
وكما تأثر "بول كليه" بالموسيقى في تقنيته الفنية كذلك تأثر، بنفس العمق، بالفن العربي الإسلامي. حين ذهب إلى تونس عام 1914 وهو في الرابعة والثلاثين من العمر، وقضى هناك أسبوعين في مدينة وجامع القيروان، كتب في يومياته: "الآن يتملكني اللون.. وسوف يتملكني أبداً. إنني على معرفة به.. فاللون وأنا كيان واحد." واللون هنا بفعل تأثير الصحو المتوسطي في السماء والبحر، وبفعل سطوة الشمس والحرارة، وبفعل لون الآجر القديم وزخرفه في الجدران، ونسيج السجاد الذي يفيض على الذائقة الفنية ويُغرقها، أصبح يتحلل تحت يده إلى غرائب درجاته الخفية. ما من خلاف بين نقاده على "عمق تأثير القيروان على حساسية عينيه وعلى مخيلته الفنية. القباب، المنائر والنخيل دخلت قاموسه البصري، ولكن المزججات المطعمة فيما وراء المحاريب، وكذلك محال نساجي البسط بمستطيلاتها ومثلثاتها وتصاميمها التقليدية أسهمت بصورة خاصة في الأشكال المعمارية لمائياته الشفافة."
قبل هذه المرحلة كان "كليه" كثير التجوال في أوروبا وكثير الانتفاع من مراحل الرسم فيها: عصر النهضة، وليم بليك، غويا، الرمزيين الألمان، والتعبيريين الألمان كصحبة مباشرة، وإلمام بكاندنسكي، ديلونيه، براك، بيكاسو وماتيس، ومع ذلك لم يكن قد اطمأن بعد على كفاءته وقدرته. كان كل فنه غرافيكياً، ودعابته الهجائية واضحة حتى كان أقرب إلى الفنان الكاريكاتوري. ولقد قطع سنوات عشرة لم يستطع أن يمسك بخيوط توجهه، بين عزف الفايولين والنقد الموسيقي، والتوزع بين الرسم التجريدي والآخر التشخيصي. كانت سنوات عماده باتجاه النزعة السوريالية، وتخلصه من هيمنة المستقبلية الإيطالية آنذاك، والتعبيرية الألمانية ، والتكعيبية الباريسية، إنما تشكلت بصورة ما بعد تأثير القيروان.
المعرض يفي بحق كل هذه المراحل، عبر لوحات لا تتجاوز حجمها الصغير إلا نادراً. مائية على الأغلب، ومشغولة بتقنية اللون والخط والورق. واقتصار عمله الفني على التقنية داخل الحيز الصغير هذا، وبالألوان المائية، شجعت المتذوق على تأمل تفاصيل لوحته بالغة الشفافية والرقة.
هذه التقنيات كانت تسهم في إبراز هويته كمبدع عبر اللوحة التي تعتمد التشخيص. في اللوحة التجريدية الخالصة يبدو لي مزخرفاً. لوحات هذا المعرض العديدة لا تشكل إلا نسبة يسيرة من نتاجه الإجمالي (قرابة 10000 عمل). ولو تجرأت وذكرت أن الإحساس بالتكرار بين اللوحات لم يفارقني، فإن هذا التكرار لا بد سيكون ثقيلاً لو أنني استعرضت أعماله مجتمعة. وهذا التكرار سببه أنه وليد الانشغال بالتقنية بصورة متطرفة، حتى ليصبح الموضوع ثانوياً. الموضوع الذي سيتكرر دون قصد.
لم يعش "بول كليه" طويلاً. أصيب بمرض تيبس الجلد الذي أثر على مظهر وجهه، وحمّله ألماً فوق طاقته، ولكنه ظل في فورة إنتاجه، حتى أنه أنتج 1253 عملاً في سنة 1939 وحدها، التي سبقت وفاته. ولم يترك مسند الرسم وطاولته حتى لحظة موته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram