TOP

جريدة المدى > عام > وقفات استذكارية مع الراحلين عبد الستار ناصر وشيركو بيكس

وقفات استذكارية مع الراحلين عبد الستار ناصر وشيركو بيكس

نشر في: 10 فبراير, 2014: 09:01 م

عبدالستار ناصر : تظل ديار الغربة في نظر المثقفين الملاذ الآمن ، حيث أن الغربة تتسع لأحلام الورق ، بينما تضيق بلادهم بهذه الأحلام ، و إذا كان ( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ) ، فإن كاتب السطور أمضى في الغربة ما يقارب الربع قرن ، و كانت عودتي إلى الوطن

عبدالستار ناصر : تظل ديار الغربة في نظر المثقفين الملاذ الآمن ، حيث أن الغربة تتسع لأحلام الورق ، بينما تضيق بلادهم بهذه الأحلام ، و إذا كان ( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ) ، فإن كاتب السطور أمضى في الغربة ما يقارب الربع قرن ، و كانت عودتي إلى الوطن قسرية بعدما خرجت منه قسرا" ! ، و يكاد  يكون العراق أكثـر بلدان الله التي خرج منها مبدعوها قسرا" إلى بلاد الغربة ، حتى أن رواد الشعر العراقي الحديث ، كانت نهاية حياتهم في هذه الغربة ، بدءاً" من بدر شاكر السياب و مروراً" بعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري ، و انتهاءً" بنازك الملائكة !   

وعلى هذا المنوال رحل القاص والروائي العراقي عبدالستار ناصر في كندا ، وأعقبه بيوم واحد الشاعر العراقي الكردي شيركو بيكس في السويد .
عبدالستار ناصر يعتبر من أهم كتّاب القصة والرواية في جيل الستينات ، و قد أصدر ما يقارب الخمسين كتابا" في القصة والرواية والنقد والكتابة الحرة ، و قد تُرجمت بعض أعماله إلى الإنكليزية والألمانية والروسية ، ومن جراء قصته القصيرة ( سيدنا الخليفة ) أمضى عاما" كاملا" في ( ضيافة ) سجون النظام العراقي السابق ، كما أُعدم ابنه و شقيقه ، و قد اضطر للخروج من العراق في عام 1999 إلى الأردن ، إلى أن حصل على ( اللجوء الإنساني ) في كندا التي كانت مطافه الأخير و نهاية حياته الضاجّة ، عبر قصصه المثيرة و الجريئة ، و كتاباته التي توزعت على المقالة الأدبية و العاطفية و الذاتية ، التي عدها النقاد من أجمل ما كتب !   
و خلال إقامته في الأردن دهمه المرض ، حتى أنه في إحدى المرات نجا من الموت بأعجوبة ، عندما تعرض إلى ( جلطة دماغية ) ، و قد عاش مع المرض في هاجس الموت ،إذ عندما يلتقي هذا الصديق أو ذاك ، يقول بأسى : إنه آخر لقاء بيني وبينك ! ، بل إنه راح في تكرار هذه المقولة في حواراته وأحاديثه الصحفية ، و ربما هاجس الموت هذا ، جعله يحضّ عليه الموت ، حتى نال منه أخيراً !
كانت وصيته أن يُدفن حيث يقيم ، كان قرارا" مسبقا" من عبدالستار ناصر الذي لم يخف حالة القطيعة بينه و بين الوطن ، إذ قال في إحدى أوراقه المقروءة في إحدى المناسبات مؤكدا" :
هذه الفاجعة و مثيلاتها شحنتني برغبة قوية في المغادرة ، و سهّلت قرار القطيعة النهائي مع العراق .

2
صحيح أنّ الحنين ما زال مستقراً بقوّة في داخلي ، أحنّ إلى بغداد على وجه الخصوص ، حيث طفولتي و صباي و شبابي ، ذكريات تعيدني إلى سوق السراي ، و شارع المتنبي ، و إلى أصدقائي و أخواتي و بناتهن و أولادهن ، أتألم لأنّهم ما زالوا يعيشون في جحيم الموت و السيارات المفخخة و صهاريج الرعب .
كتب سيرته الذاتية في روايتين : الأولى ( حياتي في قفص ) ، و الأخرى ( على فراش الموز ) ، و في هذا الجانب قال في أحد الحوارات التي أجريت معه ، ( أنا أخطر قاص عربي ) .
و من الأمور التي جرت بيني و بين عبدالستار ناصر التي تستحق الوقفة و الإشارة إليها في هذه الكتابة ، هو أني أجريت معه حوارا" في الربع الأخير من الثمانينات في بغداد لصحيفة  حكومية ، و في معرض إجابته على أحد  أسئلتي قال ، ( إن أجمل أوقاتي هي التي أقضيها على الساحل اللازوردي في معانقة زجاجات البيرة والحسناوات ) ، و لكن هذا الحوار لم يُنشر ، لأن القائمين على الصحيفة فطنوا إلى أن هذه الإجابة تشير إلى ( عدي صدام حسين ) ، و عندما راجع عبدالستار ناصر الصحيفة المذكورة بغرض الاستفسار ، لم يجد إجابة حاسمة من المسؤولين على الجريدة ، بل أن الحوار المكتوب اختفى من الوجود !   
بعد أيام من مراجعته للجريدة التقاني عبدالستار ناصر في اتحاد الأدباء و سألني ، أتعرف لماذا لم ينشروا الحوار ؟ ، فأجبته بسبب ( اللازوردي ) ، فضحك و قال ( أنت ذكي ) ، و منذ ذلك الوقت لم ألتق الراحل ، لكوني هربت إلى سوريا ، و من سوء حظي أن عبدالستار ناصر زار سوريا زيارة قصيرة قادما" إليها من الأردن ، بيد إني لم أعلم بهذه الزيارة ، خصوصا" و أني كنت منقطعا" عن الوسط الثقافي العراقي المتواجد في سوريا في حينه .
كان عبدالستار ناصر وسيما" و له الكثير من المعجبات اللواتي ينجذبن لقصصه ذات السرد العاطفي و الرومانسي ، كما أن حضوره اللافت في الفعاليات الثقافية ، كان مدعاة للكثير من الحسد والغيرة من قبل بعض زملائه ، فهذا البعض انزوى إبداعيا" ، بينما قطار عبدالستار ناصر انطلق مسرعا" في سكة المنجز القصصي والروائي .
شيركو بيكس : بعد يوم من وفاة القاص والروائي عبدالستار ناصر و تحديدا" في 4 / 8 / 2.13 ، توفي في السويد الشاعر الكردي العراقي الكبير شيركو بيكس ، الذي يُعتبر من أكبر المجددين في الشعر الكردي المعاصر ، هذا الشاعر الشهير التقيت به في بلدة ( شقلاوة ) التابعة لمحافظة أربيل في العام 1991 ، عندما كنت أروم الهرب إلى سوريا عبر المنطقة الشمالية ( كردستان العراق ) التي كانت في حينه خارج نطاق سيطرة.

3
النظام العراقي السابق ، و قد أخبرني أن المثقفين الكرد العراقيين المقيمين في السويد يطلعون على كتاباتي في إحدى الصحف المحلية العراقية التي تصلهم على الدوام ، وهذه الجريدة كانت تضطلع بالشأن الكردي ، و من خلال صفحة ( ثقافة كردية ) رحت أتناول الثقافة الكردية و منجزاتها ، و أستغل في نفس الوقت عبرها تمرير أفكاري التي ليس لها مجال في الصحف الحكومية الأخرى .
في حينه كنت قد  بلغت صيتا" واسعا" في المنطقة الكردية ، و لا سيما بين السياسيين و المثقفين الكرد الذين عدوني ( مستكردا" ) ، و هو أمر استفدت منه عندما لجأت إلى المنطقة الكردية التي عبرت من خلالها إلى سوريا ، حيث حظيت بحفاوة متميزة من قبل السياسيين و المثقفين الكرد ، إلى حد عبوري إلى الأراضي السورية ، و في هذا الجانب و خلال مكوثي في المنطقة الكردية في شمال العراق ، كتبت دراسة مطولة عن الأدب الكردي ، حيث نُشرت في صحيفة كردية كانت تصدر في إقليم كردستان آنذاك .
شيركو بيكس ، لا يقتصر إبداع شعره على النطاق الكردي و حسب ، بل عدّه بعض النقاد العرب ، بأنه شاعر عالمي بكل المقاييس ، و أن تجربته هي تجربة إنسانية رائعة عميقة المغزى  ، وتوازي النماذج الشعرية العظيمة من رامبو و إليوت وصلاح عبد الصبور ، تلك النماذج التي قدمت الشعر بما يتجاوز المحلية إلى العالمية بما تطرحه  من تجربة متفردة ، فهو شاعر أثر على الكثير من الأجيال الجديدة من خلال لغته المكثفة  باعتماده على عناصر الأساطير الكثيرة  ، و لغة تحمل الكثير من المميزات الفكرية الجديدة خاصة في ما يتعلق بقصيدة النثر الموجودة الآن في الوطن العربي .
كان عزاء الشاعر فائق بيكس خلال فترة مرضه و قبل رحيله بشهرين ، هو قيام نائب رئيس حكومة كردستان العراق عماد أحمد ، بالتوجه إلى السويد و زيارته وتفقده ، و تقديم الدعم المعنوي و المادي ، و كذلك التكفل بتسديد كل أكلاف العلاج المطلوب ، مع التذكير بأن شيركو بيكس كان وزيرا" للثقافة في حكومة كردستان العراق قبل أن يترك هذا المنصب ، عندما اختار الشعر على الوزارة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram