ليس من سبيل واضح من الناحية العلمية والعملية- بخصوص طرائق تعاملنا مع الأطفال عبر مهارات توصيل ما نريد إيصاله لهم من قيم ومعلومات ومعارف تتناسب ونسب أعمارهم-غير الارتهان والتباهي باللعب الحاني والحاذق في تمرير كل تلك الغايات التربوية الخالصة والنبيلة،
ليس من سبيل واضح من الناحية العلمية والعملية- بخصوص طرائق تعاملنا مع الأطفال عبر مهارات توصيل ما نريد إيصاله لهم من قيم ومعلومات ومعارف تتناسب ونسب أعمارهم-غير الارتهان والتباهي باللعب الحاني والحاذق في تمرير كل تلك الغايات التربوية الخالصة والنبيلة،الرامية إلى خلق شخصية الطفل وتثبيت دعائمها لكي تتعامل مع تعقيدات ما سيحمله المستقبل في تكوين الشخصية الإنسانية على مدى مراحل تطوراتها الحتمية في صياغة نهائية لقيمة الفرد،وطبيعة تفردات الواحد عن الآخر فيما مجال ما يعرف بـ(علم نفس الفوارق الفردية) أوعلم(النفس الفارقي)أي بمعنى آخر(فردنة السلوك).
لن نأتي بشيء جديد،إن شئنا التذكير- مجددا- بأهمية مرحلة الطفولة في حياة الإنسان،كونها حجر الزاوية الصلد في معمار بناء شخصيته العامة،وعليها(أي مرحلة الطفولة) تترتب الكثير من الأمور والمتعلقات في مراسيم ترسيم حدود الذات الفردية،بل تتعدى-أصلا- نحو بناء المجتمع الذي يحيا به الفرد بأسره.
من هنا يتلقفنا الانتباه الضروري نحو ممتلكات التأمل ومنصات الإعلان في تقييم الأعمال الفنية الخاصة بأنقى مخلوقات الله،متمثلة بالمسرح والسينما وبقية طواقم تلك الفنون،اعترافا بقيمة العمل الذي أقدم عليه المخرج الدؤوب(حسين علي صالح)عبر مسرحية استظلت بعنوان(نشيط والعناصر الأربعة)للمؤلف والمخرج المعروف(مقداد مسلم) عبرعرض شيق تم عرضه ليومين صباح(الثاني والثالث من شباط الجاري هذا العام) على خشبة المسرح الوطني، بحضور طيب لعدد من طلبة المدارس ورياض الأطفال،فضلا عن المهتمين والمتابعين لهذا الجانب المشرق والصعب معا في مجال لا يراهن على الخوض فيه إلا من تمتع بروح تتسع لوهج احتضان عالم شديد النقاء والبراءة،خال من أية نزعة أو غرض لا يقيم للجمال والحياة الحقة وزنا يناسب أو يوازي سحر عوالم الطفولة الرحبة وشساعة آفاقها المفتوحة-دوما- على مصراعيها،وإلا ماالذي دعا روائي كبير بحجم(تولستوي)لكي يعلن أمام الملأ عن عمق فخره وغبطة زهوه بأن ما كتبه من أعمال للأطفال،كان الأعز عليه من كتابة روايته الرائعة(الحرب والسلام) و(أنا كارنينيا) وغيرها من روايات وقصص للكبار.
تبنى المخرج(حسين علي صالح) فكرة المؤلف(مقداد مسلم)ليؤلف(هو)أنساق أنظمته الخاصة والمتمرسة في مجال إخراجه لعدد كبير من الأعمال الموجهة للأطفال من تلك التي وسمت تجربته بميول واتجاهات هادفة ومفكرة عبر امتلاكه روحا وثابة وعقلا جماليا قادرا على تعميق صلة وعيه وشجاعة نبل أفكاره وهي تسعى بثبات و رسوخ نحو هذا النهج التربوي والنفسي فضلا عن كميات ما جاء يحمله نص مسرحية(نشيط والعناصرالأربعة)من معلومات(عناصر الحياة الأربعة من ماء/نار/تراب-أديم/وريح) استطاعت أن تجسد لأفكار وقيم وحكم ونصائح غير مباشرة احترزت لكي تحترم وتقيم عقل الطفل تبعا لصلة وصلاحية تقديم المعلومة والفكرة للمشاهد من هذا النوع دون أدنى تفريط بروح المرح والبهجة التي صنعها المخرج اليقظ لمتممات جوهر عمله المتميز هذا،عبر تفهماته لمعنى قيمة اللعب (السايكو- دراما) الذكي والحاذق في تمرير كل هذه الأهداف الراقية لتعليم الطفل مفردات وجوده فوق سطح كوكب الأرض،مع واجب فرض ضخ مجموعة من القيم الإنسانية النبيلة تضادد وتصدي لقيم الرذيلة من جشع وطمع وكذب ونفاق،مستعينا بفريق عمل برع بتحويل هذا النص المكتوب على الورق من خلال طراوة الحركة وسلامة اللغة وحيوية مرح الممثلين الذين أجازوا لأنفسهم مهابة التعامل من كائنات يقظة،غاية في الذكاء والانتباه لكي يوصلوا مآثر حضورهم المرن والشقي طوال عرض المسرحية على مدار ساعة ونصف تقريبا ،دون انقطاع أو خفوت جراء المشاهد الممتعة والديكور الجميل-المبهر والـ(سينوغرافيا) المدهشة للفنان البارع(سهيل البياتي) مع توافقات عرض للممثلين أكفاء تدرعوا بمهارات ما كانوا يمتلكون من براعة أداء وحسن إتقان لأدوارهم تلك التي نجح بتوزيعها المخرج على ( قحطان زغير....بدور- بديع/صادق عباس... بدور- الثري ومدير المستشفى/ طه المشهداني.... بدور- نشيط/سولاف.... بدور-نيران/شيماءجعفر....بدور-أمواج/علاء قحطان....بدور-نسيم/وعبدالنبي جابر.... بدور-أديم)حين راحوا يتبارون بوهج أرواح طيعة،محلقة في سماوات ذلك العرض الذي يعد إضافة نوعية-واعية في مجال مسرح الطفل في العراق،عموما واستجابة إبداعية حافلة بوجودها المتميز في سجل منجزات الفنان(حسين علي صالح) الإخراجية وتطلعاته في رفد هذا المجال الصعب والمعقد جراء معمعة التفكير والتذكير بتحديد المرحلة العمرية التي يجب أن تناسب ما يجب أن يقدم للأطفال،وتلك في ظني معضلة يصعب معالجتها وتذليلها بسبب قلة الكتاب المتخصصين لهذا الجانب،فضلا عن توالد أسباب فنية وتقنيات أخرى تحاذي ما يتردد في الأوساط القريبة من مجالنا المسرحي حول واقع مسرح الطفل وطبيعة التفكير الجدي للنهوض به بما يتناسب وحجم الحاجة إليه هدفا ومسعى لغاية مثلى في بناء أركان الحياة التي نريد ونطمح -مجددا-،ولعل ما جاء يحفز عندي هذه الخواطر الشاقة والدواخل المضنية على واحد مثلي كان قد بدأ حياته في الكتابة للأطفال منذ منتصف سبعينات القرن الماضي،هي روح الوثوب والانشداد الحقيقي الذي تمثل تأليفا وإخراجا وتمثيلا رائعا في روح ومثابات مسرحية(نشيط والعناصر الأربعة)التي أهابها تضاهي-بوثوق- بل تفوق أفضل وأهم الأعمال المسرحية التي شاءت لنا الظروف والمشاركة في المهرجانات العربية مشاهدتها سنوات طويلة،لما حملته من وضوح رؤية،ونظافة أفكار،وبراعة يقظة في توصيل مقاصد ما جاءت تحمل هذه المسرحية من معلومات وتنبهات تسللت بخفة ورشاقة ودراية نادرة لمعنى التعامل مع عوالم الطفل،بفضل عناية وجدية اختيار كادر حريص ومتفان في زخ مشاعر مرحة وصريحة زهت بتخصيب فكرة النص على خشبة المسرح لتفرض وجودا مبهجا... مبهرا... بسيطا... وعميقا ... وساحرا في ذات لحظات توهجه منذ شروع خط البداية حتى إظلام الخشبة نهاية العرض عبر متواليات نجاح مدهش تماسك بسيل حرارة تصفيق متواصل وتشجيع حميمي معلن من لدن جمهور الحضور،حين تعمد بنبع عمل نظيف مشرق وشفاف، صفف تراتيب عناصره ووحداته مخرج حصيف وواع لدوره،فيما جسده ببراعة رهط من ممثلين مهره وأنقياء تكاشفت أرواحهم وتسامقت في حضرة محراب الطفولة،التي عادة ما نحنّ لها ونتوق بشوق عارم وحسرات عميقة كتلك التي عبر عنها الشاعر الإسباني القديم (خمنيث) قائلا بنصح ولوعة؛(أنا صحوت من الطفولة .... لا تصحو أنت أبدا).